|
في فلسفة الدولة المدنية - الجزء الأول: من القانون الى الحرية
حسين خزام
الحوار المتمدن-العدد: 3471 - 2011 / 8 / 29 - 23:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في فلسفة الدولة المدنية *
الجزء الأول: من القانون الى الحرية
حسين خزام**
ما هو القانون ، أو الشكل العام للقانون، أو قانون القانون ؟ أي ما هو القانون الذي يتوجبُ على أي قانونٍ أن يستوفيه ليكون قانوناً ؟
لنقل في البداية أن القانون الذي نبحث عنه ، بعيد عن العادات و التقاليد التي تأخذ أحياناً " شكلَ القانون"، لمعرفتنا بعدم كونيتها اي انها قد تصلحُ لثقافةٍ أو شعبٍ أو شخصٍ ما لكنها لا تَصلُحُ لشعبٍ و ثقافةٍ أخرى، لكن لماذا ننشد القانون العام و الكونيّ و المجرد (مفهوم القانون) ؟ ببساطة لأن الـمُكَوِن الأساسي الذي سيتعاطى معه القانون هو "الإنسان" بشكل مستقل عن كل ثقافة و لغة و عادات و تقاليد ... اي الإنسان المجرد بما هو "انسان فقط".
هذا القانون لا يجب ان يكون قانون الغني أو القوي أو صاحب الملكية ، كما أنه لا يجب ان يكون قانون الضعيف أو الفقير أو العبد ، بل "القانون" الذي على الجميع ان يطيعه بغض النظر عن وضعه الأنتروبولوجي (إقتصادي، إجتماعي، إثني، عرقي، ديني، طائفي، جنسي، لغوي ..... الخ)، و السيكولوجي.
نحن نبحث اذاً عن القانون ، الذي على كل "قانون" ان يستوفيه ليكون "قانوناً" و يستحق هذا الإسم (فالأسماء قوانين الأشياء).
حتى يستحقَ شيءٌ ما اسمَ "قانون"، عليه ان يملك "الشكل العام" للقانون، فحتى تستحق الطاولة اسمَها كطاولة، عليها أن تملك "شكل" الطاولة (كل طاولة)، عليها ان تستوفي و تحقق "ذلك الشيء الذي يعين مفهوم الطاولة" ، هذا "الشيء الذي يعين مفهوم الطاولة" هو القانون الذي على "كُلّ" طاولة معينة أن تحقِقَهُ لتكون "طاولة". الآن، فإن "ذلك الشيء الذي يعيين مفهوم القانون" و الذي على "كُلّ" قانون ان يحققه ليكون قانوناً، هو "شكل القانون". "شكل القانون" هو قانون كُلّ قانون، أي "قانون القوانين".
على ماذا يجبرنا "شكل القانون" ، و عن ماذا يمنعنا ؟
ببساطة، لا يجبرنا "شكل القانون" على أي شيءٍ "معين".
الشيء الوحيد الذي يجب تحققه، هو عدم التناقض مع "ذلك الشيء الذي يعيّن مفهوم القانون" أي مع "الشكل" العام للقانون، فالشكل العام للقانون لا علاقة له بالـ"مضمون/محتوى".
إذا، ما هو "الشكل العام" للقانون؟
الشكل العام للقانون، يفرض أولا ان كُلّ قانون عليه أن "يستطيع أن يـُجبِر" الجميع بدون استثناء و بشكل متساوي.
"شكل القانون" لا يتكلم عن الطريقة أو المضمون الذي يجب علينا ان نتصرف وفقه، بل فقط أننا و مهما كان سلوكنا ، فإنه لا يجب ان يتعارض مع ان يقومَ به "أيّ أحَدٍ" آخر. أي أن لا يتعارض مع "الشكل العام" لأي قانون، أي ان لا يخالف"قانون كُلّ قانون".
الشيء الوحيد الذي يقوله "الشكل العام" للقانون، هو أن اي تصرف أو سلوك عليه ان لا يكون مسموحاً كإستثناء (و هو بالتحديد نقيض كُلّ قانون)، فالشكل العام للقانون لا يحدد لنا كيف علينا أن نتصرف أو متى ، و لا يعارض ان نتصرف كما نشاء ، على قاعدة القبول بأن "أيّ أحَد" آخر يستطيع ان يفعل نفس الشيء و يسلك نفس السلوك. عكس هذه الفرضية: أي أن نريد التصرف و السلوك بطريقة ما، بحيث اننا لن نقبل أن يقوم "أي احد" آخر بنفس الشيء، هو ما يمنعه "الشكل العام" للقانون. ففقط يمنع أن نريد القيام بأعمال ، و ان نرى هذا الأعمال استثنائية و غير قابلة لتكون جزء من سلوك أو تصرف "أي احد" آخر.
لنضرب مثال "حرق شخص ما بسبب لونه"، هذا السلوك لا يجب ان يكون قانوناً ، بل استثناء، فهو لا يحقق "الشكل العام" للقانون:
- لأنك و ان قمت به ، فإنك لن تريد أن يكون قانونا (1) (مما يدخلك انت شخصيا كعنصر في عملية حرق ما، ان أرادها اي شخص آخر).
- بالتالي ، فهو لا يتعامل مع الجميع بشكل متساوي
لا أحد يريد أن يكون للجميع الحق في حرق اي أحد (بالإضافة اليه شخصيا)، اي ان يتحول الى قانون يطبق عليه أيضا. حتى القاتل الأكثر دموية لن يريد أن يتحول ما يفعله أي "قتل الضحية" الى قانون، بل يريد ان يستمر كإستثناء، الإستثناء الذي يكون فيه هو القاتل و ليس الضحية.
كل استثناء يعود بالنفع على شخص واحد (أو فئة واحدة)، يتعارض مع "الشكل العام" للقانون، و بالتالي فهو غير مسموح.
نصيغ “الشكل العام للقانون” كالتالي: أنا أستطيع أن أريد أن يملك "أي احد" الحق في فعل نفس الشيء ان أراد ، كما أنني أستطيع أن اريد ان يتحول ما افعله الى قانون حيث أكون أنا كغيري و ليس كاستثناء.
قد يكون من المفيد للتوضيح، ذكر مثال "الأغلبيات المسلمة" في بلداننا العربية التي تريد ان تفرض اعرافها كقوانين سارية المفعول على كل "انسان"، التناقض يظهر عندما يضطر احدهم للعيش في الخارج و يعاني من ما يسميه اضطهاد يُمَارَس عليه "كأقلية مختلفة". هنا لدينا استثناءان و شكل عام للقانون، الإستثناء الأول أن الأغلبية في بلدها تسن أعرافها على انها القوانين فتعامل نفسها كإستثناء لأنها عندما تعيش في الخارج و تصبح اقلية فإنها لن تقبل بنفس القانون ان يطبق عليها(أي اعراف ثقافة أخرى متحولة الى قوانين).
الإستثناء الثاني يأتي من الأقلية نفسها، عندما تسن أعرافها الخاصة كقوانين بحجة حماية نفسها من الأغلبية ، فتكون قد وقعت في نفس الشرك السابق، أي انها قوننت الإستثناء الذي لن تقبل به بأي حال من الأحوال لو أتى من اقلية أخرى أو من الأغلبية.... أما الشكل العام للقانون، فهو أن تريد الأغلبية و الأقلية أيضا (الجميع) قانونا ، إن طبق عليها نفسها لكان مقبولا كقانون.
ماهو عكس الإستثناء ؟!
من الجلي، أن عكس الإستثناء الذي نقوم به مع ذواتنا (الفردية كانت أو الجَمْعـِيّة كفئات أو شرائح أو اديان أو قوميات ... الخ)، هو أن نعامل أنفسنا كـ "أي أحد" آخر، أعامل نفسي كـ"أي احد آخر"، أي أن أريد أن تطبَق عليّ نفس القوانين التي أريد، أي ببساطة ان أفعل ما أريد أن أراه مطبقا في كل العالم، أن أفعل حقيقة ما أريد كما لو كنت "أي أحد آخر". أن أفعل ما أريد ليس انطلاقا من الشروط الخاصة التي تحددني، و لا انطلاقا من الرغبات التي تدفعني، بل انطلاقا من مكان اكثر تجريدا و شمولا، هو مكان "اي احد"، مكان "الجميع"، مكان الـ "لا أحد"(2).
إفعل ما تشاء بحيث أن ما تفعله يجب(3) ان يكون مستقل عن ، ما تكونه انت بشكل محدد:
- ما تكونه انت كإنتماء اجتماعي، أو ديني، أو طبقي، أو لغوي، أو اثني ، أو ... الخ (انتروبولوجي)
- ما تكونه انت كبنية نفسية ، و مجموعة رغبات و دوافع و .. الخ (سيكولوجي)
فلا يهم كونك، ابيض أو أسود، شرقي أو غربي، مؤمن أم ملحد، بخيل أو غني، إمرأة أو رجل، فارسي أو أثيني، إنفصامي أو "سوي"، قاتل أو ضحية ... الخ
هذا الإستقلال عن هذه "المحددات"، هو بكلمة واحدة: الحرية. أن تعامل نفسك كـ"أي أحد" هو ان تكون "حُرّ اً".
و منه ، فاذا كان شكل القانون العام، هو وجوب معاملتنا لأنفسنا كـ"أي أحد آخر"، فإن اي قانون ليكون قانونا، عليه ان يجبرنا أن نكون أحرارا.
الشكل العام للقانون هو "قواعد الحرية". و مجموعة ما يسمى "الدراسات القانونية" و "القضاء"، مهمتها ان تشرح لنا قواعد الحرية هذه.
كل هذا لن يمنع، "اشباه القوانين"(4) من الظهور على المسرح، لكن "القضاء" عندها هو من سيقرر و يحكم ، كونه شرح لقواعد الحرية انطلاقا من مكان "الأيّ أحد = الجميع = اللاأحد".
يكتسب القضاء "مشروعيته" من "الدستور" كونه مكان تجميع الحقوق الأساسية للجميع، التي و في كل مرة و مهما اختلفت النصوص ، فإنها يجب أن تعتمد مرجعية "الإعلان العالمي (الكوني) لحقوق الإنسان و المواطن (5) " : (هدف القوانين، هو ضمان شروط أن تكون أفعال أي شخص متوافقة مع أفعال اي شخص آخر، انطلاقا من المبدأ القائل بـأن حقوق الجميع يجب ان تكون من حيث المبدأ متوافقة في ما بينها).
نقرأ في المادة الثانية للإعلان مايلي:
"لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود"
كل ما يضعه الإعلان بعد "بدون تمييز" ، هو ما يحدد جوهر دولة المواطنة "الحقيقية"، اي انك بالدرجة الأولى كينونة تتمتع بجملة من الحقوق "بشكل مستقل عن" كينونتك الثانية التاريخية النفسية الإجتماعية العرقية الدينية الطبقية اللغوية الإثنية أي الأنتروبولوجية، الفرق دقيق، فدولة المواطنة لا تعريك من كينونتك الأنتروبولوجية، بل هي فقط تعاملك "بشكل مستقل" عنها ، تعاملك ككينونة مجردة مطلقة كاملة تامة ناجزة ، تعاملك "كعقل مطلق".
_____________________________________________
(*) سلسلة مسودات ترجمتي لكتاب "دروس في المواطنة: الديموقراطية – الرأسمالية– دولة القانون " مع ملاحظاتي الشخصية ،الكتاب للبروفيسور كارلوس ليريا ، من قسم الأنتروبولوجيا الفلسفية ، كلية الفلسفة ، جامعة كومبلوتينسي في مدريد.
(1)طبعا من الممكن الإعتراض، بأنك قد تريد ان تسنه كقانون، و هذا جائز، لكن ما هذا القانون الذي تسنه في هذه الحالة ؟ انه قانون استثنائي، لأن القانون كما تكلمنا عنه ، عليه ان يحقق "شكل" كل قانون، حتى يصبح قانونا. عداك عن أنك في ثقافة ما ، أو دين معين، أو لغة محددة قد تريد سن و تشريع "قوانين" تصلح فقط في المجال الخاص، لكنها عند ذلك لن تكون قوانين بل عادات و تقاليد و أعراف ... الخ. القانون عليه ان يكون ذو بعد "كوني" و "عالمي"، مجاله هو "بني البشر" ، بكلمة واحدة "الإنسان"، و ليس "الإنسان الأبيض"أو "الإنسان المسلم" أو ... الخ.
(2)سيطلق التنوير على هذا المكان اسم : العقل
(3) الشكل العام للقانون
(4) ان عدنا للطاولة، فمن الممكن أن أرى "طاولة"، و عندما اشتريها و ابدأ استعمالها تتحطم احدى ارجلها، لأكتشف انها كانت "شبه طاولة" لأنها حققت "شبه قانون الطاولة".
(5) المواطن هو الإبن الشرعي للأنوار و الثورة الفرنسية، و المواطن المقصود لا يحيل الى وطن محدد، بل الى "الوطن الأكبر"، أي "الجمهورية الإنسانية" حيث يتساوى الإنسان مع المواطن.
#حسين_خزام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دراجون يرتدون زي -سانتا كلوز- يجوبون شوارع الأرجنتين.. لماذا
...
-
فيديو: افتتاح مراكز لتسوية وضع عناصر -جيش الأسد- في دمشق
-
الدفاع الروسية: تحرير بلدتين في خاركوف ودونيتسك والقضاء على
...
-
صحة غزة: الجيش الإسرائيلي ارتكب 4 مجازر جديدة بالقطاع
-
تقرير المكتب السياسي أمام الدورة الخامسة للجنة المركزية
-
رغم الخسارة التاريخية أمام أتلتيكو.. فليك راضِِ عن أداء برشل
...
-
خامنئي: أمريكا والكيان الصهيوني يتوهمان أنهما انتصرا في سوري
...
-
يسرائيل كاتس: لن نسمح لـ-حزب الله- بالعودة إلى قرى جنوب لبنا
...
-
الشرع: لبنان عمق استراتيجي وخاصرة لسوريا ونأمل ببناء علاقة ا
...
-
-حزب الله- يكشف عن -المعادلة الوحيدة- التي ستحمي لبنان
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|