أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بعنو - الممسوس














المزيد.....

الممسوس


عبدالله بعنو

الحوار المتمدن-العدد: 3470 - 2011 / 8 / 28 - 23:54
المحور: الادب والفن
    


28 غشت 2011
الممسوس

ولجت "حمام السلامة" و هو أقدم حمام في حينا. حييت المكلف، فرد تحيتي مع أن النوم يغالبه. سلمته ثيابي، و سلمني إناءي البلاستيك بطريقة ميكانيكية وهو نائم. كان العديد ممن اغتسلوا منهمكين في ارتداء ثيابهم يستعدون لمغادرة المكان؛ و كان آخرون يصبون الماء على أجسادهم للمرة الأخيرة و يفركون أقدامهم لما لحقها من الإهمال خلال فترة الاغتسال الرئيسية في الداخل.
بادرت بالسلام على عتبة الغرفة الأولى, و فعلت نفس الشيء على عتبتي الغرفة الثانية و الثالثة. لم ألاحظ أني الوحيد في الداخل إلا وأنا أمام الحفرة التي يوجد بها الماء الساخن. آنذاك تنبهت إلى أن سلامي لم يرد.
"حمام السلامة" - مثل معظم حمامات مدينتي - عبارة عن منزل قديم لم يعد صالحا للسكن؛ خاصة بعد التطور الذي لحق تصميم المنازل في المدينة مؤخرا. فالناس باتوا غير مستعدين للعيش في فضاءات لا تصلها الشمس؛ وقد جاء في أمثالنا - كما في أمثال أقوام أخرى- أن"منزلا تدخله الشمس , لا يدخله الطبيب"؛ و إذا قبلوا السكن في تلك الدور المظلمة في الماضي؛ فلأن ظروفهم كانت لا تسمح بغير ذلك!
في البدء كانت الشمس. هكذا نفكر نحن أهل هذه المدينة. فالشمس هي الأصل؛ وإذا قدر لبشرة بعضنا أن تبيض أو تسمر, فذلك يرجع إلى أسباب يطول شرحها, وربما احتاج الأمر إلى علماء متخصصين في الكشف عن الظروف المسؤولة عن تغيير لون البشر! هل انخفضت درجة الحرارة؛ ‍‍‍‍‍ أم أننا اخترنا المنازل عوض الخيام؟ هل هو الترحال؛ أم الاختلاط بأعراق أتت من بعيد؟
تغير اللون؛ لكن الأحاسيس و المعتقدات قلما تغيرت؛ و قد انتقلت مع الناس إلى الأماكن التي رحلوا إليها. وحملنا نحن أيضا نصيبنا إلى هذه المدينة. ﻓ"حمام السلامة" يثير فينا الخوف ليس فقط لأنه مكان قديم و مظلم بل أيضا لأنه كان فارغا لسنوات قبل أن يتحول إلى مرفق عمومي. ونظن - نحن - أن من يلج المكان لوحده سيزعج ساكنيه؛ و قد يتعرض لأذى. هؤلاء طبعا ليسوا من بني البشر.
لأنني وحدي, فكرت في مغادرة المكان. كنت خائفا.. لكن الرغبة في أن أنظف نفسي كانت أقوى. فأعددت نفسي لمواجهة مصيري. من يدري؟ ربما غادر ساكنوا "حمام السلامة" المكان بعد أن توالت عليه أجيال قصدته لتضع أوساخها و تتخلص من عرق أيام, بل أسابيع حافلة بالكدح وراء الخبز. من يصدق أن ساكني المكان ما زالوا أشرارا سيحرمونني -أنا الوحيد - من إنهاء مهمتي كي أنسحب آمنا نظيفا.
تناولت الإناء الأسود الصغير لأملأ الإناءين الكبيرين الذين تسلمتهما من المكلف. ما إن انحنيت على الحفرة التي يوجد بها الماء الساخن, حتى سمعت صوتا متحشرجا يأتيني من أسفل. ذعرت. أردت أن أصرخ, فتذكرت أن المسؤول نائم! تحولت الحفرة التي أشفت العديد من أمراض البرد جحيما. صعد جني لا يشبه أشباح الإنجليز في شيء! أخذ مكانه أمامي بالضبط. كنت أرتعش. اختلست نظرة إلى وجهه, فأحسست بالامتعاض. ثم تذكرت أنه مخلوق مثلي, وليس لي أن أسخر من خلق الله!
كان لونه رمادي يميل إلى السواد؛ أما وجهه فبه تجاعيد غريبة. في مكان الأنف وضعت له عين ثالثة. و بقدر ماهو قصير, فهو قوي؛ وله عضلات لا يتمتع بها بنو البشر. كان الصوت يخرج من فمه كاللهيب, ونبراته تنبىء بأنه لا يمزح ولا يقبل المزايدة. ذكرتني هيئته بشخص لقبه أهل مدينتي ﺒ"ديابلو"؛ ذلك العجوز الذي كثيرا ما عانى من مضايقتنا ونحن صغارا. اشتهر "ديابلو"في حينا بعشق الاغتسال في الحمامات القديمة جدا, ولم يكن يحل له الاغتسال إلا في الغرفة الثالثة. و عرف عنه أيضا أنه يتقن اللغة الإنجليزية مع أنه لم يلتحق بمدرسة أبدا! وقد شاع بيننا أن جنيا كافرا قد "مسه", و يمكن أن يكون أمريكيا أيضا.
قال الجني أنه مبعوث خاص, وأنه شعر بالامتنان لأننا ما زلنا نلتزم ببنود الميثاق القديم ( أشار في هذا الصدد إلى سلامي على العتبات الثلاثة)؛ إلا أنه, و نظرا للتطورات الراهنة التي يشهدها عالم الإنس و عالمهم - عالم الجن - قد بات من الواجب علينا نحن العرب أن نعوض عبارة "السلام عليكم "و التي يتضمنها البند الأول من الميثاق بعبارة "شلمشل مشلم.. شلمشل مشلم "! لم يكن هناك مجال للمناقشة, فهو على ما يبدو متتبع من نوع خاص للشأن العربي! :" شلمشل مشلم.. شلمشل مشلم."؛ قلتها بصعوبة و أنا أرفع رأسي و يدي ثلاث مرات عله يتركني أنظف نفسي, ولم أهتم أبدا بما يمكن أن تعنيه هذه العبارة ! ما أثار انتباهي هو تغيير لغة التحية من لغتنا إلى لغتهم، مما جعلني أتلعثم و أنا أعيدها. لما لا حظ ذلك تعمد أن يقولها أكثر من مرة و استغرب لاجتهادي و قدرة لساني على التلاؤم مع لغته بتلك السهولة!
في الوقت الذي كنت أكرر ما أحسسته عبارة استسلام , اقترب مني أكثر, ففسحت له المجال. قبل أن ينزل إلى الحفرة, نظر إلي نظرة احتقار كأنه يعاتبني على شيء ما !
لما دفئت الحفرة, أيقنت أنه ابتعد, فهممت بالغسيل. لم أكن أدري من أين أبدأ. أخذت إناء من الماء لم أعد أتذكر درجة حرارته و أفرغته على جسدي. على العتبة الثالثة سمعتني أقول:" شلمشل مشلم.. شلمشل مشلم" , ووجدتني أعيد العبارة مع الركوع على العتبة الثانية ثم الأولى. لم أتجاوز باب الغرفة إلى الخارج - و قد سقطت أكثر من مرة قبل أن أصل - حتى سمعت الصوت يأمرني بالتوقف. توقفت. قال الجني: "انظر إلى قدميك". نظرت فإذا هما معكوفتين.
عجبت لأمر بني الجان. مع أني استسلمت لهم, سووا قدمي بذلك الشكل. أخطر ما في الأمر أني زرت أطباء داخل المدينة و خارجها, فأكدوا لي أن قدمي لا يمكن أن تعودا إلى شكليهما الطبيعي أبدا. و مضى زمن طويل قبل أن أدرك أن الاعوجاج كان ثمن الاستسلام!

أبو راوي



#عبدالله_بعنو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استجابات بئيسة


المزيد.....




- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بعنو - الممسوس