|
إصلاح أم ثورة؟
مجلة أوراق اشتراكية
الحوار المتمدن-العدد: 1033 - 2004 / 11 / 30 - 10:52
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مجلة أوراق اشتراكية العدد السابع يصدرها مركز الدراسات الاشتراكية بمصر
إصلاح أم ثورة في مصر؟ مع إفلاس النظام الحاكم في مصر، أصبح التغيير هو الشعار الذي يرفعه الجميع. يناقش تامر وجيه مختلف دعاوى "الإصلاح"، ليصل إلى أن ما يجمعها هو الخوف من ثورة الجماهير والانحياز إلى الأوضاع الاجتماعية الراهنة. تقف مصر الآن عند مفترق طرق. الحديث عن التغيير الذي يصم آذاننا صباح مساء ليس محض جعجعة جوفاء. فبعد أن اكتشف كل من الرأسماليين والكادحين على حد سواء أن الطريق الذي سارت فيه السلطة الحاكمة على مدى سنوات التسعينات – طريق الليبرالية الجديدة والسلام برعاية إمبريالية – لم يؤد إلا إلى الأزمة الاقتصادية والجمود السياسي واستفحال الفساد وعودة جيوش الإمبريالية – نقول بعد أن اكتشف الطرفان الحقيقة المرة بدأ الكل يعزف لحن التغيير. كيف يمكن أن تتغير مصر؟ كيف يمكن أن يتوقف التدهور المريع الذي أوصل المجتمع إلى الوضع المرزي الذي نلمسه جميعا؟ غني عن البيان أن الإجابة على هذين السؤالين ستختلف باختلاف الموقع السياسي-الطبقي للمجيب. صحيح أن سكان القصور ربما سيتفقون مع سكان العشش على أن هذا البلد يمر بأزمة عميقة، لكن الأكيد أن تصوراتهما للأزمة وحلولها ستختلف جذريا. هناك من سيقول أن مفتاح الحل يكمن في تحطيم كل العقبات في وجه رأس المال، وهناك من سيقول أن مفتاح الحل يكمن في تحطيم سطوة حيتان السوق وحلفائهم في السلطة.
في سوق مشاريع التغيير ربما يمكننا القول، مع بعض الاختزال، أن هناك ثلاثة مشاريع رئيسية للتغيير في مصر. هناك أولا مشروع الليبرالية الجديدة الفج. هذا هو مشروع تحديث النهب وتعميقه. وهو يدعو إلى جراحة اقتصادية تقطع اللحم الحي للفقراء، ولكنه في ذات الوقت يعطي ألف عذر وعذر للتلكؤ في إجراء أي جراحة سياسية. حاملو هذا المشروع هم رجال الأعمال الاحتكاريون الذين ركبوا عربة "لجنة السياسات" ليدخلوا بها مباشرة، وبدون الحاجة إلى "الديمقراطية"، إلى السلطة فيديروا شئون الدولة والاقتصاد بما يحمي مصالحهم ومصالح إمبراطورياتهم المالية المهولة. وجهة نظر الليبرالية الجديدة فيما حدث ويحدث هو أن مأزق الرأسمالية والسلطة في مصر يكمن ببساطة في التردد والمراوحة التي وسمت السلطة طوال سنوات الثمانينات والتسعينات بين الليبرالية الجديدة وبين "مخلفات الماضي الاشتراكي". "لا يمكن لمصر أن تخرج من أزمتها الراهنة إلا إذا حسمت أمرها وتخلت عن سياسة إمساك العصا من المنتصف بين مشروع رأسمالية السوق الحرة وبين متطلبات التوازن الاجتماعي ومصالح محدودي الدخل" – هذه هي حكمة الليبراليين الجدد الذين أصبحوا، تقريبا، يتربعون على عرش السلطة في مصر الآن. فبعد حوالي ثلاثة عقود من العمل الدؤوب على تفكيك كل مسئولية للدولة عن الفقراء والكادحين، يرى "خبراء" السوق أن حل معضلاتنا المستعصية ليس أقل من المزيد من "العمل الدؤوب على تفكيك كل مسئولية للدولة عن الفقراء والكادحين"!! المشروع الثاني للتغيير هو مشروع التغيير الجذري بما يتضمنه من آفاق للثورة السياسية والاجتماعية. هذا مشروع تقريبا بلا صاحب؛ هذا إذا كنت تعني بالـ"صاحب" وجود قوة سياسية ذات شأن وأثر تسهر عليه وتناضل من أجل تحقيقه. فباستثناء مجموعات سياسية صغيرة الحجم والتأثير، تطبل كل الجوقة السياسية وتزمر ضد الثورة أو الهبة الشعبية بصفتها شر مطلق لابد من تجنبه كما يُتجنب المجذوم. لكن قوة هذا المشروع – وهو أكثر احتمالا مما قد يتخيل كثيرون – تكمن في المسار الموضوعي للصراع الاجتماعي وفي القدرات الخلاقة التي تتحلى بها الجماهير والتي تجعلها دائما تدخل مسرح التاريخ بالضبط في اللحظة التي يظن فيها كل "الساسة" و"العارفين ببواطن الأمور" أن "عصر الثورات الشعبية قد ولى"! المشروع الثالث الكبير للتغيير هو "مشروع البين بين" أو ما يمكننا تسميته بـ"مشروع الترقيع السياسي الإصلاحي للمعارضة المصرية المعتدلة". وهذا تجده في سوق عكاظ واسعة تضم خليطا من المبادرات التي تجمع الشامي على المغربي، ولكن – ياللغرابة – التي تملك جميعها طعما واحدا لا يتغير. الطريف أن الكثيرين ينفقون وقتا ثمينا طويلا في تحليل الفوارق بين مشاريع الإخوان المسلمين والتجمع وغيرهما من قوى المعارضة المصرية، بينما ربما سيكون من الأجدى لهؤلاء المحللين أن ينفقوا وقتهم في البحث عن التربة الواحدة التي استنُبتت فيها كل هذه المشاريع. لاحظ مثلا أن كل القوى السياسية المهادنة، على اختلاف مشاربها بين إسلاميين ويساريين وقوميين، تتفق على قبولها ثابت واحد أساسي هو أن الإصلاح لا يمكن ولا ينبغي أن يمس الأسس الطبقية للمجتمع الراهن، بل لابد أن يقف عند حدود الإصلاح السياسي الذي لا يقترب من السلطة السياسية للبرجوازية و/أوالسلطة الاقتصادية للرأسمالية.
سر الإصلاحية المصرية إذا اتفقنا تجاوزا على اعتبار قوى المعارضة المعتدلة الشرعية (التجمع، الوفد، الناصري) وغير الشرعية (الإخوان) بمبادراتها السياسية المختلفة على أنها تمثل "الإصلاحية المصرية"، يصبح السؤال: وما هي سمات وإمكانيات هذه الطبعة المصرية من الإصلاحية؟ ربما يعلم كثيرون من قراء هذا المقال أن الإصلاحية كمصطلح، وكظاهرة نشأت في المجتمعات الرأسمالية الأكثر تقدما في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لها معنى مختلف تماما عما نردده في مصر الآن. الإصلاحية الأوروبية نشأت كتيار سياسي في الأوساط العمالية بلور نفسه في أحزاب اشتراكية ديمقراطية ذات رطان يساري ولكن ذات أدوات برلمانية. جوهر تلك الإصلاحية هو الاقتناع بأن الطريق إلى الاشتراكية يمر عبر الإصلاح التدريجي، بأدوات سلمية وشرعية، للمجتمع الرأسمالي القائم. أما مصدر قوتها فكان – ولا يزال إلى حد ما – تأثيرها على قطاع أساسي من الطبقة العاملة والجماهير الكادحة، أي جذورها الشعبية التي تقدر من خلالها على الضغط والمفاوضة. الإصلاحيون المصريون بالطبع لا يمتون بأي صلة لهذه "الإصلاحية الكلاسيكية". ونقطة البدء لفهم طبائعهم السياسية وأسسهم الطبقية، ومن ثم لفهم صلة القرابة التي تربط فيما بينهم، هي النظر في التاريخ السياسي-الطبقي لمصر في العقود الأخيرة. إذا أردت أن تلخص في سطور قليلة مضمون المشروع الذي أنجزته سلطة مبارك على الصعيد الداخلي على مدار أربعة وعشرون عاما هي عمرها، يمكنك أن تتحدث عن أربعة مسائل رئيسية: 1. محاولة صرف شبح 18 و19 يناير 1977 بتحطيم الحركة العمالية؛ 2. محاولة صرف شبح 6 أكتوبر 1981 بتحطيم الحركة الإسلامية الجهادية وببناء الدولة البوليسية؛ 3. تدجين المعارضة السياسية المعتدلة بقطع روابطها بالجماهير وتوثيق روابطها بالسلطة؛ 4. وأخيرا وليس آخرا، تنمية ورعاية طبقة رأسمالية جديدة بدأت صغيرة على عهد السادات وتوحشت في عصر مبارك. هذه المسائل مترابطة، وهي جزء من مشروع طبقي واحد. ولكن أيضا يمكن التمييز بينها كعناصر في طبخة واحدة! انخرط النظام الحالي منذ أول أيامه في معمعة صراع اجتماعي عميق. فهو من ناحية أولى سعى لتحطيم الحركة العمالية داخلا في الفترة من 1984 إلى 1989 في معركة تكسير عظام مع طبقة عاملة باسلة خاضت، معزولة، نضالات باهرة انتهت للأسف في كشف حسابها النهائي بالهزيمة والتفكك. وهو من ناحية أخرى تعهد الرأسماليون الجدد بالرعاية والدعم حتى أن من بدأوا منهم في السبعينات كسماسرة وتجار شنطة وتجار عملة انتهوا اليوم كاحتكاريين كبار يقيمون الأسواق فلا يقعدوها! هذه "الهندسة الاجتماعية" العميقة تزامنت مع لعبة ماكرة أدارها النظام مع المعارضة المعتدلة بكافة قواها. باختصار، هو بالتأكيد مخل، استطاع النظام – بالذات على مدى سنوات الحرب الضروس ضد الإسلاميين الجهاديين في التسعينات – أن يدجن المعارضة تماما وأن يقطع صلاتها الجماهيرية. لا شك أن استشراس الديكتاتورية في التسعينات سبب أساسي لهذا التطور. لكن لا شك أيضا أن اختيار المعارضة الوقوف في خندق النظام ضد الإسلاميين لعب دورا حاسما في إعادة توجيه سياساتها وأولوياتها بما تكفل بتعريتها أمام الجماهير. على مدى سنوات الثمانينات والتسعينات، وبالأخص التسعينات، دشنت كافة قوى المعارضة، من الأخوان إلى التجمع إلى كثير من الناصريين، ثورات صامتة في رؤاها وبناها تمثلت في برامج جديدة وتعهدات بنبذ العنف والثورات وصلات أوثق بالسلطة وبالبرجوازية وبرجالهما. فتماما كما استغل توني بلير فرصة ضعف وتشتت معارضيه داخل حزب العمال البريطاني فأعلن انقلابا داخليا قضى على كل نكهة يسارية داخل الحزب – تماما كما فعل بلير ذلك، فعلت أحزاب المعارضة شيئا مماثلا، وأصبحت اليوم تعلن بشكل واضح اعتمادها على قوى اجتماعية وأدوات سياسية أخرى، عدا الجماهير، للوصول إلى السلطة "بدون تصادم مع النظام القائم، بل من خلاله"!! هذا هو السر وراء التقارب الغريب بين قوى سياسية لا تجمعها مرجعية فكرية واحدة. سنوات الاستدفاء بالسلطة والبعد عن الجماهير قربت بين "الشامي" والمغربي" فأصبحا ينتميان – بغض النظر عن الرطان وعن الاختلافات الحقيقية المتبقية – إلى ما يمكن أن نطلق عليه "الوسطية السياسية المائعة" بمشروعها الإصلاحي إياه. وكانت مسيرة التقارب الموضوعي بين قوى المعارضة هي نفسها مسيرة إفلاسها السياسي والجماهيري.
مضمون الإصلاحية المصرية الإصلاحية، سواء الكلاسيكية أو المصرية، لا تنشط إلا في ظل الديمقراطية. فبغض النظر عن أوهامه وضعفه الأصيل، كيف يمكن للإصلاحي أن يحدث تغييرا في ظل الديكتاتورية إذا نبذ الجماهير ورفض الثورة؟ كيف يمكن له أن يصل للسلطة، أو حتى يحلم بها، بدون وجود آلية لانتقال السلطة؟ إذن، فإصلاحية بدون ديمقراطية وبدون تأثير على الجماهير لا تعدو أن تكون نكتة سخيفة. الأخطر من ذلك أن تلك الإصلاحية التائهة والتافهة تضطر بسبب منطقها الداخلي ذاته إلى البحث، في ظل الديكتاتورية، عن رافعة سياسية تسندها وتحقق أحلامها في الوصول إلى السلطة. في أكثر الأحيان – وهذا هو ما نراه معظم الوقت في مصر – تلجأ الإصلاحية إلى السلطة ذاتها كجسر لتحقيق مشاريعها! من هنا نرى أن معظم مشاريع الإصلاح التي تنهمر علينا كالمطر تأخذ شكل الابتهالات والتحذيرات للسلطة. وفي أحيان أخرى تلجأ الإصلاحية إلى الإمبريالية كطريق لتحقيق المطامح. ونحن بالطبع رأينا في السنوات والعقود الأخيرة سيناريوهات عديدة في بلدان أخرى للإصلاح بدعم إمبريالي، وفهمنا أي نهاية وأي خاتمة يمكن ترجيها من هذا الطريق. المعارضة المصرية الإصلاحية إذن في مأزق عميق. في أغلب الظن هي تحلم بتحولات داخل السلطة تدفع تلك الأخيرة إلى طلب العون من المعارضة في إطار تحول ديمقراطي ما. وإذا أردنا التعبير عن هذه الحقيقة المرة بصياغة أخرى يمكننا القول أن المعارضين المصريين المعتدلين، في معظمهم، ينظرون للأزمة الاجتماعية العميقة التي تمر بها مصر الآن من زاوية تأثيرها على الطبقة الحاكمة وليس من زاوية تأثيرها على الجماهير. الإصلاحيون يتخيلون أن الأزمة بكافة أبعادها ستدفع، إن عاجلا أو آجلا، البرجوازية المصرية إلى التململ وإلى الضغط من أجل التغيير، ويتخيلون أن السيناريو العراقي ومناورات الإمبريالية مع سوريا والتحول الليبي سيدفعون النظام المصري من جانب آخر إلى تبني مشروع إصلاحي "ما" على وجه العجلة لاستباق الكارثة القادمة. وفي سياق هذا وذاك يعتقد الإصلاحيون أن زمنهم قد لاح. من هنا فقد بدأوا ينشطون، على عجالة، في عقد التحالفات وتدبير المؤامرات وطرح المبادرات .. لعل وعسى! وبغض النظر عن طوباوية أو عدم طوباوية حلم المعارضة هذا، وهي نقطة سنناقشها حالا، إلا أن المهم هو أن نلتفت إلى مضمون مشروع الإصلاح بدعم البرجوازية ومن داخل السلطة. المضمون هو، بطبيعة الحال، برجوازي. إذا قبلت بالبرجوازية كرافعة لمشروعك السياسي، فلا شك أنك ستقبل ببرنامج البرجوازية كأساس لرؤاك الإصلاحية. وإذا استندت على مساحة اتفاق مع السلطة، فلا شك أن إصلاحك سيقوم على صفقة سياسية مع أحد أجنحتها. هذا بالضبط ما يحدث الآن. إقرأ بتمعن مشاريع الإصلاح المختلفة ستجد نغمة متكررة: "بدلا من أن يُطاح بكم في ثورة، وبدلا من أن تصل الأمور إلى حد الثورة، المطلوب هو بعض الإصلاحات لتجميل الليبرالية الجديدة، ومن ثم لإعطاءها دفقة حياة جديدة"!! الإصلاحيون المصريون إذن هم وجه آخر لليبرالية الجديدة، يحمل من المساحيق الكثير .. ولكن هل تخفي المساحيق "الوش العكر"!
إصلاح أم ثورة؟ على أن سيناريو الإصلاح من أعلى بضغط البرجوازية و/أو الإمبريالية ليس هو السيناريو الوحيد المحتمل، وليس هو السيناريو الأكثر احتمالا. بل الأكثر من ذلك أنه لا يقطع بالضرورة الطريق على الثورة الاجتماعية، بل ربما يعجل من حدوثها! فلننظر في احتمال حدوث سيناريو الإصلاح من أعلى. ربما سيتفق معنا كثيرون أن الطبقات الحاكمة تتفاوت فيما بينها في درجة استجابتها للضغوط والأزمات التي تواجهها. في بعض الحالات تستشعر الطبقة الحاكمة العاصفة القادمة وتستبقها بتغيير سياسي يحاول أن يجهض فرصة الثورة الشعبية من أسفل. وفي حالات أخرى، يكون الجمود فيها قد بلد إحساس الحكام وحوارييهم، تصمم الطبقات الحاكمة على المضي قدما في سياستها المعادية للجماهير وفي الاحتفاظ بأشكال سياسية تعفنت وتجاوزها الزمن. بالطبع الفارق بين الطبقات الحاكمة في هذه الحالة أو تلك لا يكمن في طبيعتها الجوهرية، فهي في كل الأحوال رأسمالية. الفارق يكون في درجة جمود (أو حيوية) السلطة السياسية لهذه الطبقة الرأسمالية. السؤال هنا هو: هل النظام الراهن يتسم بالحيوية وبعد النظر؟ نترك للقارئ اللبيب الإجابة، على أن يتذكر فقط التاريخ الطويل من التصلب وانعدام المرونة والركود السياسي والفساد المجتمعي. ربما يذكرنا هذا النظام، على عهد شيخوخته، بنظام باتيستا في كوبا في أواخر الخمسينات أو النظام القيصري في روسيا في نهاية الحرب العالمية الأولى وقبيل الثورة البلشفية: نظام فقد صلته بالواقع وغمرته شبكة فساد تخللت أوصاله حتى الصميم. هل يعني هذا أن إصلاح النظام من داخله مستحيل؟ أو هل يعني أن سيناريو تغيير من أعلى غير ممكن؟ ليس بالضرورة. ولكن ما نقوله يشير إلى أن جمود النظام وتلكؤه في التغيير سيلعب دورا كبيرا في تعميق الأزمة. النظام اليوم يغذي أوهام التغيير، ولكنه لا يقدر عليه. هو يعطي الليبرالية الجديدة كل المفاتيح الاقتصادية، ولكنه يعطل كل فرص التغيير السياسي. هذه التخبطات ستخلق، في الأجل المتوسط، بيئة أكثر التهابا وتوترا، وستنعكس في استفحال تناقضات لا يمكن حلها بالتلفيق. فحتى لو حدث إصلاح بهذا القدر أو ذاك، فربما يلعب دور المفجر وليس دور عنصر الاستقرار! هذا ما يدعونا إلى النظر إلى البديل الآخر: بديل الثورة الاجتماعية. ينسى كثيرون أن الثورات كثيرا ما تبدأ من أعلى! عندما تصل الأزمة المجتمعية إلى حد الخلاف، ثم الشقاق، بين أجنحة الطبقة الحاكمة، وعندما تصل إلى حد ظهور وتهاوي المشاريع الإصلاحية الواحد تلو الآخر – في هذه اللحظة بالتحديد يتبين للخاضعين والمقهورين حجم الأزمة ومستوى استفحالها، ويتبين لهم أيضا درجة ضعف الطبقة الحاكمة وعدم قدرتها على إدارة المجتمع بسبب إفلاسها وبسبب ما ينخر فيها من فساد وتذبذب وصراعات. الثورة الفرنسية على سبيل المثال بدأت بصراع بين النبلاء وبين الملكية المستبدة، ثم تجاوز الصراع حدوده المرسومة وأصبح ثورة اجتماعية عميقة قلبت المجتمع رأسا على عقب. اليوم يبدو للجميع أن أجنحة من الطبقة الحاكمة المصرية، على الرغم من تماسكها الظاهري، بدأت تتململ وتتأفف. النظام السياسي الذي ترعرعت في ظله تلك الطبقة، والذي حماها من كل الأخطار، أصبح ثوبا ضيقا يصعب احتماله. من هنا بدأ الحديث يدور على الإصلاح واحتمالاته. ومن هنا بدأت السلطة في اتخاذ قرارات إصلاحية ليبرالية جديدة رفعت مجموعة لجنة السياسات – جناح الليبرالية الجديدة الفج في السلطة – إلى سدة الحكم، لعل هذا يمثل مخرجا من الأزمة المزمنة. ولكنها، أي السلطة، جبنت، كما أشرنا، عن إحداث أي تغيير في التركيبة السياسية للنظام. والاحتمال الأقرب أنها ستجبن عن القيام بجراحة عميقة في شكل النظام السياسي، بالرغم من أنها غالبا ستحتاج عند نقطة ما إلى إجراء بعض التغييرات الشكلية لإلهاء المعارضة وتمرير مشروع التوريث. لكن هل يمكن لجرعة إضافية من الليبرالية الجديدة، تقدمها سلطة ممزقة وغير قادرة لأسباب موضوعية وذاتية على التغيير الحقيقي، أن تحل العقدة و"تفك النحس"؟ لا أحد يمكنه أن يقرأ المستقبل. لكن علينا أن نعترف أن أي عاقل سيشكك تماما في هذا الاحتمال. الاحتمال الأكبر – وهو الاحتمال الذي علمتنا إياه تجارب التسعينات من روسيا إلى الأرجنتين إلى إندونيسيا – أن يؤدي مزيد من الليبرالية الجديدة إلى الانفجار الشعبي، أي إلى فتح أفق بديل التغيير الجذري السياسي والاجتماعي. فبالضبط عندما تبدأ الطبقة الحاكمة في تغيير أساليبها، تكون تلك هي لحظة اختلال عجلة القيادة بين يدي السلطة، ومن ثم لحظة تعميق الاختمار الثوري في المجتمع وإحياء الحركة الجماهيرية التي يظن الكثيرون أنها قد ماتت أو شارفت على ذلك.
ثورة داخل الثورة الانتفاضة الجماهيرية المصرية، وهي بديل محتمل بشكل كبير في ظل إفلاس الليبرالية الجديدة الفجة وإفلاس الإصلاحية المصرية إياها، ستكون نقطة البداية لمعركة سياسية-طبقية كبرى. يخطئ من يظن أن الانتفاضة ستمثل غاية المنى والنهاية السعيدة لفيلم التغيير المصري. الحقيقة أن الإصلاحيين، بل والليبراليين الجدد، الذين يخافون اليوم من الثورة خوفهم من الأمراض المعدية والوحوش الكاسرة، سيقفزون فور ظهور تباشير انتصار الانتفاضة إلى معسكر عاشقي الجماهير وممجدي ثورتهم! هذا كان الحال في كل ثورة كبرى في التاريخ. وهذا كان الحال في كل انتفاضة منتصرة. طموح البرجوازية المصرية في حال فشل النظام الراهن في الاستمرار أو في تغيير نفسه بطريقة سلمية سيكون، ببساطة، هو خلق سلطة جديدة تخدم نفس المصالح. "فلنضحي بالنظام الراهن طالما كان في هذا تحقيقا لمصالحنا" – هكذا سيكون لسان حال كبار الرأسماليين المصريين، كما كان لسان حال نظرائهم في بلدان عديدة أخرى. الانتفاضة إذن معركة لابد من خوضها حتى النهاية. الثورة السياسية الأولى ستكون إما نقطة بداية لتعميق الثورة، أو نقطة نهاية لآمال الجماهير في العدل والحرية. ما تحتاجه انتفاضة الأيام الأولى – تلك التي يسقط فيها سوهارتو أو قيصر روسيا أو أشباههما – هو التعميق والتجذير؛ هو ثورة أخرى داخل الثورة .. ثورة الكادحين ضد الاستغلال التي ستكمل ثورة الشعب من أجل الحرية السياسية. وبالرغم من أن الكثيرين قد يعتبرون هذا كلام من الماضي (الردئ أو الجميل!)، إلا أن الحقيقة هي أن هذا هو بالضبط، وبغض النظر عن تمنيات اليمين أو الوسط أو اليسار، جوهر التناقض في أي انتفاضة تصنعها الجماهير بينما تحاول البرجوازية أن تكبحها وتمنعها من تحقيق كل مصالح من صنعوها. لا نكاد نشك لحظة في أن العمال في المصانع والفلاحين في الحقول والمأجورين في كل موقع عمل، إذا ما دخلوا مسرح التاريخ وانتفضوا، سوف يسعون إلى تعميق ثورتهم وتجذيرها. لماذا يكتفي هؤلاء بالإطاحة بنظام سياسي فاسد ومتعفن؟ أوليس من المنطقي أن يسعون، وهم يملكون الشارع، إلى تحقيق مصالحهم في العدل الاجتماعي وفي تحطيم سلطة حفنة المالكين الرأسماليين؟ الحقيقة أن هذا هو عين العقل والمنطق، وهذا بالضبط ما يحدث في كل ثورة كبرى. المشكلة – كما أكدنا – هي أن هناك من سيحاول أن يوقف العجلة ويسرق الثورة. من هنا فإن واجب كل مشتاق إلى العدل وإلى الحرية بأعمق معانيها أن يحاول الإجابة على السؤال الصعب: كيف يمكن أن نضمن للثورة – إذا ما حدثت – الديمومة والانتصار؟
#مجلة_أوراق_اشتراكية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صحيفة تركية: أنقرة ستسمح لحزب مؤيد للأكراد بزيارة أوجلان في
...
-
صحيفة: تركيا ستسمح لحزب مؤيد للأكراد بزيارة أوجلان في سجنه
-
ترامب يخاطب -اليساريين المجانين- ويريد ضم كندا وغرينلاند وقن
...
-
من الحوز إلى تازة: دخان مدونة الأسرة وانعكاسات تمرير قانون ا
...
-
الجبهة الديمقراطية تندد باعتقال السلطة أحد قادتها خلال مسيرة
...
-
الجبهة الديمقراطية تندد باعتقال السلطة أحد قادتها خلال مسيرة
...
-
الحزب الشيوعي ودكتاتورية الأسد
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 584
-
الحلم الجورجي يستيقظ على العنف
-
جيش الاحتلال يقر بإطلاقه النار على عدد من المتظاهرين السوريي
...
المزيد.....
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
المزيد.....
|