|
دور السياسة الديمقراطية في بناء المجتمع الديمقراطي 2
محمد السينو
الحوار المتمدن-العدد: 3466 - 2011 / 8 / 24 - 17:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
السياسةُ وسيلةُ الحلِّ الاجتماعيِّ الأساسية، ليس لحلِّ القضايا الاجتماعيةِ فحسب، بل ولتحديدِ جميعِ المصالحِ الحياتيةِ والحيوية، وصَونِها وتأمينِ سيرورتِها أيضاً. لغةُ العصرانيةِ الديمقراطيةِ سياسية. وكل بُناها النظاميةِ تَرسُمُها وتُنشِئُها بالفنِّ السياسي. فماهيةُ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ للعلومِ الأساسيةِ تُذَكِّرُ بالسياسةِ، لا السلطة. والواقعُ الذي يحياه المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسيُّ في راهننا، أي قضيتُه الأولى بشأنِ الحريةِ والمساواةِ والدمقرطة، إنما هي قضيةٌ وجودية. ذلك أنّ وجودَه مُحاقٌ بالخطر. فهجماتُ الحداثةِ المتعددةُ الاتجاهاتِ تقتضي منه صَونَ وجودِه قبلَ أيِّ شيءٍ آخر. وجوابُ العصرانيةِ الديمقراطيةِ إزاءَ تلك الهجمات، هو المقاومةُ بمعنى الدفاع الذاتي. إذ يستحيلُ ممارسةَ السياسةِ دون الدفاعِ عن المجتمع. عليَّ التشديدَ مجدداً على أنّ المجتمعَ واحدٌ، ألا وهو المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسي. والقضيةُ تتجسد أولاً في إعادةِ إنشاءِ المجتمع، الذي أَفنَته السلطةُ والدولةُ لِحَدٍّ بعيد وعَرَّضَتاه للاستيلاءِ والاستعمارِ والاضطهاد، وذلك ضمن ظروفِ العصرانيةِ الأكثر تطوراً ونماء. والسياسةُ الديمقراطيةُ إلى جانب الدفاعِ الذاتيِّ تُشَكِّلُ جوهرَ السياسةِ المرحلية. حيث، وبينما تُطَوِّرُ السياسةُ الديمقراطيةُ المجتمعَ الأخلاقيَّ والسياسيّ، فالدفاعُ الذاتيُّ يَحفَظُه ويَصُونه تجاه هجماتِ السلطةِ التي تستهدفُ وجودَه وحريتَه وبُنيتَه المرتَكزةَ إلى المساواةِ والديمقراطية. إننا لا نتحدثُ عن حربٍ تحريريةٍ وطنيةٍ من نوعٍ جديد، ولا عن حربٍ اجتماعية. بل نتكلمُ عن صونِ هويته وحريته، والدفاعِ عن مساواتِه ودمقرطتِه تأسيساً على الفوارق والتبايُن. وفي حالِ عدمِ وجودِ الهجوم، فلن يَبقى داعٍ للدفاعِ أيضاً. شكلُ الحياةِ السياسيةِ للقوى المضادةِ للمدنية، والتي تُشَكِّلُ الاتجاهَ الأساسيَّ في التاريخ، إنما هو كونفدراليّ. لن تَقبَلَ كلُّ المُكَوِّناتِ الاجتماعيةِ الارتباطَ ببعضِها بعضاً بروابطَ رخوة، إلا بشرطِ إبداءِ الاحترامِ لشبهِ استقلاليتِها. بل ولن تَرضى بوجودِ قوى المدنيةِ السلطويةِ والدولتيةِ إلا بهذا الشرط. والظروفُ التي يَغيبُ فيها الرضى، تعني حالةَ الحربِ الدائمة. بينما عند الرضى يتحققُ السلام. مبدأُ الإدارةِ الاجتماعيةِ التي تُقابِلُ ظاهرةَ السلطةِ وبنيةَ الدولةِ القوميةِ اللتَين شَمَلَتا واحتَوَتا المجتمعَ برمته في العصرِ الحديث، يتمثل في السياسةِ والكونفدراليةِ الديمقراطية. وبينما تُمارَسُ السياسةُ كسياسةٍ ديمقراطية، فإنّ كلَّ المُكَوِّناتِ الاجتماعيةَ تُساهِمُ في سياقِ المرحلةِ الكونفدراليةِ كقوةٍ فيدرالية. هذا النظامُ عالَمٌ سياسيٌّ جديد. فبينما تَحكُمُ المدنيةُ والحداثةُ بالأوامر على الدوام، فالحضارةُ والعصرانيةُ الديمقراطيتان تُنَفِّذان إدارتَهما بممارسةِ السياسةِ فعلاً عن طريقِ النقاشِ والوفاق. ومهما تُحَرَّف حقائقُ التاريخِ والحاضرِ أو تُطمَس، فالتطوراتُ الاجتماعيةُ الأوليةُ قد حُقِّقَت تحت كنفِ ريادةِ فنِّ السياسة. وبينما تَجهَدُ الرأسماليةُ للحفاظِ على سلطتِها ضمن ظروفِ الأزمة الكونيةِ بناءً على إعادةِ إنشاءِ الدولةِ القومية، فالمَهَمَّةُ الأساسيةُ لكافةِ قوى العصرانيةِ الديمقراطيةِ في الردِّ على الأزمة تَكمُنُ في تطويرِ النظامِ الكونفدراليِّ الديمقراطيِّ الهادفِ إلى صونِ وتطويرِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي. على ضوءِ هذه الإيضاحات، من الممكنِ عرضَ المبادئِ العامةِ بشأنِ المهامِّ السياسيةِ لقوى العصرانيةِ الديمقراطيةِ باقتضاب وفق النقاطِ التالية: - الطبيعةُ الاجتماعيةُ تَكوينٌ ووجودٌ أخلاقيٌّ وسياسيٌّ أساساً. وما دامت المجتمعاتُ مستمرةً بوجودها، فماهياتُها الأخلاقيةُ والسياسيةُ أيضاً مستمرة. والمجتمعاتُ المفتقِدةُ لماهيتِها الأخلاقيةِ والسياسيةِ محكومٌ عليها بالتبعثرِ والتفسخِ والفناء. - تَصَوُّرُ المجتمعاتِ ضمن أشكالٍ متقدمةٍ على خطٍّ مستقيمٍ على شكلِ المجتمعِ البدائيّ، العبودي، الإقطاعي، الرأسمالي فالاشتراكي؛ إنما يَخدمُ تحريفَ وطمسَ حقائقها، بدلاً من المساهمةِ في فَهمِها. هكذا إيضاحاتٌ مشحونةٌ بالدعاية. ذلك أنّ الطابعَ الأساسيَّ للمجتمعِ هو الماهيةُ الأخلاقيةُ والسياسية، والأصحّ هو نعتُ المجتمعاتِ بموجبِ مدى وجودِها. وسواءً الماهياتُ الطبقيةِ وماهياتُ الدولة، أو مستوياتُ النماءِ الصناعيِّ والزراعي، لا تُشَكِّلُ الطابعَ الأساسيَّ للمجتمع، بل هي بمثابةِ ظواهر مؤقتة ووقتية. - تتولَّدُ المشكلةُ الاجتماعيةُ بالارتباطِ مع تَحَكُّمِ واستغلالِ السلطة. فكلما تصاعدَت السلطةُ والاستغلال، تَصاعدت معها القضايا الاجتماعيةُ أيضاً. أما الدولُ المبنيةُ على الطبقات، والمفروضةُ كأدواتِ حَلّ؛ فإلى جانبِ آفاقِها المحدودةِ في الحل، فهي تتحولُ أساساً إلى منبعٍ للقضايا الجديدة. - السياسةُ وسيلةُ الحلِّ الاجتماعيِّ الأساسية، ليس لحلِّ القضايا الاجتماعيةِ فحسب، بل ولتحديدِ جميعِ المصالحِ الحياتيةِ والحيوية، وصَونِها وتأمينِ سيرورتِها أيضاً. فالدفاعُ الذاتيُّ ضروريٌّ للدفاعِ عن المجتمعِ وحمايته كاستمرارٍ للسياسةِ كقوةٍ عسكرية. - كلما عَملَت المدنياتُ على إدارةِ المجتمعِ عبر حُكمِ الدولةِ طيلةَ سياقِ التاريخ، كلما ضاقَ نطاقُ فعاليةِ السياسةِ ضمنه. وما دامت المجتمعاتُ قائمةً، فهي تَرُدُّ على تضييقِ نطاقِ الفعاليةِ ذاك بالمقاومة. والتاريخُ تحت ظلِّ هذَين العامِلَين الأساسيَّين لا يُعتَبَرُ حُكمَ المدنيةِ كلياً، ولا إدارةً سياسيةً ديمقراطيةً كلياً. والصراعاتُ الموجودةُ في التاريخِ تنبعُ من الطوابعِ المتناقضةِ لهذَين العامِلَين الأساسيَّين. - تتحققُ عهودُ السلامِ في التاريخِ باعترافِ قوى المدنيةِ والقوى الديمقراطيةِ ببعضها البعض، وبإبداءِ الاحترامِ المتبادَلِ للهوياتِ والمصالح. بينما الصراعاتُ والهُدناتُ المُخاضةُ في سبيلِ السلطةِ لا علاقةَ لها بالسلام. - تُحاصِرُ السلطةُ المجتمعَ بأكمله داخلياً وخارجياً في عهدِ الحداثةِ الرأسمالية، مُحَوِّلةً إياه إلى ضربٍ من المُستَعمَرةِ الداخلية. السلطةُ وكذلك الدولةُ القوميةِ بوصفها صياغةَ الدولةِ الأساسية، تَخُوضُ حرباً دائمةً ضدّ المجتمع. وسياسةُ المقاوَمةِ تَنتهِلُ منبَعَها من هذا الواقع. - حالةُ الحربِ الشاملةِ تلك التي تُعلِنها الحداثةُ الرأسماليةُ تجاه المجتمع، تَجعلُ من بديلِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ أكثر عاجليةً وضرورة. وباعتبارِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ وجوداً لقوى الحضارةِ الديمقراطيةِ في راهننا، فهي ليست ذكرى من العصر الذهبيِّ الماضي، ولا يوتوبيا متعلقةٌ بالمستقبلِ الآتي. بل هي وجودُ وموقفُ كافةِ مُكَوِّناتِ ووحداتِ وأفرادِ المجتمع، والذين يتناقضُ وجودُهم ومصالحُهم مع النظامِ الرأسمالي. - ظلت نضالاتُ القوى المضادةِ للنظامِ عقيمةً وفاشلةً خلالَ القرنَين الأخيرَين، إما بسببِ إرشاداتِ السلطةِ التي حَمَلوها، أو لِتَركِها الميدانَ السياسيَّ فارغاً. وهي غيرُ قادرةٍ على تشكيلِ بديلٍ مضادٍّ للحداثةِ ذاتِها أو للأزمةِ الممَنهَجةِ من خلالِ الذهنيةِ القديمةِ وبُناها. - البديلُ ممكنٌ فقط بتطويرِها نظامَها تجاه الرأسماليةِ والصناعويةِ والدولةِ القومية، والتي تُشَكِّلُ دعائمَ الحداثةِ الثلاثية. هذا وبالمقدورِ اقتراحَ المجتمعيةِ الديمقراطيةِ والصناعةِ الأيكولوجيةِ والكونفدراليةِ الديمقراطيةِ تحت اسمِ العصرانيةِ الديمقراطية من حيثُ وصفِها مضادةً للنظام. كما أنّ التقاءَ القوى المضادةِ للنظامِ مع ميراثِ الحضارةِ الديمقراطيةِ ضمن إطارِ نظامٍ جديدٍ يُزِيدُ من فرصةِ النصرِ والنجاح. - الكونفدراليةُ الديمقراطيةُ شكلٌ سياسيٌّ أساسيٌّ للعصرانيةِ الديمقراطية، وتُعَبِّرُ عن دورٍ حياتيٍّ في نشاطاتِ إعادةِ الإنشاء. وبدلاً من كونِها وسيلةَ الحلِّ للحداثةِ الرأسمالية، فالكونفدراليةُ الديمقراطيةُ وسيلةُ السياسةِ الديمقراطيةِ الأنسب لصياغةِ الحلِّ باعتبارِها الشكلَ السياسيَّ الأوليَّ للعصرانيةِ الديمقراطيةِ التي تُشَكِّلُ خَياراً مُقابِلاً للدولةِ القوميةِ التي تُعَدُّ صياغةَ الدولةِ الأساسيةِ المُوَلِّدَةِ للقضايا على الدوام. -تتحقَّقَ الحريةُ ومستجداتُ المساواةِ والديمقراطيةِ المَبنيةِ على أساسِ التباينِ والفوارقِ بأفضلِ وأَسلَمِ السبلِ في المجتمعاتِ الأخلاقيةِ والسياسيةِ التي تَسُودُها السياسةُ الديمقراطية. ذلك أنّ الحريةَ والمساواةَ والديمقراطيةَ غيرُ ممكنةٌ إلا بقوةِ النقاشِ والقرارِ والممارسةِ التي يُنَفِّذُها المجتمعُ عبرَ قوتِه الوجدانيةِ والذهنيةِ الذاتيةِ الجوهرية. ولا يُمكِنُ تحقيقَ ذلك بأيةِ قوةٍ من الهندسةِ الاجتماعية. - تَعرضُ الكونفدراليةُ الديمقراطيةُ خَيارَ الأمةِ الديمقراطيةِ كوسيلةِ حلٍّ أساسيةٍ تجاه القضايا الأثنيةِ والدينيةِ والمدينيةِ والمحليةِ والإقليميةِ والقوميةِ الناجمةِ عن نموذجِ المجتمعِ الفاشيِّ النمطيِّ المتجانسِ ذي اللونِ الواحدِ والمُتَكَشِّفِ عن تراصٍّ وتناغمٍ كليّ، والمُسَيَّر بِيَدِ الحداثةِ عن طريقِ الدولةِ القومية. كلُّ أثنيةٍ ومفهومٍ دينيٍّ ومدينةٍ وواقعٍ محليٍّ أو إقليميٍّ أو قوميٍّ له الحقُّ في احتلالِ مكانه ضمن الأمةِ الديمقراطيةِ بهويتِه الذاتيةِ وبُنيتِه الفيدراليةِ الديمقراطية. - بديلُ الاتحادِ العالميِّ للأممِ الديمقراطيةِ إزاءَ هيئةِ الأممِ المتحدةِ هو الكونفدراليةُ العالَميةُ للأممِ الديمقراطية. هذا وبمستطاعِ الأجزاءِ القاريةِ والمناطقِ الثقافيةِ الكبرى تَشكيلَ كونفدرالياتِ الأممِ الديمقراطيةِ العائدةِ لها على المستوى الأدنى. وبالإمكانِ اعتبارَ الاتحادِ الأوربيِّ خطوةً أولى في هذا المنحى إنْ لَم يَسلُكْ سلوكَ الهيمنة. هكذا يتم تناوُلُ الانطلاقاتِ المضادةِ للسلطةِ المهيمنةِ كونياً وإقليمياً وفق هذا الإطار. - مقدورِ قوى الحداثةِ الرأسماليةِ وقوى العصرانيةِ الديمقراطيةِ العيشَ معاً ضمن سلامٍ مستَتِبٍّ على أساسِ قَبولِ وجودِ وهوياتِ بعضها البعضِ والاعترافِ بالإداراتِ الديمقراطيةِ شبهِ المستقلة، مثلما حصلَ تاريخياً في الكثيرِ من المراتِ بين قوى المدنيةِ والقوى الديمقراطية. وضمن هذا النطاقِ وهذه الظروف، يُمكِنُ لِلكَياناتِ السياسيةِ الكونفدراليةِ الديمقراطيةِ وكياناتِ الدولةِ القوميةِ العيشَ معاً ضمن سلامٍ مُستَتِبٍّ ضمن وخارجَ حدودِ الدولةِ القومية. يُمكِنُ الإكثارَ أو التقليلَ من تثبيتاتِ المبادئِ المعنيةِ بِمَهامِّ ميدانِ العصرانيةِ الديمقراطية السياسيّ. المهمُّ هنا هو تحديدُ أسسِ الإطارِ والتنفيذ. وأنا على قناعةٍ بأنّ ترتيباً من هذا النوعِ للمبادئِ جوابٌ مناسبٌ للهدفِ المأمول. والنقاشاتُ ستُحَدِّدُ نتيجةَ حقائقِ حريةِ الحياة. النقاطُ نفسُها ساريةٌ على المبادئِ التي سعيتُ لتحديدِها فيما يخصُّ الميادينَ الثلاثةَ الأساسيةَ للعصرانيةِ الديمقراطية. وأُشَدِّدُ بأهميةٍ فائقةٍ على أنّ نشاطاتِ إعادةِ الإنشاءِ من حيث المبدأِ والتنفيذ ليست مشروعَ جمهوريةٍ جديدةٍ كما نُوقِشَت بكثرةٍ في الثورةِ الفرنسية، ولا هي مخططُ دولةٍ سوفييتيةٍ كما الحالُ في الثورةِ الروسية. بل وحتى أنها ليست مشروعَ المدينةِ المنورةِ الاجتماعيَّ لسيدنا محمد. هَمِّي الوحيدُ والنقطةُ التي جَهِدتُ لإيضاحِها فيما يتعلقُ بالطبيعةِ الاجتماعيةِ من جهةِ ركائزِ أسلوبِ وتنفيذِ تحليلِ الحقيقةِ وحلِّ الحريةِ الاجتماعية، هو عدمُ إفساحِ المجالِ أمام المُغالطاتِ العميقة، وبالتالي أمام العديدِ من الأخطاءِ والنتائجِ الحاجبةِ إياها؛ مثلما حصلَ مِراراً في التاريخ. الهدفُ من إعادةِ الإنشاءِ هو تنظيمُ كافةِ الوحداتِ والعناصرِ الاجتماعيةِ والأفرادِ وسَوقُهم نحو الممارسةِ من خلالِ الاقترابِ منها وفق أسسِ المفهومِ (البراديغما) والتنفيذِ النظاميَّين، دون إنكارِ الميراثِ التاريخيِّ للقوى المناهِضةِ للنظام، والتي يجب أنْ تَكُونَ كذلك بِحُكم مصالِحِها، ودون السقوطِ في مصائدِ الليبراليةِ عن وعيٍ أو من دونِ وعي. وقد تَحتوي في طواياها على الناشطين كالثوريين، وعلى الهارِعين وراء الإصلاحِ أيضاً. فجميعُها نشاطاتٌ قَيِّمة. الحداثةُ الرأسماليةُ نفسُها تُمَثِّلُ المرحلةَ الأكثرَ تأزُّماً من نظامِ المدنية. فضلاً عن أنها عصرُ الهيمنةِ الكونيةِ الأرقى من رأسِ المالِ المالي، وهي العهدُ البُنيَوِيُّ الممَنهَجُ الذي تَكتَسِبُ الأزمةُ فيه سَيرورَتها. هذا ويَسعى النظامُ القائمُ وراءَ المشاريعِ والتطبيقاتِ اليوميةِ الكثيفة، بغيةَ عدمِ النفاذِ من الأزمةِ بخسائرَ ممنهجة. ويتحركُ من خلالِ أيديولوجيةٍ ليبراليةٍ توفيقيةٍ مُتَمَفصِلَةٍ واسعةِ النطاقِ جداً، ويَستَنِدُ في ذلك إلى ميراثٍ تاريخيٍ عظيم. علاوةً على أنه قد بَلَغَ بِشَبكاتِ التنظيمِ الألكترونيِّ إلى أقصاها بمنوالٍ لحظيّ. وهو قادرٌ على تنفيذِ التكتيكاتِ التي يَرومُها آنياً. بل وحتى إنه ينتقدُ الدولةَ القوميةَ بوصفِها أداةَ الحُكمِ الاستراتيجي، ويشرعُ في إعادةِ إنشائِها في العديدِ من الميادين. فالشركاتُ ذاتُها تتخطى إطارَ قوى الدولةِ القومية. كما أنه يُوَجِّهُ مؤسساتِ المجتمعِ المدنيِّ كما يشاء، حيث تُعَدُّ منظماتٍ دارجة. لا خَيارَ آخَر أمامَ مناهِضي النظامِ ضمن هذه الظروفِ سوى تطوير مفاهيمِهم وتطبيقاتِهم الخاصةِ بهم. لَم تَكُ الثورتان الفرنسيةُ والروسيةُ (والعددُ الذي لا حصرَ له من الثوراتِ والحركاتِ التي حذت حذوَهما) مُتَمَحوِرَتَين كلياً وفق إطارِ وأهدافِ الحداثةِ الرأسمالية. بل وكانتا متناقضتَين للغايةِ معه، وعازمَتَين على بناءِ نظامٍ جديد. وقد نَفَّذَت عديداً من التطبيقاتِ المرحليةِ على دربِ أهدافِها تلك، بما فيها الطارئةُ والاستثنائيةُ منها. لكنّ الرأسماليةَ استطاعَت صهرَ هذه الثوراتِ في آخِرِ المطافِ ضمن بوتقةِ مفاهيمِها وتطبيقاتِها العصرية، سواءً ضمن مراحلَ قصيرةٍ أم طويلةِ الأمَد. لا ريبَ أنّ تَبَنِّيَ ميراثِ الثوراتِ المعاصِرةِ في الحريةِ والمساواةِ والديمقراطيةِ مَهَمَّةٌ أولية، وعلى رأسها هاتان الثورتان العظيمتان، مثلما الحالُ بالنسبةِ للميراثِ التاريخيِّ بأكمله. ولكن، من الجليِّ بسطوعٍ أيضاً ضرورة استنباطِ العِبَرِ من أخطائِها ومغالطاتِها. وسوف يُلاحَظُ أني رَكَّزتُ كثيراً على هذا الموضوعِ في هذا الإنجاز. فاستخلاصُ الدروسِ من التجاربِ المُعاشةِ وظيفةٌ لا مفرَّ منها بكلِّ تأكيد بالنسبةِ للأشخاصِ والتنظيماتِ المتطلعةِ إلى الأهدافِ نفسِها. المهامُّ الأوليةُ ساريةُ المفعولِ في كلِّ زمان، سواءً استمرت الأزمةُ أم لَم تستمر. كما أنّ المهامَّ الفكريةَ والأخلاقيةَ والسياسيةَ أيضاً تقتضي القيامَ بها في كلِّ الأوقات. لا ريبَ أنّ الفوارقَ المرحليةَ تنعكسُ بالطبع على المواقفِ الاستراتيجيةِ والتكتيكيةِ المختلفة. لكنّ الماهيةَ الأصليةَ للمهامِّ لا تتغير. إني مقتنعٌ بأهميةِ النقاطِ التي سعيتُ لتحديدِها فيما يتعلقُ بالإيضاحاتِ والمبادئِ المعنيةِ بالمهامِّ المندرجةِ في الميادينِ الثلاثةِ تلك. وهي في الوقتِ عينِه تعبيرٌ عن النقدِ والنقدِ الذاتيِّ حِيالَ كلِّ حَدَثٍ أو علاقةٍ أو شخصيةٍ أو مؤسسةٍ أَنا مسؤولٌ عنها. إني مُدركٌ لاستحالةِ تَحَلِّي النقدِ أو النقدِ الذاتيِّ الفرديِّ بأيةِ قيمةٍ وطيدة، دون التحليلِ والانتقادِ الشاملِ لعصرِنا، بل وحتى للمدنيةِ أيضاً. وقد عملتُ على تناوُلِ الأمرِ تأسيساً على ذلك. ولو أني مضطرٌّ للتكرارِ مِراراً، إلا أنّ تَداخُلَ النشاطاتِ المعنيةِ بالمَهامِّ الفكريةِ والأخلاقيةِ والسياسيةِ أساس. ومهما نشطَت الميادينُ في داخلِها بنحوٍ مستقل، لكنّ ثمارَها البارزةَ للوسطِ لا يُمكِنُ إلا أنْ تَكُونَ ذاتَ ماهيةٍ مُسَخَّرةٍ لخدمةِ بعضِها بعضاً. فكيفما أنّ التنفيذَ الأخلاقيَّ غيرُ قادرٍ كثيراً على تطويرِ الأفضلِ دون وجودِ التنويرِ الفكري، فهو بذلك لن يتخلصَ من تمهيدِ الطريقِ أمام السيئِ الرذيلِ أيضاً. فالمكانُ والزمانُ اللذَين تغيبُ فيهما الأخلاقُ الفاضلة، إنما تَسُودُهما الأخلاقُ الرذيلة. بينما الميدانُ السياسيُّ يُعَبِّرُ عن حالةِ تنفيذِ التنويرِ والأخلاقياتِ المرحليَّة. بهذا المعنى، فالسياسةُ حجةُ التنويرِ والسلوكِ الأخلاقيِّ اليوميَّين، بل هي التنويرُ والأخلاقياتُ بِحَدِّ ذاتِها. فضلاً عن أنهه لا يُمكِنُ الحديثَ بِجَديةٍ عن وجودِ التنوير، وبالتالي النشاطِ الفكريِّ في المكانِ الذي تغيبُ فيه السياسةُ والأخلاق. والميولُ الفكريةُ التي تَفتَقِدُ لِرَوابطِها مع السياسةِ والأخلاقِ قد تَكُونُ شيئاً آخَر، كما الحالُ في رأسِ المالِ الفكري. إلا أنّه من المحالِ تقييمَ هذا الوضعِ بالمَهَمَّةِ الفكرية، لأنه يَفتَقِرُ للأساسِ الأخلاقيِّ والسياسيّ. لا يُمكِنُ تحقيقَ الحريةِ والمساواةِ والديمقراطيةِ القصوى في المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ إلا لدى تنفيذِ المهامِّ الفكريةِ والأخلاقيةِ والسياسيةِ بنحوٍ متداخل. لهذا السبب، فمِعيارُ نجاحِ التنظيماتِ والأفرادِ المناهضين للنظامِ متعلقُ بتنفيذِهم المهامَّ المعنيةَ بالميادينِ الثلاثةِ بشكلٍ متداخل.
#محمد_السينو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دور السياسة الديمقراطية في بناء المجتمع الديمقراطي 1
-
مفهوم الإرهاب
-
الحرب النفسية وسبل مواجهتها
-
مفهوم الحرية
-
هل يمكن ان تكون البلاد العربية ديمقراطية
-
نصائح الى المعارضة و المولاة في برنامج البالتوك
-
قانون الاحزاب و تطبيقه في سوريا
-
ما هي المعارضة و المولاة في برنامج الانتيرنيت بالتوك
المزيد.....
-
450 عامًا.. عمر صناعة الحبر الياباني بالأقدام.. ماذا نعرف عن
...
-
ضبط عشرات الألعاب النارية في حقيبة محمولة بمطار في أمريكا
-
بتصاميم مبهرة.. أنفاق مائية تربط جزرًا نائية بين أيسلندا واس
...
-
أذربيجان: -عوامل خارجية مادية وفنية- وراء تحطم طائرة الركاب
...
-
مدفيديف: لا يمكن التسامح مع ما فعلته السفينة النرويجية
-
عشرات القتلى والمفقودين.. الجيش الإسرائيلي يدمر منزلا على رؤ
...
-
عراقجي يكشف عن أهم أهداف زيارته للصين
-
ألمانيا ـ دعوات لتكثيف المراقبة لمكافحة جرائم السكاكين
-
أوكرانيا تخسر 600 جندي في محور كورسك خلال آخر يوم وإجمالي خس
...
-
الرئاسة الفلسطينية تدين إحراق الجيش الإسرائيلي مستشفى كمال ع
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|