|
العبوس.. أردنياً!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3465 - 2011 / 8 / 23 - 13:24
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
.. وفي رمضان على وجه الخصوص، يرتفع منسوب العبوس في وجوهنا؛ ولو كان الابتسام محرَّماً دينياً لقُلْنا إنَّنا في الأردن من أكثر، إنْ لم نكن أكثر، الناس تديُّناً، فالعبوس نحن، ونحن العبوس؛ لكن لماذا؟
لماذا نفتقر إلى إنسانٍ طَلْق الوجه، منبسط المُحيَّا، بشوش الطَّلعة، متهلِّل الغُرَّة، حَسَن البشْر، باسم الثَّغْر، ضاحِك السِّنِّ، مشْرِق الدِّيباجة، فَكِه الأخلاق، رَحِب الصدر مشروحه، تلمع أساريره، وتتألَّق صفحته؟
قالوا إنَّ الوجه العبوس، المُكشِّر، المُقطَّب، المُجهَّم، هو وجهنا الحقيقي، الأزلي الأبدي؛ وكأنَّه فِطْرة الله التي فَطَرَنا عليها، ولا تبديل لخلق الله.
أمَّا إذا سألْتَ مواطِناً مُفْرِطاً في التشاؤم عن السبب الذي يَحْملنا على الاستمساك بالعبوس، ونَبْذ الابتسام وكأنَّه لنا عدوٌّ مبين، فسوف يجيبكَ على البديهة قائلاً، أي متسائلاً تساؤلاً يقطر دهشة وعجباً واستغراباً من رأسه حتى أخمص قدمه، "ولِمَ لا نعبس، ونظل عابسين، إذا ما كان كل شيء في حياتنا وعيشنا يدعونا إلى العبوس، ويحضُّنا عليه؟!".
ولو كان لهذا أن يعرِّف "الحماقة" لعرَّفها قائلاً إنَّها أنْ تتفاءل وتبتسم وتفرح وتُقْبِل على الحياة.. في واقعٍ معيشي يحاصِركَ من كل حدب وصوب بحقائقه، التي تأمركَ بالعبوس والتجهُّم والتشاؤم..، وتنهاكَ عن الابتسام والفرح والتفاؤل..؛ وكأنَّ قصارى قوله هو "المتفاءل أحمق!".
إنَّ نمط عيشنا الاقتصادي هو "البنية التحتية" لعبوسنا وتجهُّمنا..؛ ولا بدَّ لنا أوَّلاً من هدم وتغيير هذه البنية التحتية اللعينة إذا ما أردنا لحربنا على أنفسنا الأمَّارة بالعبوس والتجهُّم أن تؤتي ثمارها، وأنْ ننعم ببنية سيكولوجية جديدة، نَشْعُر بفضلها أنَّ الحياة خير من الموت، وأنَّ الوجود خير من العدم، وأنَّ الآتي لن يأتي على ما بقي فينا من بقايا حُبٍّ للحياة.
ولاعتصامنا بالعبوس والتجهُّم أسباباً تربوية أيضاً؛ فلقد تلقَّيْنا من التربية السيئة ما مسخ وشوَّه وأفسد في أذهاننا مفهوم "الرجولة" حتى أنَّ كثيراً مِنَّا فهموا، ومارسوا، "الرجولة" على أنَّها الاستمساك بالعبوس ولو اجتمعت فينا وحولنا، وتهيَّأت لنا، كل أسباب ودواعي الفرح، فـ "الرجل" لا تَظْهَر فيه، وتتأكَّد، "معاني الرجولة الحقَّة" إلاَّ إذا أظْهَر كل ما يستطيع إظهاره من عبوس، وكَبَتَ كل ما يستطيع كبته من مشاعر الفرح والسعادة، و"عَسْكَر" كل ما يستطيع "عسكرته" من بنيته السيكولوجية، فكلَّما أمعنتَ في طلاء وجهكَ بالعبوس والتكشير والتقطيب والتجهُّم.. عَرَف الناس فيكَ "الرجولة"، واعترفوا لكَ بها!
حتى في العلاقة بالأبناء نُمْسِك عن التعبير عن عواطفنا ومشاعرنا التي تمور كالبحر في نفوسنا، وكأنَّ في إظهار الحب والحنين والشوق انتقاصاً وإضعافاً لـ "الرجولة"، معنىً ومَظْهَراً وسلوكاً!
إنَّها "الرجولة" إذ مُسِخَت وشُوِّهت وأُفْسِدَت أنْ ترى الزوج متأسِّداً في المنزل، وعلى زوجته، عند عودته من حيث كان مُفرِّطاً في كثيرٍ من معاني الرجولة الحقَّة، وكأنَّه لا يتأسَّد في المنزل، أي حيث ينبغي له ألاَّ يتأسَّد، إلاَّ رغبةً منه في تعويض خسائره المعنوية هناك، أي حيث يعمل، مُظْهِراً لسيِّده في العمل، وولي نعمته، من الطاعة والخضوع والاستخذاء والتذلُّل كل ما تأباه، وتستكرهه، الرجولة في معانيها الحقَّة، فعلاقة هذا المرؤوس برئيسه هي كأرضٍ أُلْقِيت فيها رواسي من نفاق وكذب وتملُّق وتزلُّف، فالمرؤوس في سعي دائم إلى إقناع رئيسه بأن فيه من العبقرية والموهبة والفضيلة ما يندر وجوده في البشر كافة. كلاهما يحتاج إلى هذا الفساد الأخلاقي في العلاقة على الرغم من أن المرؤوس لا يُصدِّق ما قال، والرئيس لا يُصدِّق ما سمع!
المتنبي، وفي الأجمل من أقواله الشعرية، قال: "وتصغر في عين العظيم العظائم، وتعظم في عين الصغير الصغائر!".
و"العظيم" من البشر أو "الصغير" هو في الأصل والأساس عظيم أو صغير بالمعيار "التربوي" في معناه الواسع الشامل؛ و"التربية"، في معنى من معانيها الكثيرة، هي "التجربة" إذا خرج منها الإنسان بالدروس والعبر، فلا قيمة للتجربة التي نخوضها أو نتعرض لها إذا لم تتمخض تربوياً عن نتيجة كهذه، فالذي في عقله ضعف هو الذي يخوض التجربة نفسها غير مرَّة وكأنَّه لم يخضها من قبل، متوقِّعاً، كل مرَّة، الوصول إلى نتائج مختلفة!
ونحن نقف على القيمة التربوية للإنسان في الطريقة التي بها يواجه مشكلات ومصاعب الحياة، وينظر إلى الأمور ويزنها ويَحْكُم عليها، فرُبَّ مشكلة تافهة تقصم ظهر إنسان، ورُبَّ مشكلة كبرى تزيده قوة وصلابة.
والإنسان في مجتمعنا لا يتلقى من التربية إلا ما يجعله يَظْهر، عندما يقع في مشكلة ولو كانت تافهة، على أنَّه ضعيف الإرادة، مستسلم منقاد، سلبي في الإحساس والتفكير والعمل، وكأنَّ مشكلات الحياة يمكن أنْ تُحل بالإهمال والنسيان، وبما يشبه الدعاء، أو بقدرية يَسْتَصْغِر فيها نفسه ودوره وإمكاناته.
لقد رأيت بشرا ينظرون إلى "الحبَّة" من المشكلات التي يواجهون على أنَّها "قُبَّة"، كما رأيت بشرا يَسْتَصْغِرون ويَسْتَتْفِهون حتى المصائب والويلات في حياتهم. وقد أثبت وأكد علماء النفس أنَّ "القلق الوجودي (أو الكوزمولوجي)" يُضْعِف كثيراً "القلق الشخصي (أو المعيشي اليومي)" لدى الإنسان، فالذين يتفكَّرون في خلق السماوات والأرض، أو في الكون، نشوءاً وتطوراً ومصيراً، يشتد لديهم الشعور بتفاهة المشكلات والمصاعب التي نواجهها في حياتنا اليومية، ويصبح لديهم من قوة التوازن النفسي ما يقيهم اضطرابات وأمراض نفسية عديدة، يمكن أنْ تتسبب بها ضغوط العيش.
لو أنَّ الإنسان تلقى من التربية ما يمنعه من شغل ذهنه بتوافه الأمور، ومن الإحساس بلذة استقصاء أخبار الناس وأحوالهم وأمورهم الشخصية، لوجد نفسه أكثر انتماءً إلى منطق الحياة، الذي كلَّما زاد الإنسان استمساكاً به سما فكراً وشعوراً وسلوكاً، فقُلْ لي ما يشغل ذهنك أقول لك من أنت، فالبشر، من حيث مستوى حديثهم، في منزلة من ثلاث: منزلة دنيا، تشمل أولئك الذين يشغلون أنفسهم بالحديث عن أخبار الناس وأحوالهم الشخصية، ومنزلة وسطى، تشمل أولئك الذين يتحدثون عن "الأشياء"، ومنزلة عليا، تشمل أولئك الذين يتحدثون عن "المبادئ".
وفي مجتمعنا يكثر أولئك الذين تلقوا من التربية السيئة ما يجعلهم يحتاجون إلى استقصاء الأخبار الشخصية للناس والحديث عنها كمثل احتياجهم إلى تنفس الهواء وشرب الماء، ففي هذا المجال الضيق والتافه من الحياة تكمن أسباب فرحهم وحزنهم، سعادتهم وتعسهم!
لقد غرست فينا التربية التي تلقيناها، والتي غدا تغييرها شكلا ومحتوى ضرورة حياتية وحضارية، الضعف الإنساني والفكري والأخلاقي والحضاري.. والسياسي، فأُصِبْنا، في علاقتنا بالواقع وبحقائق الحياة، بما يشبه مرض الفصام، وكأنَّنا "مخلوقات وهم" قُذف بها في معترك الحياة حتى تلقى حتفها في سرعة وسهولة!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليوم سقط ثالثهم.. وغداً رابعهم!
-
نارٌ سوريَّة تُنْضِج -الطبخة الليبية-!
-
-ارْحَلْ- إذ وصلت إلى -السفير- و-السفارة-!
-
ما هو -الفضاء-؟
-
إنَّه عدوٌّ للسوريين والفلسطينيين معاً!
-
لم يَفْقِدْ الشرعية وإنَّما العقل!
-
بعضٌ من أوجه المَسْخ الدِّيني للمادة
-
محامون عن -جريمة حماة-!
-
أزمة الإرادة الشعبية!
-
-الآن- في الكون هي الماضي!
-
الثورة المصرية إذ أشهرت إسلامها!
-
تأمَّلوا هذه -الشعوذة الكوزمولوجية- للدكتور زغلول النجار!
-
ثورات وقودها -الخوف-!
-
حاجتنا إلى الفلسفة لن تنتهي أبداً!
-
إلاَّ السعودية!
-
توضيح ضروري في شأن -ثبات سرعة الضوء-
-
-المؤمن- و-الملحد-.. و-ثالثهما-!
-
فساد ميتافيزيقي يعتري -الرياضيات الكونية-!
-
مصر تَطْلُب مزيداً من الثورة!
-
-ثورة- إبليس!
المزيد.....
-
شهقات.. تسجيل آخر محادثة قبل لحظات من اصطدام طائرة الركاب با
...
-
متسلق جبال يستكشف -جزيرة الكنز- في السعودية من منظور فريد من
...
-
المهاتما غاندي: قصة الرجل الذي قال -إن العين بالعين لن تؤدي
...
-
الهند وكارثة الغطس المقدس: 30 قتيلا على الأقل في دافع في مهر
...
-
اتصالات اللحظات الأخيرة تكشف مكمن الخطأ في حادث اصطدام مروحي
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي يشكر نظيره الأمريكي على رفع الحظر عن
...
-
-روستيخ- الروسية تطلق جهازا محمولا للتنفس الاصطناعي
-
الملك الذي فقد رأسه: -أنتم جلادون ولستم قضاة-!
-
زلزال بقوة 5.8 درجة يضرب ألاسكا
-
سماعات الواقع الافتراضي في مترو الأنفاق تفتح أفقا جديدا في ع
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|