|
فاقد الصلاحية - للمخرج العراقي رسول الصغير ثيمة غربية ساخنة برؤية شرقية -
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1031 - 2004 / 11 / 28 - 08:57
المحور:
الادب والفن
عوّدنا المخرجون العراقيون في بلدان " اللجوء والهجرة " على تناول موضوعات لها علاقة مباشرة بحياة الجاليات العراقية أو العربية في المنافي، وما تعانيه من إشكالات، وانقسامات حادة بسبب طبيعة الحياة الجديدة، وما يرافقها من تغييرات ثقافية، واجتماعية، واقتصادية، ونفسية، غير أن المخرج المسرحي رسول الصغير قد باغتنا هذه المرة، وقفز إلى الضفة الأخرى لينقل لنا بأمانة المشاعر الحقيقية للمواطنين الأصليين في هولندا، ونظرتهم إلى القادمين الجدد الذين اقتحموا حياتهم المترفة الهادئة، وأربكوا مزاجهم الرائق في أقل تقدير. فالنص المسرحي المعنون " فاقد الصلاحية " هو للكاتب الهولندي خِر تايس " Ger Thijs ". وكالعادة، فالهولنديون لا يجدون حرجاً في اختراق التابوهات الثلاثة، ولعل الهاجس الجنسي، أو بالأحرى، العلاقات المحرّمة هي محور هام لا يمكن تفاديه في هذا النص تحديداً، لأن إهماله يعني إهمال ركن أساسي من أركان البنية الدرامية لهذا العمل المسرحي الجريء. فالعمل لا يحمل رؤية شرقية على الإطلاق، بل هو رؤية غربية بحتة رصدت المتغيرات الاجتماعية والنفسية للكثير من المواطنين الهولنديين الذين اكتسحت مدنهم هجرات جماعية من شتى بلدان العالم. غير أن رسول الصغير لم يلتزم بالنص التزاماً حرفياً، وإنما عالجه برؤية شرقية، وأضفى عليه بعض الرموز والدلالات، معمقاً من بعض إشاراته ومعانيه. فالأسرة التي اختارها المخرج كانت كلّها من الأجانب. فالأب كان من أصول عراقية " أدى الدور الفنان أحمد شرجي "، والأم مغربية، جسدت الدور الفنانة دنيا البركة، والبنت مغربية أيضاً، لعبت الدور الفنانة عليا بوشاه. بينما يكشف النص عن أناس هولنديين، يتحدرون من عائلة إرستقراطية، ويسكنون في حي مترف جله من الأطباء، والمهندسين، والتجار، بحيث تنساب الموسيقى الكلاسيكية إلى سمع الناس الذين يمرون بين أزقة هذا الحي الجميل " الذي بدأ يضج بالأتراك والمغاربة وسواهم من المهاجرين واللاجئين الذين يتناسلون يوماً بعد آخر ". لم يبذل المخرج رسول الصغير أي جهد يُذكر لكي يُخرج المرأة الهولندية من عزلتها، فقد بدت وكأنها كائناً مستوحداً، لا تريد أن تغادر " عشّها " بالمعنى الباشلاري، فهي محتفية بأحلامها السرية، وقلقها الخاص الذي يتمحور حول الآخر أكثر من تمحوره على زوجها " المنلفت " والمنغمس يومياً في البحث عن ملذاته الخاصة. وإذا كان النص الأصلي يصوّر عزلة هذه المرأة الهولندية التي ضاقت ذرعاً باللاجئين الأجانب عن طريق تصوير أم تجلس على كرسي لساعات طوالاً أمام النافذة تتأمل الآخرين " الطارئين " على الحياة الهولندية، فإن رسول الصغير قد جعل منها أماً عراقية لا تختلف عن أية ربة بيت عربية منهمكة في العمل المنزلي الذي جسّده من خلال غسيل الملابس الذي يحيط بها من الجهات الأربع، بل أن البنت جلبت لها ذات مرة ملابس نظيفة كانت معلّقة على حبل الغسيل لكي تجعل منها سجينة المنزل، وأسيرة لعمل لا معنى له تقريباً. هل يريد رسول الصغير أن يوحي لنا بأن حياة الأثرياء الهولنديين فارغة، لا معنى لها في ظل هذا الانزواء القاسي، والابتعاد الفج عن الحياة؟ خرق البنية النمطية لا شك في أن كاتب النص " خر تايس " متمكن من فنه، ومحترف في الكتابة المسرحية، وتتجلى هذه القدرة من خلال تخليص الجملة من طابعها الأدبي، فالمفردة في حقل المسرح والسينما والتلفاز ينبغي أن تكون بصرية أكثر منها توصيفية، وهذا ما هو متحقق في هذا العمل المسرحي الذي قدّمه رسول الصغير بقراءة أخرى مغايرة ربما تكون قد أسعفته بعض الشيء لأن حيلته في عدم الاشتغال على الديكور والمؤثرات السمعية والبصرية تكمن في هذه القراءة المختلفة التي قلبت الموازين كلها في ذهن المتلقي الذي كان يتوقع أن يرى أشياءً مُبهرة في بيت أسرة هولندية إرستقراطية! لا أن يرى امرأة تكشف عن فخذيها المحيطين " بطست الغسيل " وبضعة كراسٍ متناثرة هنا وهناك، وطاولة يتيمة، وبضعة كارتونات، وأكداس من الكتب، وحبل غسيل آخر بدلّت البنت وظيفته لتعلّق عليه صوراً لنجوم السينما وعارضات الأزياء. إن ما ساعد على إنجاح العمل في مكان يفتقر إلى الشروط الفنية، هو القراءة الجديدة التي قدّمها لنا المخرج رسول الصغير. فالمكان مجرد صالة كبيرة، مستطيلة، لا يمكن ترويضها بسهولة كي تكون منزلاً أو " فيلا " لأسرة ثرية. فالمتلقي لا يقتنع بهذا المكان ما لم يرتكن على تصوّر آخر، هو بالضرورة رمزي، ومشحون بالدلالة. ولكي يخرج من النمط التقليدي للبيت، بكل موجوداته، فقد اتكأ على شخصيات استثنائية، " مستديرة " ساعدت كثيراً في إقناع المشاهد، بل وشدته أكثر إلى ثيمة العمل المسرحي. فالأب هو رجل ماجن، ومدمن على تناول الكحول، وأكثر من ذلك فهو مدمن على الخيانة الزوجية التي تعرفها زوجته، وله علاقات واسعة مع نساء أخريات، ولكن الشيء الصادم في هذا الأمر أنه على علاقة جنسية بابنته، الشابة، المنحرفة، والمرتبطة بعلاقة جنسية مثلية مع صديقتها " نيللي ". هل يريد المؤلف أن يقول بأن المجتمع الهولندي المعاصر هو مجتمع منحّل، ومتفكك إلى هذه الدرجة بحيث يرتبط الأب بعلاقة جنسية محرّمة مع ابنته الوحيدة؟ وهل يمكن تعميم هذه الظاهرة على المجتمع الهولندي برمته؟ الجواب هو، كلا، بطبيعة الحال، ولكن مَنْ يكشف لنا المحجوب، والمقصي، والمسكوت عنه؟ ربما تكون معالجة رسول الصغير هي الانعطافة الأجمل في العمل المسرحي، فهو لم يقدّم لنا " عملية السفاح بالمحارم " بشكل واقعي صادم، وإنما استعاض عنها بالرمز. صحيح أن البنت قبّلت والدها وهو نائم، أو غافٍ على الأصح، لكن المخرج أبقى الفكرة ككابوس في اللاوعي، بينما لو تركنا الأمر لمخرج هولندي لقدّم لنا مشهد الاغتصاب أو المواقعة الجنسية من دون رتوش! إن إجبار الفتاة على تناول الطعام بهذه الطريقة الفظة، ودسّ وجهها في إناء اللبن هو اغتصاب رمزي، ومعنوي أيضاً. الزوجة كانت مثالاً غريباً في الصبر وتحمل ما لا يُطاق. فهل من المعقول أن تقبل المرأة بخيانة زوجها من أجل أن توحي للآخرين بأن عائلتها مترابطة ومنسجمة؟ أراد المخرج أن يمعن في الإشارة إلى تفكك العائلة الهولندية، فقدّم لنا الأب الذي يعرف بعلاقة بنته المثلية مع صديقتها نيللي، ولكنه أبقى على هذا الخبر كوسيلة للتهديد إذا ما أفضت البنت لأمها بسر من أسرارها الكثيرة. هذا الاضطراب الذي تكشف عنه المسرحية في الحياة الأسرية للهولنديين هو حقيقة دامغة بالنسبة للمؤلف، وهو موضوع ثر، وشائك، ومثير بالنسبة للمخرج العراقي رسول الصغير الذي خطف الأضواء في هذا العمل على وجه التحديد. جمالية الأداء الفني لابد من الإشادة بالحضور القوي للفنان أحمد شرجي في أغلب الأعمال الفنية التي قدّمها للمسرح والتلفاز. وقد تألق في هذا العمل المسرحي الذي قُدِّم بالهولندية، وهذه هي التجربة الأولى التي يخوضها أحمد باللغة الهولندية. ولكي نكون منصفين، فحتى لكنته كانت مقبولة، ولغته كانت مفهومة لدرجة أن الهولنديين كانوا مندغمين مع الدور، ومتفاعلين مع ما يقوله أحمد شرجي. سخرية أحمد كانت سوداء فعلاً، وحضوره كان خفيفاً، وجميلاً، وأخّاذاً في العديد من المواقف. الأم " دنيا البركة " كانت جذابة هي الأخرى، وقد أدت دورها الحساس باسترخاء تام، وبالذات حينما تحاول أن تخدعنا جميعاً بأنها لا تعرف بخيانات زوجها المتعددة، وهي تعرف بيقين لا يخالطه الشك أنه يخونها، وحينما يعود زوجها من " رحلة النزوات اليومية التي لا تنتهي " تتوسله زوجته أن يغيّر من نمط حياته، لكنه يعلّق سلسلة أخطائه على شمّاعة الأجانب الذين يسكنون الحي الارستقراطي، هؤلاء الأجانب الطارئين، المؤرقين الذين تخافهم الزوجة، وبسببهم انزوت إلى صدفة عزلتها راضية بكل الخسائر التي تتكبدها يومياً. هكذا تتواصل الحكاية بحيث تتكشف أسس العلاقة بين العلاقة الأب الثمل، الباحث عن الملذات، الخائن لزوجته، والمُنتهك للمحرمات، والبنت المنحلة، والأم المنزوية في بيتها والخائفة من كل شيء. هكذا تنتهي المسرحية بمثل ما ابتدأت به وكأن كل ما أُفتُضح لم يفتضح!
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فوز الكاتبة، وعضوة البرلمان الهولندي أيان هيرسي علي - من أصل
...
-
زنّار النار - لبهيج حجيج: هذيان، وقلق، ولهاث خلف حلمٍ متوارٍ
...
-
فيلم - خضوع - يفضي إلى اغتيال مخرجه الهولندي ثيّو فان خوخ عل
...
-
طيّارة من ورق - لرندة الشهّال جماليات الخطاب البصري، وتفكيك
...
-
فيلم - زائر - لبسام الذوادي بين بنية التخاطر والنهاية الرمزي
...
-
باب العرش - لمختار العجيمي- الشريط الذي ترقّبه الجمهور التون
...
-
فوق كفِّ امرأة - لفاطمة ناعوت: خدع فنية، ومتاهات نصِّية حافل
...
-
مَنْ قال إن - الملائكة لا تحلّق فوق الدار البيضاء - ؟:محمد ا
...
-
- بحب السيما - لأسامة فوزي الفيلم الذي انتزع إعجاب النقاد وا
...
-
الشاعرة الكردية فينوس فائق : اشعر بالضيق حينما أقرأ قصيدة مش
...
-
في الدورة العشرين لأيام قرطاج السينمائية: تكريم الفنانة يسرا
...
-
غير خدوني - لتامر السعيد ينتزع جائزة أفضل فيلم في مهرجان الإ
...
-
أمستردام تستضيف مهرجان روتردام للفيلم العربي في - دورة المدن
...
-
مؤسسة -آل مكتوم- الخيرية تتورط في دعم مشروع لليمين الهولندي
...
-
قرية - شايامالان مشوّقة، لكنها تخلو من الرعب والنهاية المفاج
...
-
النصر الأخير - للمخرج الهولندي جون أبل يحصد الجائزة الكبرى ف
...
-
مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة في دو
...
-
يوم القدر - لطارق هاشم: فيلم يجمع بين الجريمة والرعب والإثار
...
-
موقع - الحوار المتمدن - يتابع وقائع مهرجان الإسماعيلية الثام
...
-
الشاعرة السورية عائشة إرناؤوط لـ ( الحوار المتمدن ): لدي حلم
...
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|