|
أشكال الحياة المتاحة
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 3461 - 2011 / 8 / 19 - 00:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في أي وقت، ومن أي زاوية من زوايا المعمورة، لو تأملنا حولنا، لوجدنا كونا رائعا مدهشا، وطبيعة ساحرة خلابة، وعددا لا حصر له من الكائنات. ولو تأملنا أكثر لاكتشفنا أن هناك نظاما دقيقا وقوانين صارمة تضبط حركة كل شيء، من أضخم المجرات حتى أدق الميكروبات. ولكن مع المزيد من التعمق والتبصر، من الممكن حينها أن نثير بعض الأسئلة الإشكالية: هل حقا هناك نظام دقيق، أم هي حالة من العشوائية والعبثية ؟! وإذا كان المشهد العام للكون عند النظر إليه على مستوى عناقيد المجرات يبدو شديد التجانس، فلماذا يبدو المشهد مختلفا وشديد الفوضى وبلا تجانس عند النظر إليه على مستوى ما دون المجرات، وكيفية توزيع مادة المجرات في المكان !؟ وهل الحياة على الأرض بشكلها الحالي هي الشكل الوحيد المتاح والممكن ؟ بمعنى أنه لو تمكّنا بطريقة ما من إعادة عقارب الساعة مليارات السنين، إلى نقطة البداية، ووضعنا الأرض الأولى أمام مهمة نشر الحياة في أرجائها، وشاهدنا كيف ستعيد إنتاج الحياة لتملأ المكان مرة ثانية ؟ فهل سنرى نفس المشهد الأرضي بجباله ومحيطاته وصحاريه ؟ وهل سنشهد نفس الكائنات وأنماط الحياة التي نراها اليوم ؟! وهل سيكرر التاريخ نفسه ؟! في تجربة علمية هي الأكثر كلفة في تاريخ العلم، ينفّذ منذ سنوات علماء من مختلف دول العالم تجربة محاكاة الانفجار العظيم، وهو الانفجار الذي أطلق شرارة الخلق، وعلى إثره تشكَّل الكون. ففي منطقة "سيرن" قرب الحدود الفرنسية السويسرية، يسعى العلماء لإحداث تصادم بين حزمتيْ جسيمات من البروتونات تسيران في اتجاهين متقابلين في مسار بيضاوي على سرعات متناهية الكبر تكاد تقترب من سرعة الضوء، داخل نفق طوله 27 كيلومترا، في مصادم الهدرونات الكبير، الذي يحتوي على مغناطيسات عملاقة وأجهزة إلكترونية معقدة، بلغت كلفتها عشرة مليارات دولار، وبكم طاقة هائل يصل إلى 3.5 تيرا إلكترون فولت، لمحاكاة الظروف التي أعقبت الانفجار العظيم . ويأمل العلماء من خلال هذا التصادم أن يتمكنوا من رصد وتحليل ما حدث خلال فترة متناهية الصغر من الزمن أعقبت حدوث الانفجار العظيم، الذي وقع قبل 13.7 مليار عام، ومن ثم ليفهموا كيف تشكل الكون، وكيف انطلقت الحياة، وبالتالي معرفة نظامها وقوانينها. وبعد أن عرفنا أن علماء الأرض متفقون على قصة الانفجار العظيم، لنعيد طرح السؤال السابق، ولكن هذه المرة على مستوى الكون، الأمر الذي يعني الرجوع بالزمن ثلاثة أضعاف، لنقف عند حافة الزمن السحيق، ونبدأ برصد الانفجار الأول وتتبع مساراته الشعاعية. وقد تعلمنا من الهندسة أنه عند رسم خط مستقيم، فإن أي انحراف مهما كان بسيطا في مساره، سيؤدي إلى انحراف كبير بعد مسافة معينة، ويتوقف مدى هذا الانحراف على مقدار بُعدنا عن نقطة البداية، ومن هنا فإن كل جزء من الثواني الأولى في تلك اللحظات المصيرية من تاريخ الكون، والتي تَشكَّل خلالها الانفجار العظيم سيكون تأثيرها حاسما بعد ذلك، ربما على مستوى المجرات. والسؤال الافتراضي المطروح: فيما لو أعيد الانفجار العظيم مرة ثانية، فهل سينشأ عنه نفس هذا الكون الذي نعرفه حاليا ؟! وماذا لو أكد علماء "سيرن" أنه كان هناك ما لا حصر له من أشكال الانفجارات المحتملة ؟! لنعد إلى الأرض مرة ثانية، ونضرب المثال التالي: لو أن شخصاً ما كسر جرَّة تعبيرا عن فرحِهِ بالتخلص من مديره مثلاً، ألقاها من علو شاهق، فتكسرت إلى مئات الشظايا والنتف، وتناثرت في المكان على نحو عشوائي. فلو تخلص نفس الشخص من مدير آخر وأراد أن يلقي جرّة أخرى لها نفس الشكل والوزن، ومن نفس الارتفاع، وبنفس الكيفية التي فعلها سابقا، فهل سنحصل على نفس شكل الشظايا والنتف ؟! الجواب بالتأكيد لا، حتى لو كرر العملية ملايين المرات. الدكتور "هويمارفون ديتفورت"، يجيب على هذه الأسئلة في كتابه "تاريخ النشوء" مستنتجاً أن احتمال أن تتكرر الحياة بالشكل الذي اتخذته كنتيجة لتكاثر وتطور سلالة الخلية البدائية، بأن تتكرر بالصدفة مرة ثانية على الأرض، أو أن تنشأ بنفس الكيفية وتنتهي إلى نفس المصير عن طريق الصدفة في كوكب آخر من هذا الكون الفسيح، هو احتمال يقترب من الصفر. ويضيف "ديتفورت" إن ما نستطيع استنتاجه هو: "أن الطبيعة خلال مليارات السنين من العمل على الأرض لم تتمكن سوى مرة واحدة من تهيئة المقدمات الضرورية لنشوء الحياة، من خلال بذرة وحيدة فريدة منعزلة". ولكن هذا لا ينفي إمكانية نشوء أشكال أخرى للحياة، ستكون نتيجة لتطور خلية أخرى مختلفة بمواصفات وخصائص مختلفة، بمعنى أن الطبيعة لم تكن مضطرة ومجبرة على قبول خلية معينة دون أخرى، وبالتالي فإن الإدعاء بأن الحياة على الأرض لم تكن لتتحقق إلا بالشكل "الوحيد" الذي نعرفه، أو أنها لا تتحقق أبداً، هو إدعاء غير صحيح، فقد شهدت الطبيعة ما لا حصر له من أشكال الحياة التي لم تنجح وانقرضت مرارا وتكرارا خلال مسيرة التاريخ التطوري للحياة. وهذا ما يدعم استنتاج ديتفورت بأن "الجد المشترك لجميع الكائنات الحية، هو الوحيد الذي اجتاز بسلام المنافسة الشديدة بين الاحتمالات الأخرى خلال سنوات التطور"، ففي التاريخ المبكر للأرض كان هناك عدد كبير من البدايات المختلفة لتشكل الحياة، أي المشاريع الحياتية المتنوعة، ولكن بقي منها مشروع وحيد انتصر في النهاية، لأنه كان الأفضل والأنجع، وهو الوحيد الذي نجا من بين بقية المشاريع وواصل تطوره حتى غدى بالشكل الذي نعرفه اليوم . وحول نقطة بدء الحياة على الأرض، التي اتفق العلماء بأنها كانت نتاج تجمع أحماض أمينية معينة شكلت أول بروتين، يضيف "ديتفورت" إن "احتمال أن يصطف بالصدفة 20 حامض أميني مختلف في سلسلة مكونة من 104 حلقات لتشكل أنزيم معين كما هو الحال في (سيتو كروم سي) مثلا، هو احتمال 1 مضروبا في عشرين 104، وهذا يعني أنه لو تكوّن في كل ثانية منذ نشأ الكون حتى الآن أنزيم جديد لحصلنا على (10 17) أنزيم فقط، ومن البديهي أن هذا الاحتمال الضئيل جداً - مقارنة بالعدد الكبير جداً الذي يمثل كل الاحتمالات - ينطبق على جميع الأنزيمات وعلى الأحماض النووية". وهذا يعني أن نشوء الحياة مسألة إما أن تكون غير محتملة على الإطلاق، وإما أنها تُشكِّل حالة غير نموذجية فريدة من نوعها، وُجدت في الكون لمرة واحدة فقط، ومن المستحيل أن تتكرر في مكان آخر. ولكن ألا يدعم هذا فكرة أن هناك خالق عظيم، هو الذي سمح لهذه الحالة الفريدة من نوعها أن تتشكل ؟! الاحتمال الأول غير وارد الأخذ به، لسبب بسيط أن الحياة موجودة فعلا. أما الاحتمالين الثاني والثالث، فهما واسعا الانتشار ويجري مناقشتهما باستمرار. دون أن نسقط احتمال وجود حياة على كواكب أخرى. ولكن جميع الأمثلة المطروحة التي تنفي إمكانية الصدفة لتَشكُّل حدث معين، وإن كانت إحصائيا صحيحة، إلا أنها تفصح عن إشكالية في طريقة التفكير، وإساءة في استخدام الرياضيات لإثبات وجهات نظر مسبقة. حيث أنها تقلب المشكلة رأسا على عقب، أي المشكلة التي كان يتوجب على الطبيعة حلها عند نقطة البدء، فالطبيعة كما يقول "ديتفورت" لم تكن مجبرة على أن تعيد عن طريق الصدفة إنتاج شيء كان موجودا، أي صف الأحماض الأمينية التي شكلت البروتين الأول بكل تفاصيله وجزيئاته، فما كان موجودا في الطبيعة آنذاك كان بالغ التواضع، ولكنه كان كافيا لبدء عملية التطور، نظرا لغياب المنافسين، ولأن القيود المفروضة على الطبيعة كانت أقل. وطالما أسقطنا المنطق الخاطئ للإحصاء، الذي بدى كما لو أنه ينفي إمكانية نشوء حياة على الأرض، وقد نفى بالفعل إمكانية نشوءها على كواكب أخرى، لنطرح السؤال: هل هناك في أطراف الكون وأرجاءه المختلفة كواكب أخرى تتلقى ضوء شموس خاصة بها، وهل ثمة مخلوقات أخرى تتمتع ببهاء هذا الكون وتدرك مدى عظمته، غير سكان الأرض ؟! المشكلة أن أقرب مجرة علينا - وهي جارتنا المرأة المسلسلة أندروميدا - تبعد عنا مليوني سنة ضوئية ، وإذا كان فعلا هنالك سكان في إحدى المجرات القريبة أو البعيدة، فإن اكتشاف ذلك بالوسائل المعروفة حاليا أمر مستحيل، لأنه يعني ببساطة أن علينا أن ننتظر ملايين السنين قبل أن يصلنا أي رد، والاحتمال الوحيد هو أن يكون سكان أحد الكواكب قد سبقونا حضاريا بزمن طويل، واكتشفوا أمرنا فبعثوا لنا برسائلهم قبل ملايين السنين لتصلنا في الوقت الحاضر، فنتيقن حينها أننا لسنا الوحيدون في هذا الكون، ولسنا أذكى المخلوقات فيه. وهذا مجرد فرض تخيلي لا يمكن للعلم أن ينفيه أو يؤكده. ولكن إحصائيا هذا ممكن، وباستخدام نفس مثال الجرّة المكسورة التي استخدمناه لنفي إمكانية أن تعيد الحياة نفس شكلها مرة ثانية على الأرض، أو في حال توفرت لكواكب أخرى ظروف ملائمة لنشوء خلية حية تمكّنها من بدء عملية التطور، وطالما أن الحصول على نفس شكل وتوزيع شظايا الجرة المكسورة أمرٌ مستحيل، إلا أننا سنحصل على أية حال لشكل ما لهذه الشظايا في كل مرة، سواء أسقطناها من نفس الارتفاع وبنفس الطريقة، أم أسقطناها بشكل مختلف. وهذا يعني أنه لو كانت هناك حياة في كوكب آخر في هذا الكون، فإن سكانها من الكائنات الحية حتما سيكونون مختلفون عنا أيما اختلاف، وسنرى منهم كل ما هو عجيب وغريب من أنماط الحياة، لأن المعايير الأرضية التي شكلت حياتنا ليست معايير ملزمة على مستوى الكون، فما يبدو لنا غير محتمل، يمكن أن يكون لمخلوقات أخرى في أماكن أخرى مريحا جدا، أو ربما مفضلا . ولو تركنا الكواكب الأخرى في حالها، وعدنا إلى زمن هيمنة الديناصورات على الأرض، وتخيلنا أن النيزك الذي أذاقها الويل وتسبب بفنائها، قد انحرف عن مساره بمقدار بوصة على بعد ملايين الأميال، فإنه سيواصل رحلته المجنونة في غياهب الفضاء ليضرب كوكبا آخر، هذا يعني أن الديناصورات لن تموت، وستواصل هيمنتها على بقية المخلوقات، الأمر الذي سيمنع نشوء وتطور الثديات، أو أنها ستنشأ بصورة مختلفة تمكّنها من التعايش مع هذه الوحوش الضخمة. وربما تواصِل الديناصورات تطورها، فتسمح لها جمجمتها الضخمة أن تُطور ذكائها أكثر، معنى ذلك أنها اليوم - أي بعد 65 مليون عام من نجاتها من النيزك – ستكون هي من تكتب تاريخ الأرض، وتقترح النظريات المختلفة التي تفسر نشوء أسلافها من الزواحف !! وهناك ما لا حصر له من الفرضيات التي لو تحققت لغيرت شكل الحياة على الأرض كليا، فلو نفذت والدة "هتلر" رغبتها وأجهضت جنينها قبل أن يرى النور، لما قُتل 50 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، ولما كان النظام العالمي بالشكل الذي نراه اليوم، ولتغيرت في أعقاب ذلك خارطة العالم السياسية جذريا. ولو تمكن حيوان منوي آخر، من بين ملايين الحيوانات المنوية - غير الذي جئنا منه - واخترق جدار البويضة، فحتما سيأتي إنسان آخر مختلف، طالما أن لكل حيوان منوي خارطته الجينية الخاصة به، وأن كل تلقيح لن يتطابق مع الآخر. فهل لنا أن نسأل هل هناك إرادة وتوجيه قادت هذا الحيوان المنوي بالذات ليتفوق على أقرانه من ملايين الحيوانات المنوية، ليجد سبيله لإختراق البويضة، أم أن الأمور تمت هكذا ليحكمها العشوائية والصراع وتوفر ظرف موضوعي قاد هذا الحدث ؟! يقول المؤمنون بالعشوائية أن مجرة درب التبانة تكونت من رحم الفوضى التي تمثلت في الانفجار العظيم، والأرض نفسها تكونت من فوضى تصادم شمسنا مع شمس أخرى، سُلخت من جسديهما كتلا ملتهبة، شكلت فيما بعد كواكب المجموعة الشمسية ، لتنطلق من بينها الأرض كالشظية الساخنة، لتبرد وتتهيأ بعد ذلك، على مدار ملايين السنين لاستقبال الحياة، لنتوهم أن هذه الشظية قد بردت وتهيأت من أجلنا فقط، بينما لم يُسعف الحظ مليارات الشظايا الأخرى في مجرات الكون العديدة أن تتهيأ عليها فرص الحياة. هل هي صدفة سعيدة جاءت بنا، وحالة فريدة انبثقت من رحم العشوائية ؟؟ هل وجودنا هو الغاية من خلق الأرض ؟ أم أننا مجرد ناتج عرضي نما على هامشها ؟! أم أن وجودنا تدبير وحكمة من لدن إله قدير، لا نعلم إذا كرر العملية في أماكن أخرى ؟! ونحن نعلم أن كوكبنا تعرض لمآسي كثيرة في بداية تشكيله، ولكنه رغم ذلك استطاع الصمود، فهل سيقدر على البقاء ضمن شروط ارتهانه بحظه من الكوارث الكونية ؟! ماذا لو تعرضت الأرض لهجوك نيزكي غير مسبوق ؟ هل ستصمد ؟ أم أنها ستُدفن في يوم ما داخل ثقب أسود ؟ العلم يتنبأ بأن وجود الكون واستمراره لن يتأثر بدمار الأرض، وسيواصل الكون مسيرته دون أن يكترث بما آل إليه مصيرها، كما كان وجوده قائماً قبل أن تظهر الأرض لزمن طويل. هذه التساؤلات والأمثلة إنما تقود لطرح الأسئلة المركزية: هل شكل الحياة الحالي بكل موجوداتها وحيثياتها وتناقضاتها هو الشكل الوحيد المحتمل ؟ وهل أخذ هذا الشكل مسارا تطوريا حتميا وإجبارياً،لم يكن ليسمح بوجود أشكال أخرى ؟ وما هي الحكمة من هذا الإسراف في حجم الكون إلى حد يفوق قدرتنا على التصور ؟ هل يسيّر الكونَ نظامٌ دقيق ومحكم ؟ أم فوضى وعشوائية شديدتين ؟! إذا كان ثمة نظام يحكم إيقاع الحياة على الأرض أوجدَها بأفضل صورة وأحسن تكوين، فكيف نفسر الكوارث الطبيعية التي تخرّب وتهدم وتحرق كل شيء في طريقها ؟! ألم يكن ممكنا تصور أرضٍ بدون براكين ولا زلازل وأعاصير، ليعيش إنسانها مطمئنا هادئ البال ؟ وهذا بدوره سيقودنا لأسئلة من مرتبة أخرى: هل كانت الحياة في مسيرتها تخضع لقوة خارجية مهيمنة كانت تتحكم في كل مساراتها، وتتدخل في أدق تفصيلاتها، وتجبرها على أخذ منحى معين دون آخر ؟ أم كانت الأمور تسير وفق قوانين الطبيعة وصراع الأضداد ؟ إذا كانت إجابة السؤال الأول نعم، فما الجدوى من وجودنا على الأرض، طالما أن مسرح الحياة معد سلفا بكل تفاصيله ؟ الكاتب والمفكر المصري سامي لبيب يجيب بأنه "لا توجد للإنسان حرية مطلقة بالمعنى الوارد في أذهاننا، أي تلك الإرادة الخالصة التي تختار بحرية تامة دون قيود، بل يوجد فقط فعل وسلوك نتاج محصلة لقوى عديدة تؤثر على الإنسان، ويكون صراعها وتفاعلها ونواتجها ومحصلتها هي سلوكيات وأفعال وليدة الظروف المادية المحيطة به، والتي لم يخترها، ولم يكن له دور في وجودها، فهذه القوى والظروف هي بالضرورة منفصلة عن الإنسان، يتأثر بها ويؤثر عليها، وليس له سوى قدرة محدودة جدا في تغييرها" . فهْمُ الطبيعة بمقتضى قوانينها العلمية، سيخلصنا من المأزق الذي ورّطنا فيه أصحاب الفكر اللاهوتي والديني، الذين دأبوا على ربط كل صغيرة وكبيرة بوجود الله سبحانه وحكمته وغايته، متجاهلين تماما أي دور محتمل للطبيعة. حيث أن حدوث مجاعة يموت فيها الأطفال على حضون أمهاتهم وهنَّ يبكين وينتحبْنَ عجزهِنَّ عن تأمين كسرة خبز، أو شربة ماء، يتعارض مع عدالة الخالق ورحمته، ولكن ربط المجاعات بعوامل المناخ وظروف الجفاف مثلا، سيعني أن الطبيعة هي التي تأخذ دورها في تسيير الأمور، وهي غير عاقلة ولا مدركة لما تفعل، ولا يهمها مصير الأطفال، كما لم تعبأ بمصير الكائنات التي انقرضت ولم يعد لها وجود، سوى متحجرات متناثرة هنا وهناك. ومن ناحية ثانية فإن التسليم بقوانين الطبيعة لا يتعارض بالضرورة مع وجود الإله، وقانون التطور لا يتناقض مع وجود إرادة إلهية، ولا ينفي إمكانية تدخلها في مفاصل معينة، ونظام الطبيعة - وإن بدا أحيانا غير متوازن - لا ينفي وجود حكمة ربّانية ما، قد نجهلها حاليا، أو أن البعض غير مقتنع بها. فعلى سبيل المثال يقول البعض أن طبيعة كوكب الأرض غير مثالية، وفيها ثغرات وعيوب كثيرة، من مثل أن توزيع اليابسة بالنسبة لخطوط العرض وملاءَمة المناخ توزيع غير ذكي، أدى إلى خسارة مساحات شاسعة لأماكن مثالية من ناحية المناخ ضاعت في المحيطات، وأيضاً المساحات الشاسعة المفقودة في الصحارى والجبال الجرداء، فضلا عن البراكين والزلازل وقلاقل قشرة الأرض التي لا تهدأ ... ولكن هذا لا يعني بالضرورة خلل في الخلق. فقد يعني أن الخالق العظيم قد هيأ الأرض بشروط غير مكتملة تماما، لأن الكمال لله وحده، وعندما تكون الحياة مثالية بشروطها، وكل صغيرة وكبيرة فيها تجري بانتظام دون مشاكل، ستصبح حياة تافهة، خالية من أي معنى. فالجمال تبرز قيمته مقابل القبح، والسعادة نشعر بطعمها إذا ذقنا الألم، والنظام ندرك معناه بعد أن نشهد الفوضى. وإذا سلّمنا بأن عوامل الجفاف هي من تسبَّبَ بالمجاعة، فإننا مدعوّون بأن نسلّم بقوانين الطبيعة كلها، التي تتحكم في مسارات الحياة بكل أنواعها وأحداثها واحتمالاتها. بدءً من التصادمات الرهيبة التي تحدث باستمرار في أرجاء مختلفة من الكون، والتي تتعارض مع فكرة أن كل شيء محسوب بميزان دقيق، وانتهاءً بخيارات الفرد البسيطة، التي تعطيه قدرا من الحرية، وبالتالي معنى لحياته. لقد حاول الإنسان ومنذ أن امتلك وعيه تصوُّر حياةٍ بلا شقاء ولا معاناة، وبعد آلاف السنين من مسيرة تطوره الحضاري، حقق نجاحات مذهلة في هذا المضمار، دون الاستعانة بقوى ميتافيزيقية، بل فقط بالاعتماد على عقله وإرادته وذكاءه الجمعي، فإذا قمنا بإجراء مقارنة بسيطة بين أي عصرين متلاحقين، سنشهد العديد من الإنجازات التي ساعدت الإنسان في التخلص من بعض آلامه وخوفه وأمراضه، وأمّنت له قدرا من الراحة والرفاهية، وحققت له مزيدا من الرخاء والتقدم. وتكفي الإشارة أنه بفضل التقدم العلمي والصحي، قد تطور معدل عمر الإنسان من 18 سنة في العصر الحجري، إلى 23 سنة في زمن المسيح، إلى 45 سنة في بداية القرن العشرين، حتى وصل اليوم نحو 70 سنة. علما بأن متوسط عمر الإنسان في الدول الفقيرة والنامية ما زال بحدود 41 سنة فقط حتى هذا اليوم، بينما يبلغ في الدول المتقدمة نحو 80 سنة . ولكن، وللأسف بمقدار ما جلبت الحضارة الراحة للإنسان، وأطالت في عمره، فقد جرّت عليه الويلات والدمار، ومزيدا من البؤس والشقاء، وأيضا بفعل إرادته ووعيه !! وطالما أن شكْل حياتنا الحالي هو الشكل الوحيد الذي نعرفه، وهو نموذج غير مثالي على الإطلاق، وطالما أن قوى الطبيعة وقوانينها هي من يتحكم بمجريات الأمور، وأن الإنسان بذكائه بات قادرا على فهم هذه القوانين والسيطرة عليها، فماذا تراه فاعلا بهذا الذكاء، الذي تفوق فيه على كل الكائنات ؟؟ وإلى متى سيبقى الإنسان حزينا ؟!!
المصادر: هويمارفون ديتفورت، تاريخ النشوء، ط2، 2003، دار الحوار للنشر، ترجمة محمود كبيبو، دمشق، ص 164 – 167 بول ديفنر، الدقائق الثلاث الأخيرة، منشورات دار علاء الدين، ترجمة أحمد رمو، ط2، 2004، دمشق سامي لبيب، الوجود بين العشوائية والنظام، الحوار المتمدن - العدد: 3388 - 2011 / 6 / 6 ، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=262085 د. محمد بشير شريم، الشيخوخة أسباب تطور، جوانب، منشورات الاتحاد العام للجمعيات الخيرية في الأردن، ط1، 1992. ص 45، 105، 115
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في البحث عن جدوى للحياة
-
هذا العالم المجنون
-
هل دخلت البشرية طور الحضارة ؟!
-
ظهور الإنسان
-
ما لم يقُلْه دارون
-
انفجار الحياة
-
أينشتاين على الخط - النظرية النسبية في فهم نظام الكون
-
كيف نفهم نظام الكون ؟
-
ديمقراطيات استبدادية
-
لماذا لا ينتحر الرؤساء العرب ؟!
-
دبي .. صورة قريبة لمستقبل بعيد
-
المغرب .. البوليساريو .. وأزمات أخرى لم تحل
-
السودان الجنوبي مؤامرة خارجية أم استحقاق داخلي
-
السياسة الروسية في الشرق الأوسط
-
الثورات العربية بين الإرادة الشعبية ونظرية الفوضى الخلاقة
-
عصر الثورات العربية الأسباب والتداعيات
-
الولاء والبراء والتتريس - في الفكر التكفيري
-
التكفير وحرية التفكير
-
المنهج التكفيري عند الإسلاميين
-
منهج التكفير في العقل الإسلاموي
المزيد.....
-
بيستوريوس: لا يجوز أن نكون في موقف المتفرج تجاه ما يحدث في س
...
-
أردوغان يعلن -مصالحة تاريخية- بين الصومال وإثيوبيا
-
الرئيس التركي أردوغان: اتخذنا الخطوة الأولى لبداية جديدة بين
...
-
قوات -قسد- تسقط طائرة أمريكية مسيرة
-
-CBS NEWS-: ترامب يوجه دعوة إلى شي جين بينغ لحضور حفل تنصيبه
...
-
مجلس النواب الأمريكي يصادق على الميزانية الدفاعية بحجم 884 م
...
-
العراق.. استهداف -مفرزة إرهابية- في كركوك (فيديو)
-
موسكو تقوم بتحديث وسائل النقل العام
-
قوات كردية تسقط بالخطأ طائرة أميركية بدون طيار في سوريا
-
رئيس الإمارات وملك الأردن يبحثان التطورات الإقليمية
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|