أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نرين طلعت حاج محمود - العجوز و الياسمين















المزيد.....

العجوز و الياسمين


نرين طلعت حاج محمود

الحوار المتمدن-العدد: 1028 - 2004 / 11 / 25 - 09:32
المحور: الادب والفن
    


اذكُرُ أنها كانت تقول : هاجروا و تركوا السنونو وحيدا حتى أقبل الشتاء.
و أنا عاقبت ذاكرتي كثيرا لأنها رمت عنها مصيره الحزين.
و أنا اذكرها كأنها رؤيا تجلَّت لِوجدان ناسك صوفيٍّ رماه الناس بالجنون , و أنا اذكرها كأنها حُلمٌ في صلاة راهبٍ بوذيٍّ منسيٍّ على طرف الطريق, و أنا ا ذكرها صوراً ضبابية و أخالها بلباس السنونو الحزين.
امشي في طريقي و أنساها فتتكشف لي كليلةِ القدرِ، تمشي كشبح فارع يمتد حتى السماء، تداعب شجيرتها المدللة، تمد يديها بين أغصانها ، تتناول من أوراقها ثم تنهدُّ فوق التراب تعبث به, تبعثره, تجّمعه, و تقولُ الى تراب نعود.
و أحيانا تأتي إليَّ وجها بلا ملامح تضع في حضني كمشات من أزهار بيضاء و ينقطع الحلم كأن غيبوبة ابتلعت ذلك الزمن فأراها مرة أخرى تجلس بجانبي أو أجلس بجانبها, تقتعدُ الأرض كومةً من عظام و من رخام, تغز أزهارً صغيرةً , تمرر خيطا ,تسحبه , تعقده ثم تعلق بصدري طوقا من ياسمين , يحتويني فرحٌ غامرٌ و أحسُّ كأنها للتو لمست بيدها القاسية العظميَّة ظهري فأتساءل كيف يمنح الجفاف هذا الحنان.
و ُحلمٌ آخر يأتيني في مكان ما لا اذكر أين كان, ربما في طرف قرية ما ، في فلاة واسعة كنت ألهو بقربهما, جَلست هي و الأخرى فوق حجارة سوداء كالغربان وسط الحقول و تحدثتا عن فتاة ما قلبها ممئلىء نور و عيناها ممتلئتان نور و ثمة من ادخلوها الى الظلام و كنت أتألم لأجلها و يخيَّل لي أن أشخاصا ادخلوها غرفة مظلمة و أغلقوا النوافذ و الأبواب و أرخوا الستائر , فاسمع العجوزين تغنيان (حجمي يسارقري....راي ).
و أنا اذكر عالما حالما كل شيءٍ فيه اخضر , كنت اركض فيه و أختبئ بين العشب الطويل و أنقض على الحملان الصغيرة , فاسمعها تناديني و ترجوني أن ارحم الحملان.
و أنا سمعتها تُحدث الأخرى عن امرأةٍ كبيرةٍ ، و تساءلت هل هناك في هذا العالم إمرأة اكبر من جدتي، هل هناك حقاً اكبر ممن يديها عظام و رخام , و تساءلت أين تكون تلك المرأة التي تكبر جدتي و هل تصل تلك المرأة لأعلى من السماء و لأي عالم مجهول تنتمي تلك التي حدَّثتها عن زمن ما , عن أُناسٍ ما، لا اعرف من يكونون و قالت لها انهم كانوا يبكون بكاءا مُرا مفجعا, و تَحَدثتْ عن بحر ما رموا به من السفن أولئك الذين يموتون، فخيِّل لي أن الموت ذنب يستحق من يرتكبه أن يرمى في البحار , و هي حدثتها عن موانىء غريبة حتى التشرد و عن أيام كثيبة كلون المغيب و عن مكان مفقود و قالت كانوا تعساء و اعتقدوا أنهم في زمن ما عائدون.
و أنا اذكرها أحيانا حين كانت تصلي و تمسك مسبحتها الطويلة و تمسح بيديها العظميتين على ظهري و شعري كأني كنز من جواهر و كانت تبكي و تشكر الله على الخبز و على الأبناء و الأحفاد.
و أنا اذكر زمنا لم تعد فيه موجودة، اذكر كل شيء فيه بوضوح و لا أرى في أي ركن من أركان بيت أبي كومة من عظام و من رخام و لا اذكر شبحا فارعا يمتد للسماء و يطوف في الحديقة و يقطف الفل و يغرز الأزهار و يعلق بصدري أطواقا من ياسمين.
و تمضي السنون و حين أوقن جيدا أني نسيتها و نسيت كلماتها, تتكشف لذاكرتي تكشف شمس قبلها كسوف و بعدها كسوف , تتكشف لي لحظة رؤيا , تتكشف لي تكشف الله لأرواح المتصوفة العاشقين, تتكشف لي تكشف النور لأرواح رهبان بوذا المسالمين ، تتكشف لي لحظة إيمان بوجدان التائبين، فتختل كل الصور و يختلط السنونو الأسود بأطواق الياسمين بفتاة أخرجوها من النور بموانىء غريبة بمكان مفقود بموتى رميوا في البحار فيرعد صوت بداخلي (من تراب و الى تراب نعود)... أجيبه إن كان ذلك حقا فلماذا لتراب لم يعودوا , أجادل نفسي أتحدى نفسي فتفر مني و تهرب الى المرايا أخاطب المرايا فلا أجد فيها احد, تنعكس المرايا على المرايا تكبر غرفة المرايا حتى تصير سرابا ثم تصغر حتى لا تتسع لأحد.
اركض الى البحيرات الصافية الى السواقي الى الأنهار أحدق فيها فلا أرى احد و ثمة عجوز من عظام تردد-ساقط قيد كان- أتشاءم من كلماتها ، أنّى لتلك العجوز أن تدرك تلك الكلمات، فمن ينطق بلسان الميتين و من يلبس أشباح الميتين، اهرب منها المس يداي، المس رأسي ، المس جسدي أتحقق منه نعم انه موجود استجمع قواي و أحدق في المرايا و ارتعد حين لا أرى احد.
لا احد سوى انعكاس المرايا، إذن فمن أكون.
اسمع العجوز تقول: يسقط من يمر في الحياة فلا يترك أثر .
و اسمعها تقول: لو مات لن يطلب ثأره احد و سوف تطوف روحه شريدة و لن يقدم طعاما على روحه احد.
ابكي بكاءا مرا على من لا اعرفهم حتى تصير دموعي بحارا سوداء فأرى فيها أشباحا لميتين يمشون فوق الأمواج كما مشى على وجه الماء الأولياء و القديسون، يكلمونني و هم صامتون يبتسمون يغسلون أجسادهم من آثار الدماء من آثار المرض و الجوع يلوحون لي يقولون نحن سامحناهم و انتم سامحونا و امنحونا قبورا من تراب كي لا تبقى أرواحنا هائمة في السراب، امنحونا في كل عيد صلاة كي لا نبقى منهكين منسيّين، قدموا طعاما لأجل أرواحنا, أعدهم أن أضع أجسادهم في قبور من تراب،أعدهم أن اصلي عليهم صلوات كل الأنبياء و اتلوا بلغات كل القديسين و انحني لكل الآلهة و الأرباب و أقدم لأجل كل موت طعاما للمساكين و المشردين، فيلوحون لي و يمضون مبتسمين، انظر في المرايا أرى وجهي خاشعا يتلوا لكل الأنبياء و كل القديسين و كل الآلهة و كل الأرباب و كل الصالحين ،أرى ورائي وجوه الذين طافت أرواحهم شريدة بغير قبور و أجِدُنِي أشد على أغصان شجيرة الياسمين، أنسقها، أرتبها،اسقيها و أنهد فوق التراب أعبث به اضغطه بين أصابعي و اشكر الله على الخبز و على الأبناء و الأحفاد و الياسمين.
أُقبِّلُ التراب و أقول : من تراب جئنا فعسانا يا ربي الى ترابنا نعود .
-------
حجمي يسارقري....راي – أغنية شركسية قديمة تعود لحوالي 150 عاما و تتحدث بلسان فتاة تم تزويجها بالإكراه لحجي (حجمي ) و تقول فيها قلبي ممتلىء نور و عيناي ممتلئتان نور فأدخلوني الى الظلام .
الموتى الذين رميوا من السفن خلال التهجير الشركسي الكبير من شمال غرب القفقاس عام 1967.
نرين طلعت حاج محمود.
[email protected]



#نرين_طلعت_حاج_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حيث الاختلاف خلاف
- الحب بين رجل و حشد من نساء
- ما بين الايمان و العقد بون شاسع
- حكاية عن بَاتر
- المشعوذون و الفضائيات
- أساطير النارتيين
- من حضر القسمة فليقتسم
- المرأة و الإحساس بالحياة
- عشرون صالحا يشفعون لمدينة اشرار
- مكابرون حتى الرمق الأخير
- المرأة و وجدانية الرجال
- الكرسي و الطاولة
- الموؤدات
- حبة شعير
- حجز العقول
- مسؤولية المؤسسة الدينية عن الأخلاق العامة في المجتمعات الإسل ...
- المرأة في عرف المجتمع
- شلة حسب الله و الهوية الجديدة
- حرب الشيشان حرب تحرير وطني و ليست حربا دينية
- أخلاق الرعيان ...إلى متى ؟


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نرين طلعت حاج محمود - العجوز و الياسمين