|
عن اللاحكمية .. والتعادلية .. والتحرر من تعين الذات
محمد عبد القادر الفار
كاتب
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 3449 - 2011 / 8 / 8 - 01:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
روي عن نبي الإسلام في إخباره عن مستقبل البشرية قوله أن هناك زمانا يأتي على الناس "يصبح فيه الحليم حائرا" لكثرة الفتن .. وإذا كان قدر الإنسان أن يكون محكوما بالحيرة منذ أن دب على هذه الأرض ليجد نفسه في عزلة عن تاريخه ونشأته وفي حالة اغتراب عن كون لا يبدو أنه يصغي إليه فعلا أو يبالي بحيرته أو ارتباكه،، يبقى هذا الزمن بالفعل الزمن الأكثر حيرة وارتباكا لمن كانت ضالته الحكمة وهدفه الحق...
تضاؤل المسافات والأزمان وسرعة الحركة في هذا الزمان جعل أغلب الأحداث تقتحم حياتك،، في البداية تنتظر منك فعلا أو بالحد الأدنى موقفا،، وما تلبث أن تلقي بك في مكان ما، وقد يكون ذلك المصير مستقلا تماما عن الفعل الذي فعلته أو الموقف الذي اتخذته،، وقد يفسر ذلك الاستقلال (وحقيقة أن موقفك أو فعلك مهما كان صائبا قد لا ينقذك.. وقد يقضي عليك من كنت تعمل لأجله) بأن فعلك أو موقفك هو في النهاية موقف فردي،، والخلاص يكون دائما حسب ذلك التفسير باتباع حالة جمعية ما،، ان لم تكن بيضاء أو سوداء فهي إما رمادية باهتة أو لنقائها تكاد تكون شفافة وغير مرئية لقلة أتباعها (تعود بك إلى حالة شبه فردية) ... ولو أن العثور على تلك الحالة الشفافة النقية وحتى لو لم يكن فيها الخلاص كان ممكنا وسهلا لما احتار الحليم كثيرا،، فقد أصبح عليه هنا أن يختار فقط بين الخيار السهل والخيار الصعب ... لكن الحالة النقية الشفافة هي حالة نظرية،، لا وجود لها،، ومجرد افتراضها قد يعتبر مثالية متعالية على الواقع،، ومع ذلك،، فأنت لا تلبث تنشد ذلك الحق الذي لا تشوبه شائبة،، وذلك الحق المطلق إن وجد نظريا فهو لا يمكن حصره في خيار عملي على أرض الواقع،، وأنت محصور بالخيارات الجماعية،، ونفورك منها قد يعتبر إما جهلا بكل ما أنتج تلك الخيارات من ظروف زمان ومكان وبيئة وتاريخ أو تعاليا على واقع أنت لست أكبر منه ولا من أهله... اللاحكمية* هنا قد لا تعود خيارا حتى في ما يتعلق بالأحكام على الناس،، ولا مهرب من بعض الأحكام .. والأحكام دائما تجرح المحكوم عليه وحتى الحاكم (إذا ما كان حليما ينشد الحق المطلق ولا يبيت أية تحاملات prejudices لأحد)..
اللاحكمية التي تريح ضمير الحليم هي اللاحكمية التي لا تبقي على حكم،، فلا مانع من إصدار الحكم،، ولا مانع أيضا من أن نصدر بعده حكما آخر ينفيه ويناقضه،، وبهذا فالإنسان الذي يقوم بذلك قد يتناقض في اليوم الواحد أكثر من عشرين مرة،، غير آبه بما يقال عنه وما قد يوسم به،، فهو لاحكمي بالأساس... وهذه الأرجوحة المستمرة في قلبه هي دلالة ضميره الذي لا زال دافئا لا يكتفي بحكم.. ضمير يتوحد في رؤيته مع نقيض ما يعرف عنه ويعرف به وما يعرفه هو عن نفسه...
فما هذه الأرجوحة؟
تلك الأرجوحة هي حالة من التعادلية،، ترجح معها في لحظة ما كفة ما،، وأنت لا تكتفي بالنظر إلى الكفة الراجحة،، لا تستطيع أن تمنع نفسك من النظر إلى الكفة الأخرى وسؤال "ماذا لو" وسؤال "ماذا عن"... وهذا يجعل أحكامك الحالية تبدأ بالتخلخل،، ثم ما تلبث عورة الكفة الراجحة (ولا تجد شيئا لا عورة له) أن تنكشف أمامك لتنقضها فعلا وتركض بكل قوتك بالاتجاه الآخر،، ثم ما تلبث أن تتذكر عورته هو الآخر لتهرب من جديد،، والخيارات محصورة ،، وذلك الخيار الزجاجي النقي الذي تحدثنا عنه يبقى مثالية تفضي بك إلى سلبية تعتزل معها الناس وتتجنب الفعل والقول،، رغم أن الأحداث في لحظة ما ستقتحم حياتك...
وإذا كان عليك أن تختار فأنت ترفض أن تريح نفسك وتكون معتدلا أو تقف في نصف المسافة بدلا من التأرجح بين الأطراف،، رغم أن الاعتدال قد يبدو عين التعادلية،، لكنك ترفض أن تقف في منتصف المسافة بين القاتل والمقتول، تحضرك حكمة جبران خليل جبران حين قال: " أنا متطرف لأن من يعتدل بإظهار الحق يبـيّن نصف الحق ويبقي نصفه الآخرمحجوباً وراء خوفه من ظنون الناس وتقولاتهم" أو حين قال : " أنا متطرف حتى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء، وفي قلبي كرهٌ لما يقدسه الناس، وحب لما يأبونه، ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة"
إنه ليس بإمكانك أن تمنع الأحداث من أن تحدث.... ولا أن تهرب منها .. سواء كان ذلك لأنها ستقتحم حياتك عاجلا أم آجلا أو لفلسفة واقعية إنسانية مباشرة : "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك في الظروف نفسها" وأنت لا تريد أن لا يبالي بك الناس لو كنت في موقف يحتاج من الآخرين إلى موقف على الأقل... أو لفلسفة مثالية يعبر عنها مصطفى كامل بقوله: "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط"...
فالحدث سيبرز أمامك شئت أم أبيت .. وأن تصدق أو لا تصدق .. تلك مسألة قرار .. والأمر سيبقى مربكا .. فقد تصدق الباطل وتكذب الحقيقة عن حسن نية .. والتريث أو اللاحكمية أو اللاأدرية أو التأرجح قد تبدو الممارسات الفكرية الأضمن.. ولكنك لست متأكدا حتى من ذلك....ولا يكفي أن لا تكون متطلبا أو مطالبا بشيء لنفسك من أي أحد لتزاح عن كاهلك مسؤولية القرار أو الحكم..
إن ما يبدأ كموقف تطهري سواء كان تبرؤا، أو تأييدا (هدفه ذاتي يتعلق بإراحة الضمير أو النكاية في موقف جمعي ظالم في حالة أخرى اجتمع هنا على موقف ما) قد تنتج عنه أفعال مؤثرة إذا ما تسنى لصاحب الموقف أن يكون في موقع الفعل وأراد أن يتسق مع موقفه سواء كان مقتنعا بموقفه فعلا أو كانت نوازع نفسية أخرى تملي عليه موقفه،،، وهذه الأفعال تعود لتنتج الأفكار والمواقف والاصطفافات والأحكام،، لتعود الأحكام لتنتج الأفعال،، في حالة دائرية لا مناص منها .. فهناك تبادل بين الفكرة والفعل.. والاستقلال النسبي للفكرة عن الفعل حين تكتفي بالتنظير أو للفعل عن الفكرة حين تفعل ما يجلب لك - الحمد المؤقت أو الأمن المؤقت أو راحة الضمير المؤقتة ولكن دون تفكير- ليس فيه الخلاص !
في النهاية لا بد من الإشارة إلى خطر الانحباس داخل هويات مفترضة*،، كهوية شخص يفترض تاريخه أنه مع فلان دون فلان أو يفترض واقعه العائلي أو الطائفي أو الاجتماعي أن يكون في موقف ما دون الآخر... فمواقف الإنسان هنا إما أنها ستتحرك تحت إملاء أمور تبقى عارضة إذا ما كنا أمام الحق والحقيقة،، أو تحت إملاء بارانويا تفترض أنك تتعرض للهجوم إذا ما هوجمت هذه الجهة أو تلك،، ليست هذه دعوة لعدم الانتماء أو لنبذ الهوية الفرعية حتى أو لإلغاء تاريخك الشخصي،، ولكن تحرر الذهن من التعين شرط لمن أراد أن يقترب من الحقيقة،، وهي دعوة لمن أراد أن يدافع عن الحق والعدل بأن لا يكون خطابه حكميا.. وأوضح الخطابات حكمية ً هي تلك التي تنتهك إنسانية الظالم لو سقط .. وأشنعها الخطابات المشبعة بدعاوي الطائفية والكراهية ...
*عن اللاحكمية http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=260793
*عن الإيجو .. والتحرر من التعين والقوالب http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=147004
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الديمقراطية: ليس كل ما يلمع ذهبا
-
إضاءات على اللاحكمية
-
اللاحكمية
-
سلمى (7) ... صلاة
-
حق الحياة .. في لزوم ما لا يلزم
-
سلمى (6) ... بعث
-
عن السجون لإيما جولدمان
-
موتيات 3
-
موتيات 2
-
موتيات 1
-
أفران أولمرت
-
بين تشرينين
-
هل الأناركية عنيفة.. شعبوية.. ؟
-
أممية الاتحادات الأناركية : النضال من أجل حركة أناركية عالمي
...
-
ما هو الإيجو؟ وكيف تمنعه من حجب سلامك الداخلي ومحبتك غير الم
...
-
سلمى (5) ... عبادة
-
ما هو الحب 2
-
نعوم تشومسكي: عن الأناركية، الماركسية، وآمال المستقبل (4) و
...
-
نعوم تشومسكي: عن الأناركية، الماركسية، وآمال المستقبل (3)
-
نعوم تشومسكي: عن الأناركية، الماركسية، وآمال المستقبل (2)
المزيد.....
-
تركي آل الشيخ وآخرون يتفاعلون مع لقطة بين محمد بن سلمان وأحم
...
-
قصة العالم النووي كلاوس فوكس.. -لا تتحدثوا معي عن المال مرة
...
-
من قطر إلى السعودية.. لغة التفاصيل في دبلوماسية الشرع
-
خبير يعلق على اعتراف زيلينسكي الذي صدم الغرب
-
ترامب: الوكالة الأمريكية للتنمية تديرها مجموعة من المجانين
-
إعلام: تركيا قد تنشئ قاعدتين عسكريتين وتنشر مقاتلات -إف 16-
...
-
-الأورومتوسطي-: الحالة الصحية التي يخرج بها المعتقلون من سجو
...
-
ترامب يكشف عن موعد اتصاله مع ترودو ويؤكد: سيدفعون الرسوم الج
...
-
برتراند بيسيموا زعيم حركة -إم 23- في الكونغو الديمقراطية
-
تداعيات فصل ضباط أتراك بعد حادثة أداء قسم الولاء لأتاتورك
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|