أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - مصطفى مجدي الجمال - كيف كنا نتساءل عن أزمة الديمقراطية المصرية قبل ثلاثة أعوام؟















المزيد.....


كيف كنا نتساءل عن أزمة الديمقراطية المصرية قبل ثلاثة أعوام؟


مصطفى مجدي الجمال

الحوار المتمدن-العدد: 3446 - 2011 / 8 / 3 - 11:09
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


وجدت بين أوراقي هذه المداخلة التي قدمتها قبل عامين ونصف في ندوة دولية عقدت بالقاهرة عن الديمقراطية في الوطن العربي.. ولم يتح لها النشر.. وأعتقد أنها مهمة من زاوية التأمل في كيف كان كاتب يساري يتناول قضية الديمقراطية قبل الثورة بحوالي عامين:

الديمقراطية في مصر .. إلى أين؟

لمحة عن السياق التاريخي للديمقراطية في مصر
لا شك أن مصر، رغم فقرها في الموارد الطبيعية، وتركز سكانها في رقعة صغيرة على ضفاف وادي النيل، تعد من أهم بلدان المنطقة المسماة "الشرق الأوسط"، وذلك بحكم موقعها الاستراتيجي بين ثلاث قارات، وثقلها السكاني (قرابة 80 مليون نسمة)، ووزنها الثقافي الكبير في "العالمين العربي والإسلامي". وهي الحقيقة الجيوسترتيجية التي أدركها من قبل نابليون بونابرت حين رأى أن طريقه لبناء إمبراطورية في الشرق لا بد أن يبدأ بمصر (1798)، كما أدركتها بريطانيا مبكرًا حينما حاولت محاولتها الفاشلة الأولى عام 1805 لغزو مصر، ثم عادت عام 1882 لتغزوها وتهزم الثورة العرابية بتواطؤ الدولة العثمانية، ولتلغي اللائحة الأساسية (الدستور) الذي وضعته الثورة لقيام حكم نيابي.
وفي العصر الحديث أدركت الإمبريالية الأمريكية أن انتصار مصر السياسي في معركة تأميم قناة السويس عام 1956 قد كان نقطة تحول في تاريخ الإمبراطورية البريطانية باتجاه الانهيار، فضلاً عن تصاعد التيارات القومية العربية pan-Arabism ، فكانت الضغوط الاقتصادية السافرة واستخدام إسرائيل لتصفية المشروع الحداثي الوطني والاجتماعي الذي اضطلعت به الناصرية (خاصة عدوان 1967 بتواطؤ أمريكي).
لكن الأداة الأهم في أيدي الإمبريالية الأمريكية كانت دعم قوى الثور المضادة داخل النظام الناصري نفسه (بعد حرب 1973) لتصفية المنجزات الاجتماعية لثورة يوليو (فك التصنيع de-industrialization – إنهاء برامج الرفاه welfare الاجتماعي تدريجيًا- الانفتاح الاقتصادي) والتخلي عن "روح باندونج، وعقد الصلح غير المتوازن مع إسرائيل، ووقف التضامن مع الأنظمة العربية الوطنية الأخرى، والتحول الدرامي في العلاقة مع الاتحاد السوفيتي السابق. ومن ثم كان إبداء الاستعداد للعب دور الكمبرادور comprador وحتى تسويق الدور السياسي والأمني والعسكري للدولة المصرية في خدمة العمليات الإمبريالية (حرب الصومال وإثيوبيا 1978، الصدام العسكري مع ليبيا في العام نفسه، أفغانستان، تحرير الكويت، الملف الفلسطيني مؤخرًا..).
ولم يكن هذا التحول إلا تعبيرًا عن التحول الذي طرأ على الشرائح العليا من البرجوازية البيروقراطية، والتي بدأت تبحث عن مزيد من المغانم عبر التوجه نحو "تحرير الأسواق"، ومن ثم التحالف مع رأسمالية القطاع الخاص بل وحتى بقايا الإقطاع القديم.
وبالطبع كان لبرامج التكيف الهيكلي structural adjustment programs آثار كارثية على الطبقات الشعبية والفئات المتوسطة، من تضخم وبطالة وتهميش وإفقار ولا مساواة inequality. وقد حاول النظام التخفيف من وطأة هذا عن طريق التركيز على تصدير الأيدي العاملة إلى البلدان العربية المنتجة للنفط، وذلك في إطار تحول نحو الاقتصاد الريعي rental الذي يعتمد أساسًا على تحويلات العاملين بالخارج وإيرادات السياحة والمرور في قناة السويس.
غير أن هذا التحول الذي قاده الرئيس السادات (1970- 1981) ومن بعده مبارك (1981- 00) قد ارتدى ثوب الديمقراطية لتبرير الانقلاب على "الشمولية" totalitarianism أو "الشعبوية" populism الناصرية، في محاولة لاستيعاب الاحتجاجات السياسية والاجتماعية المتصاعدة، وكرد فعل على الإعلان في السبعينيات عن إعادة تكوين عدد من التنظيمات الشيوعية والإسلامية السرية في مصر. ومن الواضح أن التناقضات الاجتماعية قد وصلت إلى مرحلة من الحدة يصعب الادعاء بتمثلها جميعًا داخل الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي العربي)، فضلاً عن رغبة النخبة الحاكمة في أن تبني حزبها "النقي" (الحزب الوطني الديمقراطي).
ورغم هذا فقد عمل النظام في المراحل الأولى من "الانفتاح السياسي" على الانخراط engagement في استراتيجية الإدارة الأمريكية وقتذاك (إدارة ريجان أساسًا) بالتعاون والتحالف مع اتجاهات "الإسلام السياسي" political Islamism ضد التيارات اليسارية وبقايا الناصرية، وإن كان قد سمح بتعددية حزبية مقيدة العدد وحرية الحركة.
ولكن بعدما قامت الثورة الإيرانية، بدأت التيارات الأصولية السنية والشيعية تنتشر بالمنطقة (خاصة مع الفورة النفطية والدور الإقليمي المتزايد للسعودية)، بما يعنيه هذا من تهديد للحليف الأهم للإمبريالية في المنطقة (إسرائيل)، وكذلك ما شهدته مصر من موجة من العمليات الإرهابية قامت بها الجماعات الإسلامية الجهادية jihadist في الثمانينيات والتسعينيات هددت أمن النظام وألحقت خسائر كبيرة بصناعة السياحة.. عدٌل النظام من توجهاته، فكان الانقلاب- وإن لم يكن كاملاً- على سياسة التحالف مع "الإخوان المسلمين" Muslim Brotherhood.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، استخدم النظام الحاكم مشاعر الخوف من "الإسلام المتطرف" التي سادت الغرب لتبرير مقاومته للضغوط الخارجية من أجل "الإصلاح السياسي"، خاصة وأن المؤسسات البحثية think tanks ودوائر صناعة القرار في السياسة الخارجية الأمريكية كانت مترددة في ممارسة الضغوط على حساب دكتاتوريات تخدم المصالح الأمريكية ولصالح تيارات لا تشعر إسرائيل بالارتياح تجاهها.
ويمكن تلخيص الخبرة التاريخية السابقة في أن المستعمر البريطاني وقف في طريق تطور الحياة الديمقراطية في مصر خشية من تصاعد المطالب الوطنية بالاستقلال فكانت الديمقراطية السياسية هي الضحية الأولى، وفي عهد جمال عبد الناصر كان الاهتمام الأساسي بالاستقلال والرفاه الاجتماعي فسقطت الديمقراطية السياسية ضحية أيضًا إلى حد أن غيابها كان سببًا أصيلاً في تجريف المكاسب الاجتماعية التي حققتها الناصرية دون مقاومة اجتماعية منظمة. أما الجديد فهو تراجع السيادة ownership الوطنية على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لصالح الأطراف الفاعلة في العولمة.
ومن ثم فإن قضية الديمقراطية في مصر ظلت دائمًا شديدة الارتباط بقضايا الاستقلال والسيادة الوطنية والتنمية والعدل الاجتماعي والهوية الثقافية، وبشكل نزعم أنه نادر التكرار في أجزاء أخرى من العالم. وهو ما يضفي أبعادًا مصرية خاصة على منظور التحول الديمقراطي المطلوب. أي أن أي تقدم يحدث على طريق الديمقراطية السياسية مثلاً يجب أن يترابط مع الحفاظ على الاستقلال الوطني والتنمية الاقتصادية والإنسانية وتقليل فجوة اللامساواة الاجتماعية وتحقيق تقدم ثقافي يؤكد على التنوير وحقوق المواطنة.

قضايا مهمة في طريق التحول الديمقراطي
يستفاد مما سبق أنه على الرغم من عراقة المؤسسات النيابية في مصر (أنشئ أولها عام 1866)، فإن مضمون ومنجزات التجربة الديمقراطية اتسما بالضعف الشديد لأسباب ذكرناها آنفًا. ومما زاد الأمر سوءًا أن كثيرًا من الاتجاهات الليبرالية كانت أقل حزمًا في مواجهة المستعمر، حتى أن معظم حكومات ما قبل ثورة 1952 شكلتها أحزاب الأقلية المتعاونة مع القصر والاحتلال، يتمكن حزب الأغلبية (الوفد) من الحكم إلا لفترتين قصيرتين بعد ثورة 1919، وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية حين احتاج البريطانيون إلى حكومة قوية غير معرضة للاحتجاجات الشعبية. أما ثورة 1952 الناصرية فقد تذرعت بعقم التجربة الليبرالية قبل الثورة لتقدم نموذج "المستبد العادل" الذي ينتظر رضا وموافقة الجماهير ولا يقبل بمشاركتها إلا في الإطار الشكلي للحزب الواحد.
أما الاستعمار الجديد neo-colonialism فقد حرص، منذ الثورة المضادة التي قام بها السادات على الناصرية، على استغلال ذات الآليات "الشمولية" التي خلفها النظام الناصري لتمرير برامج التكيف الهيكلي، ومعاهدة الصلح مع إسرائيل.. كما أسلفنا. وهكذا فإن اللبرلة liberalization الاقتصادية وتعديل السياسة الخارجية احتلت أولوية متقدمة على الأجندة الإمبريالية لمصر عن اللبرلة السياسية أو الثقافية.
وتظل المشكلة الأكبر أمام مسيرة الديمقراطية في مصر تتمثل في طغيان الدولة وهيمنتها على ما يسمى "المجتمع المدني". فالدولة المصرية قوية جدًا تجاه الداخل، وهذا من السمات المؤكدة للمجتمعات النهرية القديمة. وحتى حينما حاولت البرجوازية المصرية في أوائل القرن العشرين التوسع في النشاط الأهلي NGOs (مثل إنشاء الجامعة المصرية والكثير من الجمعيات الخيرية..) فإن هذا كله ظل واقعًا تحت سطوة ورقابة الدولة. أما في الفترة الناصرية فقد عمدت الدولة إلى تأميم كل الأنشطة الأهلية والمدنية والتعاونية (ناهيك عن السياسية) لتقع تحت إمرتها المباشرة. وهو الوضع الذي لا تزال الكثير من آثاره باقية.
ولعل أهم هذه الآثار يتمثل في البيئة التشريعية التي يجري في سياقها النضال من أجل التحول الديمقراطي. فهناك مثلاً الحكم بقانون الطوارئ منذ العام 1981، ومحاكمة السياسيين والمدنيين أمام المحاكم العسكرية. والقوانين المنظمة للممارسة السياسية التي تحول عمليًا دون قيام أحزاب جديدة لأن اللجنة العليا للأحزاب يهيمن عليها الحزب الحاكم ووزراؤه، فضلاً عن النص الدستوري بحظر قيام أحزاب على أساس طبقي class، ويقصد به أساسًا الأحزاب اليسارية. والقوانين المنظمة للنقابات العمالية التي تحول دون استقلال وتعددية وحيوية الحركة العمالية، وتفرض سيطرة الأجهزة الأمنية والقيادات النقابية الانتهازية. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن النقابات المهنية syndicates (وبعضها مجمد حاليًا) والاتحادات الطلابية والتعاونية والمنظمات غير الحكومية. فضلاً عن ترسانة هائلة من التشريعات المقيدة لحريات الاجتماع والتعبير والتنظيم والإضراب والتظاهر السلميين، فضلاً عن القيود التعسفية على إنشاء الصحف والقنوات الإعلامية المستقلة.
ولكن الأخطر من هذا كله هو عدم إعمال الدستور لمبدأ الفصل بين السلطات، حيث تطغى السلطة التنفيذية ومؤسسة الرئاسة على السلطتين التشريعية والقضائية، وتنتزع صلاحياتهما، فيكاد الدور الرقابي للمجلس التشريعي ينعدم، أما القضاء فإنه يعاني من سلطة وزارة العدل عليه.
ونتيجة لكل ما سبق، فإن الانتخابات التشريعية والمحلية لا تعد تعبيرًا صحيحًا عن أوزان القوى السياسية. وأجهزة الدولة تتدخل في كل مراحل العملية الانتخابية لمصلحة الحزب الحاكم (بدءًا من جداول الانتخابات، مرورًا بالدعم المادي والإعلامي، وانتهاءً بفرز الأصوات وإعلان النتائج) الأمر الذي يفقدها أي معنى significance ديمقراطي. ونتج عن هذا ضعف المشاركة الشعبية في الانتخابات، وتراجع طابعها السياسي أمام الارتباطات العشائرية والجهوية territorial ، فضلاً عن تفشي مظاهر الرشوة الانتخابية. ومن ثم فإن المفهوم الغربي لقياس الديمقراطية بانتظام إجراء الانتخابات لا يعد صالحًا للوصول لاستنتاجات سليمة في مصر، ما لم تقترن بتحول جوهري في مجمل التشريعات والآليات المتحكمة في الممارسة السياسية.
أضف إلى ما سبق الضعف الذي اعترى أحزاب المعارضة الرسمية بفعل أسباب عديدة أهمها أنها نشأت وتنشأ في الغالب بموجب قرارات حكومية، وعدم تمسكها ببرامج راديكالية في مواجهة السياسات الحكومية، وعجزها عن اختراق الحصار القانوني والقيود الأمنية من أجل الالتحام بالجمهور، فضلاً عن فشل كل التجارب الجبهوية بين هذه الأحزاب بسبب قابلية بعضها للتلاعب manipulation من جانب الحزب الحاكم مقابل بعض المكاسب الحزبية التافهة (مثل بضعة مقاعد في البرلمان أو المجالس المحلية..). ويزيد الأمر سوءًا أن الأحزاب الرسمية جميعًا تغلب عليها الزعامة الفردية وتكاد تنعدم فيها آليات الديمقراطية الداخلية مما يجعلها معرضة للانقسامات غير المبدئية.
ويتواكب مع هذا كله: الطابع الشخصي personification للحكم، وقد ينتج الحكم الأوتوقراطي من خلال زعامة وطنية قوية (مثل ناصر)، إلا أن الوجود لفترة طويلة على كرسي الرئاسة قد يؤدي هو الآخر إلى نشأة هذا النوع من الحكم. ومن ثم فإن الحاكم كفرد يلعب دورًا أساسيًا في تحديد التوجهات وصناعة السياسات إلى حد التخطيط للتوريث في أعلى المناصب بالدولة، وهو ما يتناقض مع مبدأ الحكم الجمهوري ويثير امتعاضًا واسعًا حتى داخل المؤسسة العسكرية.
هناك أيضًا السيطرة الحكومية على وسائل الإعلام الجماهيرية، ووضع الكثير من العراقيل على إنشاء وحرية وسائل الإعلام المستقلة، بل إن المسموح به من الصحف وقنوات التلفزة المستقلة يغلب عليها سيطرة رأس المال. ومن ثم فإن الحكم يملك اليد العليا في النفاذ إلى الجمهور وتوجيه الرأي العام.
وقد تزايد في السنوات الأخيرة نفوذ كبار رجال الأعمال على الحزب الحاكم، كما أصبحوا متواجدين بأشخاصهم في الحكومة، وهو ما صنع رابطة قوية بين المصالح الخاصة الاحتكارية والفساد الحكومي والسياسات الاقتصادية والاجتماعية. كما أصبح للمال السياسي political money دور واضح في التأثير على أحزاب المعارضة والصحف المستقلة وحتى المجتمع المدني.
وبالنسبة للمنظمات غير الحكومية فإن الكثير منها يلعب دورًا وظيفيًا functional لسد الفجوات الناتجة عن انسحاب الدولة من تقديم الخدمات الاجتماعية، أما المنظمات ذات الدور البنيوي structural فهي حديثة النشأة وقليلة العدد ونخبوية elitist الطابع ويكاد نشاطها ينحصر في القاهرة. وتنصب أكثر القيود الحكومية في هذا الشأن على المنظمات الدفاعية advocacy. وكثير من هذه المنظمات غير معترف به قانونًا، وإن كان يحاول تعويض هذا النقص من خلال تقوية علاقاته الخارجية.
ومن أخطر العراقيل التي تعترض مسيرة الدمقرطة في مصر الصعود الكبير في حجم ونفوذ تيارات "الإسلام السياسي"، حيث إن هذا يثير سؤالاً كبيرًا عن إمكانية السماح لقوة "غير ديمقراطية"-بالمعايير الغربية- بأن تدخل العملية الديمقراطية لتقوم بمصادرة هذه العملية نفسها فيما بعد. ناهيك عن القلق المتزايد وسط المثقفين من تزايد محاولات إخضاع الإنتاج الأدبي والثقافي لرقابة دينية. أما موقف التيارات الأصولية من قضايا تحرير المرأة فهو محل قلق دائم.
كما يثير هذا مشكلة أخرى تتعلق بمستقبل الدولة العلمانية الذي تطمح إلى تحقيقه القوى الديمقراطية والمدنية. وفوق هذا وذاك هناك خطر لتفاقم النزاعات الطائفية في مصر في ظل التخوف المفهوم عن الأقلية القبطية المسيحية من مساعي تطبيق الشريعة الإسلامية بما في هذا من آثار سلبية على مبادئ المساواة والمواطنة. ومن نتائج هذا أن الأقلية المسيحية أصبحت تجد ملاذاً لها في تمتين التحالف مع الحزب الحاكم، كما أصبح بابا الكنيسة القبطية- وليس الأحزاب- بمثابة الزعيم السياسي لهذه الأقلية الكبيرة. وهو بدون شك تطور بالغ السلبية، لأن الأقباط كانوا دائمًا جزءًا لا يتجزأ من النسيج الثقافي والاجتماعي المصري، وتواجدوا على الدوام في كل الأحزاب. بل إن الكنيسة الأرثوذكسية المصرية لعبت على مدى التاريخ دورًا فاعلاً في التصدي للحروب الصليبية في القرون الوسطي، وضد الاحتلال البريطاني في العصر الحديث. إلا أن العقود الأخيرة شهدت زيادة نفوذ جماعات "أقباط المهجر" التي يرتبط بعضها بالأجندة الأمريكية.
ومن المفارقة أن الضغوط المصطنعة التي مارستها إدارة بوش من أجل ما يسمى "الإصلاح"، قد انتهى إلى تدعيم المواقف التسلطية authoritarian أكثر من إضعافها. فقد كانت هذه الإدارة موضع كراهية من غالبية الرأي العام المصري، خاصة بسبب العدوان الإجرامي على العراق والدعم المطلق لإسرائيل التي أصبحت فعليًا فوق القانون الدولي، كما أن الذاكرة والروح الجمعية المصرية تأنف بشدة من أي تدخل أجنبي في الشئون الداخلية. وجدير بالذكر أن إدارة بوش نفسها قد خففت ضغوطها في أواخر عهدها نظرًا لاحتياجها الشديد لمساعدة الدولة المصرية في ملفات إقليمية مثل العراق وفلسطين وإيران ولبنان في ما تسمى "الحرب على الإرهاب".
ومن المنطقي أن تستمر إدارة "أوباما" في ممارسة ضغوط "معتدلة" على النظام للإبقاء على شكليات الديمقراطية- دون جوهرها- من أجل تفعيل "محور الاعتدال" في الإقليم. ويمكن التنبؤ بأن الإدارة الأمريكية ستحاول البحث عن صيغة توفيقية بين "السيناريو الأوكراني" و"السيناريو التركي"، بعد أن ثبت فشل كل منهما في التطبيق على مصر. ويرجع فشل السيناريو الأوكراني إلى ضعف وعزلة "النخبة الليبرالية" المحلية، أما السيناريو التركي فإنه يتعثر بسبب التشكك من الأصل في وجود "إسلاميين معتدلين" على الأقل فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل والحروب الأمريكية في المنطقة.
وختامًا لهذا الجزء نقول إنه إذا كان المتاح أو المعروض supply من الديمقراطية الليبرالية هزيل، فإن الجانب المتعلق بالطلب demand على الديمقراطية لا يزال قليلاً هو الآخر على الرغم من أن تزايد معاناة الطبقات الدنيا lower وهبوط الكثير من الفئات المتوسطة إلى مصاف الدنيا. صحيح أن الحركات الاحتجاجية (الجماهيرية والنخبوية) قد تضاعفت خلال الأعوام الأخيرة، ولكنها لم تكتسب بعد أكثر من الوعي بالمطالب الفئوية والجزئية partial ولم تتطور بعد إلى اكتساب وعي سياسي يهدف إلى التغيير الشامل عبر نضال جمعي منظم، ويرجع جزء من هذا إلى إخفاق الأحزاب السياسية والنخب الثقافية.
ويضاف إلى هذا ما يمكن أن نسميه ضعف "الثقافة الديمقراطية" وفي مقدمتها قيم احترام الآخر والتسامح والإيمان بالحوار وحقوق الأغلبية، والتأكيد على الطابع السلمي للخطابات discourses والأنشطة السياسية والاجتماعية، فضلاً عن شيوع مشاعر الإحباط من إمكانية التغيير ومن جدوى الاشتراك في نشاط جماعي، ومن ثم انتشار الأفكار الغيبية والنزعة الفردية individualistic المغالى فيها.


استنتاجات عامة
- إن الديمقراطية قد أصبحت جزءًا من التراث الإنساني الشامل، خاصة وأنها لم تكن من صنع البرجوازية وحدها، وإنما أسهمت في بلورتها وفرضها نضالات الطبقة العاملة والجماهير الشعبية والمثقفين التقدميين.
- على الرغم من الاتفاق على جوهر الديمقراطية (المساواة، المشاركة، المحاسبة، الشفافية، تداول السلطة..) فإنه لا توجد نسخة سرمدية universal version واحدة منها، فطريق الوصول إليها يختلف من بلد لآخر، وهي أيضًا قابلة للتطوير والإبداع المستمرين.
- ولا غني عن الديمقراطية من أجل الترويج والتعبئة لبرامج اجتماعية- اقتصادية وسياسية وثقافية أكثر طموحًا وتقدمًا، مثل بناء الاشتراكية. وقد أثبتت التجارب العديدة أن كفالة حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية هي من أهم ضمانات نجاح الانتقال إلى الاشتراكية، ولا يمكن الاستغناء عنها حتى في المجتمعات "الاشتراكية" نفسها.
- كما أن التحول الديمقراطي قد أضحى ضرورة لاستدامة الدول states والمجتمعات نفسها، خاصة في سياق المؤامرات المحمومة التي تقوم بها القوى الإمبريالية من أجل تفكيك تلك الدول والمجتمعات حتى تسهل السيطرة عليها.
- إن الديمقراطية تتطلب أساسًا مشاركة الجميع، ومن ثم لا يجوز استبعاد exclusion أي تيار سياسي أو اجتماعي أو ثقافي منها انطلاقًا من حكم مسبق على أيديولوجيته، وإنما يجب أن يكون الحكم أولاً على خطابه وأجندته السياسية. ولكن هذا يتطلب أيضًا أن تكون هناك مدونة سلوك أو وثيقة تأسيسية يقرها الجميع تحتم احترام المبادئ والمؤسسات والممارسات الديمقراطية.
- ومن قبيل العبث (خاصة في البلدان النامية والتابعة) الحديث عن ديمقراطية مكتملة في ظل الانتقاص من السيادة الوطنية أو عدم السيطرة على المقدرات والثروات الوطنية. فلا يمكن لدولة منعدمة الإرادة الحرة إزاء الخارج أن تكفل الحريات والحقوق الأساسية لمواطنيها.
- ومن ثم فإن أكبر إساءة للديمقراطية تتحقق على أيدي القوى الإمبريالية التي تتلاعب بشعارات الديمقراطية والإصلاح كي تعزز هيمنتها على بلدان الأطراف. وبعبارة أخرى فإنه من السخرية ربط الغزو والاحتلال الأجنبي بإقامة الديمقراطية، لأنه لا يمكن أن تأتي حكومة حرة على ظهر دبابات الغزاة.
- ولا يمكن أيضًا في ظل الظروف الراهنة للعولمة النيوليبرالية الفصل بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، على الأقل من زاوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان (الحق في العمل والتعليم والسكن والرعاية الصحية والبيئة المستدامة..) والتي بدونها تصبح الديمقراطية السياسية مجرد امتيازات للنخبة.
- وحتى تكون الديمقراطية ذات مصداقية ومحل تأييد من الجماهير، فإنها يجب أن تكفل فرصًا للتمييز الإيجابي (ولو مؤقتًا) لمصلحة الفئات المستضعفة والمهمشة vulnerable and marginalized مثل المرأة والشباب والفقراء والمعاقين والأقليات..
- إن الأشكال النيابية representative لا تكفي وحدها لضمان إنجاز الديمقراطية، وإنما قد يتطلب الأمر أن يبدع كل بلد أنماطًا خاصة من الديمقراطية المباشرة، خاصة على المستويات المحلية، وأن يتم تقنين هذه الأشكال على النحو المناسب.
- لا بد من الاستفادة من كل الآليات المتاحة من أجل تعميق الثقافة الديمقراطية في المجتمع والتصدي لأي منظومة قيمية تتعارض معها، مع التركيز بشكل خاص على غرس هذه الثقافة في البرامج التعليمية والإعلامية.
- وبالنسبة لتطوير الديمقراطية المصرية فإن هذا يقتضي إدارة أوسع حوار حر ممكن في المجتمع للتوصل إلى ما يسميه البعض "عقدًا اجتماعيًا جديدًا" يتضمنه دستور ديمقراطي وتشريعات مكملة. ونرى أن من أهم بنود هذا العقد:-
(1) إرساء أسس جمهورية برلمانية تضمن الفصل بين السلطات، والحد من الصلاحيات الواسعة لرئيس الدولة.
(2) إرساء مبدأ أن السيادة للشعب وليس لحزب أو لمؤسسة سيادية أو عسكرية أو دينية..الخ.
(3) المساواة التامة بين المواطنين (المواطنة) في الحصول على الحقوق والحريات وتولي المناصب العامة والمشاركة السياسية.
(4) علمانية ومدنية الدولة.
(5) خضوع الكل على قدم المساواة لحكم القانون.
(6) التداول السلمي للسلطة.
(7) كفالة الحريات العامة (الفكر والمعتقد والتعبير والتنظيم والتظاهر..)، وبخاصة إطلاق حرية المعرفة والإعلام وتداول المعلومات.
(8) إصلاح مجمل العملية الانتخابية بما يحول دون التزوير والتدخل الحكومي، ويضمن تمثيل كافة فئات المجتمع، خاصة تلك المهضومة حقوقها.
(9) الشفافية والمحاسبة والحق في سحب الثقة من المسئولين المنتخبين وبناء آليات وطنية قوية لمحاربة الفساد والمحسوبية والمال السياسي.
(10) رفع كافة القيود عن الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والحركة التعاونية ومختلف الحركات الاجتماعية.



#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وطني وصباي وعبد الناصر !!
- تقدير موقف للثورة المصرية ومبادرة للحزب الاشتراكي
- فيروس الانقسامية في اليسار المصري
- الفطام الذي طال انتظاره
- المال السياسي
- الإخوان وأمريكا .. الغزل الماجن
- الديمقراطية .. والمدرب الأجنبي !!
- إنقاذ الثورات العربية من الاختراق
- ترجمة أفريقيا
- إصلاح الشرطة يبدأ من -كشف الهيئة-
- ميلاد الاشتراكي المصري.. والسماء تتسع لأكثر من قمر!!!
- الجبهة في بلاد العرب (محاولة في تنظير الواقع)
- عودة الدكتور -بهيج-
- الاشتراكي والعربي .. منظور مصري
- حوار مع كريم مروة
- جوهر الديمقراطية الضائع
- صناعة المشاهير في خدمة الثورة المضادة
- المجلس العسكري وحكمة الجنرال -علي زيوار-
- الثورة كأمر واقع .. الحالة المصرية
- إلا السيناريو السلفي


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - مصطفى مجدي الجمال - كيف كنا نتساءل عن أزمة الديمقراطية المصرية قبل ثلاثة أعوام؟