منذر بدر حلوم
الحوار المتمدن-العدد: 1024 - 2004 / 11 / 21 - 12:17
المحور:
القضية الفلسطينية
عرفاتكا! اجلب لي معك من دمشق عرفاتكا- قال لي صديقي ساشا الفنان التشيكلي الشاب الذي سيبقى عمره إلى الأبد سبعة وثلاثين, حين علم بسفري إلى الشام- بل اجلب أكثر من واحدة. لحظتها علمت أنّ عرفاتكا هو اسم الكوفية الفلسطينية. فقد اشتق الروس اسمها من اسم عرفات. كان ذلك في شقة ساشا في زوبوفسكي بولفار عام سبعة وثمانين. عرّفني ساشا أنّ عرفاتكا هدية يمكن أن أحملها من الشام إلى أصدقائي الروس, ومن يومها وأنا أرى بين نسيجها صورة ترتسم لياسر عرفات. ومع عرفات بات السفر سهلا, فليس أصعب من أن تجد هدايا للأصدقاء, وليس أجمل من أن يفرح أصدقاؤك لعرفاتكا ويضعونها على رؤوسهم أو يلقون بها على أكتافهم في حضرتك. بعد ذلك رحت أرى عرفاتكا هنا وهناك على رؤوس الشباب والصبايا الروس وعلى أكتافهم وأكتافهن. لم يفت السوريين أن يأخذوا الكثير من عرفاتكا إلى هناك, للتجارة طبعا! ومع ذلك, لنترك السوريين وتجارتهم, فجميل أن يشتري الروس عرفاتكا. فعرفاتكا هي الأرض الفلسطينية على قطعة قماش, هي الدولة الفلسطينية التي يحدّها من جميع الجهات عرفات, عرفات الذي قد يعجب البعض أو لا يعجبهم, يحبونه أو لا يحبونه, يوافقونه أو يختلفون معه, ومع ذلك فهو عرفات الذي منه عرفاتكا, النسيج الفلسطيني الذي تحوّل من وطن على الأرض إلى وطن-حلم يلفّ به الشباب أعناقهم.
لم يعجب الصهاينة أن تلقى الكوفية الفلسطينية هذا الانتشار, أن تصبح خريطة لفلسطين المذبوحة على كل جدار. صنعوا كوفية وطبعوا عليها علم إسرائيل وأغرقوا بها الأسواق.. لكنها لم تكن عرفاتكا. كانت صورة إسرائيلية للمسيح الدجّال, كانت أنتي عرفاتكا, وبقيت بتضادها تذكّر بعرفات وبفلسطين المغتصبة. فخسر القناع الإسرائيلي أمام عرفاتكا الخارطة والوجه والتاريخ.
قبل سقوطه وتحطم جمجمته في الحمّام عاد ساشا فرحاً من رحلته إلى فلسطين: " اقتنيت عرفاتكا حقيقية من القدس وأكلت الحمّص..!!" كان فرحا, لكن عينيه كانتا حزينتين, وكنت أصغي إليه, متحسرا على أنني لا أستطيع الذهاب إلى هناك والمشي في نسيج عرفاتكا, وفي أزقتها, لا أستطيع أن ألقي حجرا, فمن يرمي غاصباً بحجر لا حاجة به لرجم الشيطان.
هل أنت فلسطيني؟ سألني فولوديا الساعاتي الروسي ذو اللحية الناعمة المدببة, في محله الصغير في شارع باكروفكا الموسكوفي فشردت وسرحت قبل أن أجيب, ربما للحظات, لكنها اللحظات التي تسع العالم. أليس يرى الإنسان في حلمٍ لا يستغرق ثوانٍ قلائل حياة كاملة. أعادني سؤال فولوديا إلى مجتمع رواية هاني الراهب ((بلد واحد هو العالم)) حيث الجميع فلسطينيون. معه حق هاني الراهب! فهل السلطات العربية إلا سلطات احتلال؟ إنها السلطات التي زرعت في جسد هاني السرطان, السلطات التي تقاذفت ياسر عرفات من مكان إلى مكان, مجرّدا من كل شيء إلا من حلم العودة إلى فلسطين, وبناء دولة فلسطين.. معه حق هاني الراهب, فكل العرب فلسطينيون..كلنا, أجل.. ولكن, ألا يجدر بكل منّا, إذن, أن يصنع عرفاتكا خاصّة به ترسم حدود أحلامه؟! قلت لفولوديا, عائدا من رحلة شرودي: يمكنك قول ذلك, أنا سوري.. دعاني فولوديا إلى الجلوس وراح يصلح ساعتي المعطلة. فقد تعرضت ساعتي لضربة من حذاء ضابط, حين كنت أخدم الإلزامية في مدرسة المشاة. أنا زرت فلسطين - قال فولوديا, ولم يقل إسرائيل- زرت كنيسة المهد.. هل تعرّفت على أحد من الفلسطينيين؟ سألته, منتظرا أن يكلمني عن عائلة فلسطينية لعلّه يكون قد زارها هناك: أنا أعرف عرفات- قال مبتسما- ولدي عرفاتكا..تلفّت حولي باحثا عنها, فبادرني: إنها في البيت.. عدت إلى بيت ساشا مبتسما, وكان ساشا ونتاليا قد انتقلا للسكن في شارع باكروفكا, عدت منتشيا كمن يعود من حمّام روسي شتوي يخرج فيه من غرفة البخار إلى مغطس الجليد, منتشيا لشعور لم أتبينه في البداية, إلا أنني حين رأيت عرفاتكا على جدار غرفة ساشا أدركت أنها السبب. فعرفاتكا قرّبتني من شخص آخر ستبقى لحيته الناعمة المدببة وابتسامته الطيبة مرتبطة في ذهني بفلسطين عرفات.
عاشت ساعتي, بفضل من لمسة الطبيب فولوديا, قرابة عام إضافي, لكن قلبها الذي أعاد إليه فولوديا الحياة في أحد صباحات عام ألفين وواحد لم تفد معه العناية الطبية الفائقة, فقد كانت ضربة الضابط قاتلة! حين مات ساشا في شتاء ألفين واثنين أرسلت لي زوجته نتاليا ساعة اليد التي كان يحملها, وهي منذ ذلك الحين تطوّق معصمي.. سآتي إلى نتاليا حين أسافر بعرفاتكا وإلى فولوديا بعرفاتكا..لكنها عرفاتكا بعد عرفات.. ستكون هذه المرّة عرفاتكا مختلفة عن آلاف سبقتها. فهل يمكن لعرفاتكا أن تبقى هي نفسها بعد رحيل عرفات؟ لا. صحيح أن اسمها لن يتغير, ومع ذلك فهي ستكتسب معنى آخر, ستكتسب رائحة أخرى وربما أطيافا لونية غير مرئية أخرى, وربما يختلف ملمسها, أو وزنها..شيء ما سيتغير فيها من كل بد وسيكون من الصعب التقاطه, شيء ما سيتغير فيها حتى لو لم يغيّر فيها أحدٌ أي شيء..أو قد يضيف عليها الفلسطينيون صورة عرفات- صورة الحلم الفلسطيني وقد لا يفعلون, لكنها, مع ما قد يطرأ عليها من تغيير, ملحوظ أو غير ملحوظ, ستظل في وعي الروس وطنا على قماش, وستعلّق على جدران المؤمنين منهم بالحق الفلسطيني رمزا لا يزيده الموت إلا رسوخا, وقد يكتب عليها البعض تاريخ حلم مبتور. صحيح أنّهم قلّة قليلة, في روسيا, من يشغل بالهم حال فلسطين والفلسطينيين, اليوم, لكن أحدا لن يكون قادرا على النظر إلى عرفاتكا دون تذكر حقوق الفلسطينيين, رغم كل زيف الدعاية الصهيونية وغسلها للعقول.
تعيدني عرفاتكا إلى ساعتي القتيلة الممدة على الرف بجلال, الساعة التي لم يستطع زائر فلسطين إنقاذها من الموت. يخطر ببالي أن أذهب إليها وألفّها بعرفاتكا, فمن يدري فقد تبعث فيها الكوفية الفلسطينية الحياة, أو لعل عقربي الساعة هما من يخرج كذراعي رحمة ليلفا عرفاتكا التي تقف اليوم حزينة في مهب اليتم, عرفاتكا فلسطين منتصف الطريق حيث يموت عرفات..ومَنْ منا لا يموت دون أحلامه في بلاد القهر! أشيّع ساعتي القتيلة وأرحل إلى ساعة ساشا فأرى عقربيها يبحثان عن الشمس: الشمس التي يكتبون عنها في الكتب لا تشرق هنا, لا تصدّقي!- أقول لها- يضحكون عليك حين يقولون لك إن هذه الشمس هي نفسها الشمس التي تشرق في بلاد الحرية..لا, فالشمس في فلسطين شمس أخرى ترفع دم المذبوحين المكفنين بالعلم والملفوفة رؤوسهم بعرفاتكا إلى السماء, الشمس في فلسطين تساعد الأطفال على نبش ألعابهم من تحت ركام بيوتهم التي هدمها الاحتلال..!: أعرف شمس فلسطين- تقول لي الساعة- فأنا كنت هناك في معصم ساشا حين أمسك بيده عرفاتكا حقيقية في القدس: أجل, أقول لها, فثمة بين عرفاتكا والشمس علاقة خاصة في فلسطين..عرفاتكا ترشد شمس فلسطين إلى حيث يزرع الصهاينة الظلام.
أسأل عرفاتكا الشاهدة على خروج اليهود الأخير من الاتحاد السوفيتي المنهار لاحتلال ما تبقى من فلسطين: كم بقي من اليهود في روسيا اليوم. تجيبني: يقولون مائة وخمسون ألفا بقوا هنا فقط, وذلك ما يقلق المنظمات اليهودية في روسيا. فأقول: لو أن أحدا ما يقوم بتعداد البيوت التي هجرها مغتصبو فلسطين الجدد أو باعوها في هذه المدينة وتلك وتيك, لو أنّ أحدا ما يحصيها ثم يلصق على باب كل بناية وكل بيت وكل شقة منها عرفاتكا, ليذكّر ساكنيها بأنّ عرفاتكا هنا لأن سكان هذا البيت السابقين هناك..فما عرفاتكا إلا طائر أسطوري ينقل الرسائل من فلسطين إلى مختلف أصقاع الأرض ليذكّر العالم بمأساة الفلسطينيين..طائر يصرخ في الليل والنهار صراخا مؤلما رهيبا ليس لكائن بشري طبيعي أن يحتمله, صراخا لا بد أن يوقظ, يوما, ضمائر الأوروبيين المتنعمين بحلّ مشكلتهم على حساب الفلسطينيين- الشعب الذي لا يملك إلا عرفاتكا اليوم, وبها يواجه الرصاص الإسرائيلي, وبها يواجه الفيتو الأمريكي, وبها يواجه قُبَلَ الدبلوماسية العربية المثيرة للغثيان..يجب أن تلصق عرفاتكا ليس فقط على أبواب البيوت التي غادرها الغزاة المتحضرون حَمَلَة الشهادات العليا في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والهندسة وغيرها, الغزاة الذين تأبّط كثيرون منهم آلاتهم الموسيقية للعزف في حفلات ذبح أطفال فلسطين. بل يجب أن تلصق عرفاتكا, أيضا, على جدران الساحات كي لا يكون ممكنا للإعلام الصهيوني الذي يحتل محطات الإذاعة والتلفاز وصفحات المجلات والجرائد, في روسيا وغيرها اليوم, كي لا يكون ممكنا له أن يقص جناحي عرفاتكا- الطائر الأسطوري, كي لا يكون ممكنا له أن يحوّل عرفاتكا إلى رمز للإرهاب, في وعي الأجيال الجديدة التي لم تنشأ على قيم محاربة الصهيونية, ودعم قضية فلسطين العادلة, كي لا يكون ممكنا لها ذلك, مستغلا ما يجري في الشيشان, اليوم, بتدبير لإسرائيل حضور كبير فيه.. ويجب فعل أشياء أخرى أيضا كي لا تتحول عرفاتكا, في زمن يُسلّع فيه كل شيء, إلى مجرد خرقة يمكن أن تستخدم لهذا الغرض أو ذاك.
أسأل عرفاتكا: ماذا يعني لك أن يرحل ياسر عرفات؟ تجيب: هو في نسيجي فلسطين وأنا في كل مكان.
وبعد, صحيح أن أماكن كثيرة في العالم لا يشتق فيها اسم الكوفية الفلسطينية من اسم عرفات, إلا أنّها رغم ذلك ستبقى مرتبطة في الذاكرة باسمه, فهو الزعيم الفلسطيني, الذي انسلخ الاحتلال في مواجهة حلمه إلى عشرات الوجوه وبدّل عشرات الزعماء, وبقي هو هو, يقولون فلسطين فيقولون ياسر عرفات. وعلى الرغم من أن ذلك يعكس ديمومة زعامة, غير محمودة في السياسة, إلا أنّه يعكس في الوقت نفسه ديمومة معاناة تحت الاحتلال للزعامة عندها معان أخرى.
-انتهى-
#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟