علاء سالم
الحوار المتمدن-العدد: 3439 - 2011 / 7 / 27 - 11:32
المحور:
الادب والفن
"نحن نقتل إنساناً فقط عندما نقتل طفلاً!, فالطفل هو إنسان هذا الوجود الوحيد وكل خطوة خارج محيط دائرة الطفولة تضع المرء في أطر كائنات أخرى أوطئ أو أسمى حسب اتجاه تلك الخطوة "
كان كل شيء قد اتضح لها الآن في عالمها الصغير, فوجه الحياة وإن لم يكن باسماً لكنه كان صامتاً بالنسبة لها وبلا ملامح وقد كشّر عن أنيابه الآن..أدركت أن نافذتها التي كانت تطل من خلالها على الوجود لم تكن حقيقية بالمرة لا هي ولا الشمس التي كانت تتطلع إليها من خلالها..!
حقيقة صعُب على إدراكها البريء فهمها, لكنه فهمها الآن, فهم جعل الحياة في عينيها العسليتين البريئتين مظلمة تماماً كظلمة ذلك المساء..نعم, فبراءة الطفولة أطهر من أن تُدرك ما قد يختبئ خلف هذه الوجوه الآدمية من ذئاب..
كان طريقها إلى البيت يبدو أطول مما هو عليه وكان المساء أكثر ظلمة حولها وهي تجري متعثرة الخطى إلى البيت, مستودع ذكرياتها الآمن, كانت تقبض بكفها الصغير وبإحكام على لفافة من بعض الأوراق النقدية لم تتخل, برغم ما حدث, عن مهمة إيصالها إلى البيت خوفاً من تأنيب أبيها المقعد الذي صار يطالبها كل مساء بقيمة معينة من المال والذي تجنيه من عملها اليومي شرط أن لا تهبط دون حد أدنى كان قد حدده لها مسبقا, هي لم تنس كلمات تأنيبه و نظرات مطالبته لها بالمزيد والمزيد حتى في هذه اللحظة وهي تجري متعثرة الخطى وسط ظلمة المساء..
ازداد طريقها وحشة عندما دخلت حيها, ذلك الحي الذي بناه المعدمون بلا خرائط,بلا إذن رسمي..بيوتات تشبه ساكنيها تماماً, مظلمة في الليل غريبة في النهار, تلتصق بالأرض مباشرة دون أن ترتفع عنها بتلك الدعائم الكونكريتية التي يفتخر المترفون بمتانتها و ارتفاعها...
وصلت بيتها, إذا صحَّ أن نسميه بيتاً, فوجدت بابه الخشبي العتيق نصف مفتوح وكأنه
كان بانتظارها, دخلت ولم يلحظ أحد ما كانت عليه من حال, أُمنية تحققت لبراءتها التي لم تعتد الأُمنيات, فأختها الوحيدة ذات الخمس سنوات وأن كانت قد استقبلتها بقفزة وزعقة طفوليتين إلا أن ظلمة البيت التي كانت تكسب صراعاً مع أشعة شعلة الفانوس القابع على حياء في أحد زوايا البيت منعتها من أن تلاحظ ما على وجه أختها من كدمات وما على تعابيره من ألم, أما الأب المقعد فكان منشغلا بصلاته ودعائه في الحجرة المقابلة, فأشعة الفانوس وبرغم ضئالتها قد أخبرتها بمكان أبيها راسمة له ظلا كبيرا على جدار الحجرة الداخلي..
بصمت وضعت لفافة الأوراق النقدية بيد أختها الصغيرة , وبصمت أمرت أختها بأن توصل اللفافة إلى أبويهما إذا فرغ من صلاته مشيرة إليه بيد نحيلة بينما هو منشغل بسجدته الطويلة كراهب, وبصمت أيضا تركت الفناء الذي يفصل بين الغرفتين متجهة إلى غرفة أمها المظلمة الخالية إلا من الذكريات..
ما إن دخلت الغرفة وأوصدت الباب من الداخل وأمنت, بما حولها من ظلمة, أعين الناس حتى استحال كيانها الصغير إلى عينين تذرفان الدمع بحرارة على خديها اللدنين الخمريين وشهقات تُسحب بمرارة وتختنق بعبرة وخوف..تحسست طريقها إلى الفراش الملقى قرب ركن الحجرة البعيد, ارتمت فوقه على وجهها لتكتم صوت شهقاتها وتملئ رئاتها مما يحف الفراش من ذكريات..كانت ترتجف خوفاً, تتقلب ألماً, وتبكي بصمت..تتحسس بيدها الصغيرة مواضع الألم في جسمها, تختنق بعبرتها, تذرف دموعاً على دموع..
ما تعبق به الحجرة من عطر لذكريات العطف الأمومي أوقف انسكاب الدمع قليلاً وإن لم يكن قادراً على إيقاف تلك الشهقات السريعة المتواصلة, ففي هذه الغرفة كانت ذكرياتها الجميلة عن أمها, تصفف لها شعرها عندما تذهب لمدرستها صباحا وتعود ظهرا لتجدها بنفس الغرفة على ماكينة الخياطة لتفضي بقربها بقية اليوم, وفي هذه الغرفة ,قبل شهرين أو ثلاثة تقريباً, لازمت أمها الفراش بعد أن قال لها الأطباء أنها تعاني من فشل كلوي حاد, ذلك المرض الذي لم تفهم منه بإدراكها الطفولي سوى ما كان يدور على ألسنة الجيران عندما يتحدثون إلى أبيها على أن أيام زوجته, بسبب شراسة المرض وجسمها الناحل, قد تكون معدودة..
نعم, هي لا زالت تذكر ذلك اليوم الذي ودعت به أمنها وابتسامتها, ذلك اليوم الذي قضت ليلته وهي تحتضن جسدا ميتا لأمها, تحتضنه من وراء غطاء شتائي رث..جسد لم يعد قادرا على احتضانها ومسح دموعها..
دفتر ذكرياتها الصغير الذي أوقف نزف دموعها عندما لجأت إليه أرجعها للبكاء مرة أخرى عندما تبعثرت أوراقه..
كوّرت جسمها وكأنها تحتفظ بطيف صغير لكف أمومي, قرّبت ركبتيها من صدرها, تهيجت مواضع الألم, أرجعت رجليها لوضعهما الممتد,باعدت بينهما وهي تُطلق آهات الألم والدموع لا تعرف إلا مَ سيؤول ألمها, إلا مَ سيؤول أمرها..
تسلل,وسط كل ما حولها من ظلمة وذكريات, إلى سمعها صوت متقطع لمزلاج باب الحجرة , أحدهم يحاول فتحه , بضع طرقات خفيفة ثم صوت بريء لأختها الصغيرة تدعوها بأمر أبيها الذي أتم صلاته الآن, بأن تحضر لتناول العشاء, كتمت أنفاسها لئلا تُسمع, أجابت على دعوة العشاء بالصمت, أوهمتهم بأنها نائمة..
صوت رجولي يرتفع من الفناء الملتحف بالسماء بين الحجرتين يأمر الطفلة الصغيرة بترك أختها فهي قد تكون نائمة الآن فنهار كامل من التنقل بين المسافرين في كراج السيارات تحت أشعة الشمس لا بد أن يكون مُتعبا, ثم إنها تستطيع أن تتناول عشائها متى استيقظت..!
كانت لهجة أبيها تحمل شيئا قليلا من العطف و برغمه و برغم نجاح محاولتها لإيهامهم بنومها إلا أن ترك أختها للباب جعلها تُحس بالظلم, بأنها تركت وحيدة بمواجهة ما حدث, جعلها تُفكر في المساعدة التي قد تتلقاها فيما لو كانت أمها لا تزال على قيد الحياة..
انهمرت الدموع تلو الدموع والشهقات تلو الشهقات...
صوت أبيها, والذي أصبح الآن بنظرها سبباً لكل ما حدث, أيقظ في ذاكرتها كلماته المعسولة تلك على وجبة الغداء بعد أسبوع واحد تقريبا من وفاة أمها..
تذكرت كيف بدأ حديثه, كيف أفهمها أنهم سيموتون جوعا بعد وفاة والدتها ونفاذ ثمن ماكنة الخياطة على مصاريف الدفن والأسبوع الذي تلاه, كيف أفهمها أنها أصبحت الآن " ولية أمر العائلة " فأختها في الخامسة من عمرها وهو لم يستطع العمل مع رجلين مبتورتين كرجليه, كيف أوهمها أنها تستطيع أن ترجع بعد سنتين أو ثلاثة لتكمل خامسها الابتدائي وتكمل دراستها..!
لم تزل تذكر ما أشاعته عبارة " ولية أمر العائلة " في نفسها من حماسة واندفاع لكنها تدرك الآن ما تخفيه هذه الكلمات من كذب, وما آلت إليه من تعب ومشقة وما انتهت به من كارثة..!
استمرت بالتقلب بين أليم ذكرياتها و أليمه والألم الذي يتشظى في جسمها يعتصر الدمع من عينيها اعتصارا إلى أن هدأت حركة البيت فها هو الليل قد انتصف ووقت صلاة الليل قد مرَّ وآوى أبوها المقعد إلى فراشه, حاولت أن تقف, صرخ بها ألمها بصوت أعلى وأحرقت فخذيها قطرات دم من جرح آثر النزف مجددا, نزفت عينها الدمع كما نزف الجرح الدم, تمثلت صورة ذلك الذئب البشري أمام عينيها مجددا...
طافت ذكرياتها, برعب, ما حدث وهي تنشج بمرارة وتشهق لتختنق بعبرة..
لم تكن تعرف ما كان ينوي عندما قال لها أنها تستطيع أن تبيع كل ما في سلّتها من فاكهة هناك داخل المدينة..!, لم تكن تعرف ما يضمر عندما أصر على أخذها بسيارته إلى هناك,,!, لم تكن تعرف مصدر خوفها المفاجئ عندما دخل بسيارته المدينة, عندما سحبها بقوة إلى داخل بيته..!
لكنها عرفت كل شيء الآن إلا متعته ونشوته التي لم تكتملان إلا بضربها..عندما كانت تصرخ ألما ويغمض عينيه لذة ونشوة..!
صارت ترتجف خوفا وتبكي بصمت, زحفت إلى زاوية الغرفة حيث حقيبتها المدرسية التي ظلت, رغم تركها للمدرسة, تتفقدها كل يوم..ضمتها إلى صدرها استخرجت قلمها الرصاص قبضت عليه بكفها وتكورت حول حقيبتها إلى أن أعياها الألم والبكاء و ضاق جسدها اللدن بحرارة الحجرة الموصدة فتحاملت الألم وفتحت الباب و تسللت بهدوء,عضّت على شفتيها وهي تمر بقرب أبيها وأختها النائمين لئلا تُفلت من صدرها آه الألم الذي ازداد أثر خطواتها الحذرة المتقاربة..
تسللت نحو السلم الخشبي المتكأ على حجرة أمها, تسلقته نحو سطح الحجرة المكشوف والألم يزداد بتسلقها ثانية بعد ثانية..
عثرت بحبل مرمي على سطح الحجرة كانت أمها تستخدمه لنشر الغسيل ورمته هناك بعد أن استبدلته بآخر..!
تقدمت شاردة الذهن متعثرة الخطى نحو جهة السطح المطلة على الشارع, هب نسيم عذب داعب خصلات شعرها الأسود الذي تركت به الشمس أثرا, استلقت قرب حافة السطح وتدلت يدها الصغيرة على عمود خشبي غليظ من أعمدة سقف الحجرة يمتد قليلا إلى الخارج..
عادت لسكونها, السكون يجرجر ذكرياتها, ذكرياتها ترتضع من عينيها الدموع وتملئ قلبها الصغير خوفا وجزعاً..
كانت تبحث عن حل, عن خلاص..
تذكرت عندما سألت أمها عن الرجل الذي علق نفسه من عنقه ذلك الصباح, عندما أصر أبيها على أن الأطفال يجب أن لا يتحدثوا في أمور كهذه, عندما أجابتها أمها بلهجة ذات معنى وهي تنظر إلى زوجها على إن الرجل فعل هذا ليتخلص من أعباء عائلته الملحّة التي علقت في عنقه لتبحث لها عن ولي أمر غيره..!
طافت ذكرياتها ذلك الحدث بينما كانت عيناها تذرف آخر الدمع, تحسست بكفها الصغير طرف العمود الخشبي الممتد كما يتحسس الأطفال الدمى وقبضت بالأخرى بقوة على قلمها الرصاص بينما تحوّل جل اهتمامها إلى حبل أمها الذي علق بقدميها عندما اعتلت سطح الحجرة..
عندما احترقت الأوراق التي كانت تتطلع أن تخط عليها تساؤلاتها بقلمها الرصاص لم تجد ورقة أنصع بياضا من روحها لتخط بها وعليها ما عصي على فهمها في هذه الحياة التي لم تعرف لماذا ومن أين أتتها ولماذا وإلى أين ستغادرها..!
• إذا كان مُقدراً للأكتاف أن تحمل أثم الفقر فلم خُلقت رقيقة كأجنحة الفراش؟!
• إذا كان هناك بالفعل رزقاً من السماء لكل فم يتبرعم فكيف تضطر أفواه لأن تدفع حياتها ثمناً للرغيف, حياتها التي لم تنطق بأبجدياتها بعد؟!
• إذا كانت السماء تعرف أن كومة اللحم التي كستها بتلك الوجوه الآدمية قد تستحيل ذئاباً فلم لا تجعل للبراءة عيوناً تسبر غور تلك الوجوه وتلك الابتسامات؟!
• إذا لم يكن للرغيف الذي يحلم به الحمل وجوداً إلا في أوكار الذئاب فلم لا يُخلق الحمل على هيئة تزدريها أنيابهم؟!
• إذا كانت السماء تريد من أعين الأغنياء أن ترى الفقر بالفعل فلماذا تتركه للموت وسط كل هذا الظلام؟!
• إذا كانت جهنم هي من ستفتح باب نحر نفوسنا الذي طرقناه خلاصاً, أستكون الجنة التي أوصدت أبوابها في وجوهنا أجمل منها؟!
تمت
#علاء_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟