أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - ميتافيزيقا الجلاد - أدونيس منتقدا الرؤية الوحدانية















المزيد.....


ميتافيزيقا الجلاد - أدونيس منتقدا الرؤية الوحدانية


أحمد دلباني

الحوار المتمدن-العدد: 3439 - 2011 / 7 / 27 - 16:54
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


" كلُّ مذهبيَّةٍ حُبلى بالجَلاّدين "
أدونيس
1
عكف أدُونيس في تأملاته النقدية الأخيرةِ في إشكالياتِ الثقافة العربية ومُعيقاتِ حضورها الإبداعيّ على مسرح العالم - على الخوض في ما اعتبرهُ جَذرا وأساسًا عميقا لانغلاق الثقافة العربية وتمركزها حول الذات ونبذها الآخرَ وعدم قدرتها على مدّ الجُسور إلى العالم برحابةِ نظر وسعة أفق. هذا الجذرُ العميق هو الوحدانية أو الرؤية الواحدية للعالم التي كرسها الوحي الديني في الفضاء المتوسطي. هذه الرؤية تمثل موقفا قطع مع المراحل الحضارية السابقة وقضى - بصُورةٍ شبه كلية – على ثقافاتها الوثنية التعدُّدية وعلى فلسفاتها ومُغامراتها المعرفية ليؤسّس مكانها للتعالي الأنطولوجي للوحي ومرجعية الحقيقة الدينية التي أصبحت – بفعل تدخل السلطة السياسية – قوة ً استبدادية وقهريَّة نعرفُ جميعا مدى جبروتها في سحق الإنسان بقمع الرأي المخالف ونبذ المختلف. حدث هذا شرقا وغربا، مع المسيحية والإسلام معا، حيث كان للسلطة السياسية مُسوّغاتٌ دينية لمُمارسةِ التكفير والتبديع ورمي المختلف بتهم الزندقة والهرطقة ممَّا هو معروف. هذا ما قاد أدونيس إلى اعتبار الرؤية الوحدانية للعالم والوجود رؤية ً تضمرُ خللا داخليا فيها بوصفها موقفا شموليا في أسَاسهِ العميق، يقوم على المُسبَّقات والمُسلَّمات المطلقة، كما يقوم على إرادة استبعاد الرأي المخالف ( راجع: أدونيس - مُحاضرات الإسكندرية – دار التكوين، دمشق ط1 2008. ص 58). من هنا أصبح اللاهوت حربا على الحرية في الفضاء المتوسطيّ وتجريما للعقل وحدًّا لمغامرة السؤال خارج أسوار المُسبَّق. إذ إن تحوُّل اللاهُوت إلى مؤسسة أنتج ثقافة غير إنسانية الوجه، وجعل الأرض تئن وترزح تحت سيف السَّماء المُسلط.

إن هذا التأمل الأدونيسي يستعيدُ بعضَ هواجس التفكيك الراهنة التي أرادت إخضاع النزعات الشمولية وأشكال الأصولية المختلفة للنقد، مُحاولة ً العثور على قاعدتها ونظام عملها العميق بوصفها آلياتٍ في الهيمنة وفي استبعاد الآخر المُختلِف. هذا، بكل تأكيد، تأمل نقدي راهن في هذه اللحظةِ العولمية التي تنتعش فيها الأصُوليات ويتركز فيها الحديث على الهوية والخصوصية. من هنا يُجابه أدونيس - نقديا وحضاريا - الثقافة الوحدانية التي ورثها، ثائرا على بنيتها وكاشفا عن مُضمراتها التي جعلت منها ينبوعا للعنف المُؤسَّس واستقباح حرية الفكر والعقل. لكننا نرى أنفسنا ملزمين، هنا، بالتنبيه إلى أن أدونيس لا يقصدُ بكلامه التهجّمََ على الدين الإسلامي أو أي دين آخر بوصفه دينا أو تجربة روحية في العلو واحتضان المطلق، وإنما يقصد تفكيك بنية الرؤية الشمولية للعالم وفضح ما تضمِرهُ – حتما - من رغبة مستترةٍ في نسف التعددية الفكرية والسياسية. الشمولية جرثومة تسكن كل المذهبيات المغلقة التي تقوم على الدين وعلى غير الدين من إيديولوجيات علمانية كذلك. إذ إن " كل مذهبية حبلى بالجلادين " كما يُعبّر أدونيس ( المُحيط الأسود – دار الساقي، بيروت. ط1 2005- ص 498). تكمن المشكلة أساسا، بالتالي، في الواحدية الفكرية التي تسوِّغ لأي نظام أن يهدمَ باسم المقدس أو الأمة أو النظرية الشمولية كل الحقوق الديمقراطية للكائن البشري، أو يقلص من هامش احترام العقل والبحث والإبداع. المذهبية نزوعٌ مضمرٌ إلى التمركز ونبذ المختلف وهي انغلاقٌ أمام العالم والآخر. إنها تشرنقٌ يسفح دم العقل الباحث وحرقة الأسئلة على مذبح شهوة التسلط والقمع وإرادة الهيمنة والقوة. هذا هو جذر الوحدانية أيضا بوصفها رؤية ثقافية حبلت تاريخيا بالجلادين من كل صنف منذ أصبحت مؤسسة تدين مغامرات الفكر والإبداع باسم المطلق. إذ " يوضحُ تاريخُ هذه الرؤية أن الواحديّة، منذ انتصارها على التعددية، أوغلت في التأسيس لأنظمة العنف، أنظمة "الواحد" الأرضي، تطابقا مع " الواحد " السّماوي. ومدارُ هذه الأنظمة هو الموتُ، دفاعًا عن "الواحد"، وعن نصّه، النص- الحقيقة " ( أدونيس - الكتاب الخطاب الحجاب – دار الآداب، بيروت. ط1 2009- ص 11).

لا أستطيع، شخصيا، أن أمنع نفسي من القول إن كلام أدونيس هذا يُذكرني بالفيلسوف البصير فريدريك نيتشه Nietzsche وهو يُجهز على المسيحية التاريخية كاشفا عن كونها " ميتافيزيقا الجلاد " كما يعبر بصُورةٍ لافتة في كتابهِ الانقلابي " أفول الأصنام ". التاريخ نفسُه بحسب أدونيس – أي تاريخ حوض البحر المتوسط – يُبيّن، جليا، أن ازدهار الفنون والآداب وانتعاشَ العطاء العقليّ والثقافيّ بعامة كان أجمل وأغنى بما لا يقاس في العهود السابقة على سيادة الوحدانية الدينية، أي في ظل الثقافات الوثنية تحديدا. كانت الطاقة الإبداعية طليقة ً ولم تُشهر المُؤسسة القمعية سَيفها على رقبةِ الإبداع بَعد.

هذا النقد يُحاول، كما نعلم، أن يقف على الكوابح الثقافية الراسخة تاريخيا بفعل دوام هيمنة الرؤية الوحدانية. من هنا إمكانُ اعتبارهِ نقدا ثقافيا بالمعنى الواسع، يستثمر المُنجز التفكيكي المعاصر في دك صُروح المركزيات والمُسبَّقات التي يتأسس عليها عنفُ المعنى وعنف الممارسة المُؤسَّسية في الفضاء السوسيو- سياسي. إن جذر العنف المُؤسَّس إزاء المُختلِف والمغاير يجد مُرتكزه القوي، بالتالي، في النظر إلى الحقيقة بوصفها اغتصابا مشرُوعًا للدلالة وكبحًا للعقل أمام توقه الدائم إلى المُغامرة في اكتناه الوجود. أصبحت الحقيقة مؤسَّسة و"غولاغ " يعتقلُ العقلَ ويلجمُ انتفاضاتهِ واحتجاجاتهِ ولم تعُد أفقا. وأصبح المعنى تأسيسًا نصيا لا انكشافا من خلال احتضان هيروغليفيا العالم والدخول في ليل الوجُود. إن هناك عنفا رمزيا صاحب نشوءَ الرؤية الواحدية تجلَّى في مُحاولاتها سحقَ التعدُد باسم مركزية المعنى المُتعالي وشمس اللوغوس التي جسَّدت الهيمنة وقصَّت أجنحة السؤال ليُصبحَ جرما صغيرًا يدُورُ في فلكها.
2

" ألا تمثل الوحدانيات، كما يثبت تاريخها، الخوف من الإنسان، ومن الفكر والعقل؟" يتساءلُ أدونيس. ثم يضيف قائلا إن " تاريخ هذه الوحدانيات منذ نشوئها حتى اليوم إنما هُو سلسلة متواصلة من الحرُوب، وإبادات البَشر، والعنصريَّات والديكتاتوريَّات، وفنون القتل، باسم الله الواحد نفسه " ( نفسُه – ص 18). من هنا كون الرؤية الوحدانية نظاما ثقافيا يقومُ على الاستبعاد والنبذ والمَيل إلى التمركز والحرب على المُختلف. إنها رؤية تقومُ على مُضمراتٍ لا مكان فيها لاحترام الاختلاف أو المنظورية والنسبية في الفكر والحياة، نظير ما نجد في الفكر المُعاصر الذي دأب على التذكير بضرُورة الانفتاح على هاوية المعنى وقد تخلَّص من النزعة الشمولية وأحابيل الهيمنة.

إن في أساس بعض أزمات العالم المُعاصر بالتالي - وهُو يقعُ كالطائر في أشراك الأصُوليات والهُويَّات المُدمرة - جَذرا ثقافيا يمتد بأصُوله الأولى إلى الواحدانيَّة بوصفها رؤية وممارسة ومُؤسسة تاريخية في تسويغ الاضطهاد وإبادة المُختلف باسم الحقيقة المُحتكرة في الفضاء الحضاري. لم تكن هذه الثقافة تحريرًا بقدر ما كانت تدشينا لعهُود انكماش المغامرة البشرية في البحث وفي اكتناه المعنى. هذا ما يُفسّر كيف أن هذه الثقافة تمحورت، على ما يرى أدونيس، حول الهُوية مُؤسّسة ً لنبذ الآخر وهذا منذ " مُؤسّسها الأول أخِيناتُون الذي أسَّس لإبادة المُختلف، ثقافة وحياة ً" ( المُحيط الأسود – ص 104)، خلافا لثقافاتِ ما قبل الوحدانية التي عُنيت " بالحُضور – كينونة وصيرورة ً" كما يُلاحظ ( مُحاضرات الإسكندرية - ص 57). لقد شكلت الوحدانية، بالتالي، تحوُّلا حادَ بصُورة كبيرةٍ عن تطلعات العقل الأولى في اكتناه ليل العالم والوُجود وفي القرع الأبديّ على باب الكينونة، مُدشنة ً بذلك عهدَ المرجعيّات التي أحالت السُّؤال الكيانيَّ على التقاعُد.

لعل هذا التأمُّل أن يكون قد لامسَ، فعلا، الأسُسَ الراسخة لنظام الفكر الأحاديّ الذي يجتهدُ الفكر المُعاصرُ اليوم – في صُوَره الأكثر طليعية – في تهديمه وفي فضح بنيته العميقة التي ظلت ينبوعا لكل أشكال النبذ والقمع والتمركز حول الذات. هذا هو التفكيك في كلمة. وأدونيس هنا، كما لاحظنا، يتناولُ التمظهُر الدينيَّ للفكر الأحادي كما تجلى في حوض البحر المُتوسط من خلال الأديان الوحدانية الثلاثة. لقد كان الدِّين في عمُومه، بطبيعة الحال، تجربة رُوحيَّة في العلو وفي احتضان المطلق الإلهي، ولكنَّ مأسَستهُ سُرعان ما جعلت منهُ مرجعية ً تؤسّس للاضطهاد والحرب على الإبداع واستقباح المغامرة العقلية التي كانت مُزدهرة في ظل الثقافات الوثنية. لقد أصبحت الثقافة – في ظل سيادة اللاهُوت - فنا في الخضوع لمُعطى الوحي ولم تعُد سَفرًا في مفاوز المعنى البكر أو مُساءلة للكينونة خارج أسوار الجاهز المُؤسَّسي.

مُشكلة الرؤية الوحدانية الأساسية، بالتالي، هي أنها فكرٌ ظل يعيشُ على وهم المُطابقة ولم ينفتح على الاختلاف: مُطابقةِ الحقيقة لشهوة التمركز وسَطوة الذات وقد أصبحت مَدار فيُوض المعنى في أشكاله الثقافية والمُؤسسية؛ ومُطابقتِها للوغوس الدلالة المُتعالية التي أسَّسَ لها نظامُ المعنى القائم على مُعطى الوحي. هذا، كما نعلم، ما جعل ثقافة اللاهوت التقليدي جذرا قديما لأنظمة المعرفة المُغلقة جميعًا؛ وجعلها تتناسلُ بأشكال مُختلفة، دينيةٍ وعلمانيةٍ، ولم تبرحْ أرضية الانغلاق ومرجعية المُسَبقات ونصّية الحقيقة بعيدًا عن احتضان العالم والآخر. إن ثقافة المُطابقة، بهذا المعنى، مثلت نظاما ثقافيا جعل التاريخ الإنسانيَّ يحفلُ بكل أشكال النزعَات الشمُولية وإرادة مَحو الآخر، كما جعل منها حربًا لا تهدأ ضد الإبداع وضد مُغامرات العقل الباحث عن هارمُونيا مع الوجود والتاريخ تسعُ احتجَاجاتِه وأسئلتهِ. ولنا اليوم أن نتأملَ، عميقا، في انهيار مشرُوعية الشمولية الفكرية في أشكالها المُتصلبة، وفي السقُوط المُدوّي لأنظمة احتكار المعنى الواحد - تلك التي نسمّيها الإيديولوجيات: لقد خرجت من شقوق خرائب الحداثة الكلاسيكية مشرُوعياتٌ جديدة حادت عن الاستقطاب الأحادي، وحاولت قراءة العالم المُعاصر وهو ينفتحُ على سَديم اللحظة ويشهدُ تفكك المركزيات وبروُز المُختلف.

من المُطابقة إلى الاختلاف: هذا ما يشكل مدارَ الفكر التفكيكي. إنه مدارُ الفكر الذي يُعنى بتقويض الأرضية العامة لكُل أنظمة الفكر التي ادَّعت أنها اعتقلت العالم في النظرية الشمولية، كاشفاً عن ألاعيب الهيمنة التي تُضمرها، وعن استبداد مَرجعيّاتها الأحادية أمام لانهائية التجربة ومآزق الصَّيرُورة التاريخية. فكرُ الاختلاف انفتاحٌ على مهاوي المعنى وقد أفلت من قبضة اللوغوس والكلمة الأولى التي ظلت - في كل الثقافات - خِدرًا تسكنهُ الحقيقة الواحدة المُتعالية على تعدُّد العالم وتكثره. من هُنا نفهمُ كيف أن الرُّؤية الوحدانية لم يكن بإمكانها، تاريخياً، أن تُؤسّس للرؤية الديمقراطية بالمفهوم الثقافي والحضاري الواسع: فقد كانت ينبُوعًا لكل مُحاولاتِ اختزال العَالم في الأنا، وظلت نزوعاً قوياً إلى احتكار مفهوم الخلاص. وما النتيجة؟ الحربُ على الإنسان وعلى الإبداع باسم المُطلق الديني أو النظرية الشمولية.

إن هذا النقد الجذري للرؤية للوحدانية يُبيّنُ بجلاءٍ أنها كانت مظهراً من مظاهر التجليات التاريخية المُؤسَّسية للحقيقة. من هُنا نفهم، جيدًا، إمكان انحراف البحث عن المعنى الوُجوديّ عند الإنسان إلى تجربةٍ في العنف والتسلط؛ ونفهمُ كيف تصبحُ " شهوةُ المُطلق " شهوة ً في الهَيمنة باسم الحقيقة وقد أصبحت مؤسّسة ً في حراسةِ المعنى النهائي للأشياءِ والعالم ورغبة ً في الحَجْر على العقل. هذا، رُبما، ما يدعُونا هُنا إلى إعادة التأمل جذرياً في علاقة التجاربِ الرُّوحية بالفضاء المدني والسّياسي. علينا فكُ الارتباط بين " شهوة المُطلق " والمُؤسَّساتِ التي تُجسّد عَقدًا اجتماعيا قائماً على الحُرية والمُساواة في دولة المُواطنة الحديثة. علينا تخليصُ الحقيقةِ من آليات السُّلطة وكُل أشكال الوصايةِ المُؤسَّسية – السَّائدة بكلّ أسفٍ في مُؤسَّسات العالم العربي الدينية والسياسية - لتُصبحَ سفرًا في ليل العالم وعِناقاً للآخر بعيدًا عن كل أشكال التمركز حَول الذات.
3
إن أدونيس يذهبُ في تفكيكه الرُّؤية الوحدانية للعالم إلى أبعد مدًى تتيحهُ اللحظة الراهنة: لحظة الحرب والفوضى الكونية ويقظة تنين الهيمنة بأشكاله التقنية الجديدة. إن الرؤية الواحدية للعالم، بالتالي، لا تتجلى بصورة واضحةٍ إلا متى أصبح الميل إلى السيطرة وطمس التعدّد واختزال الغنى الحضاري الإنساني في الأنا أمرًا بارزا وجليا . جوهرُ المشكلة يكمن في اعتقاد الذات أنها سُرَّة العالم. هذا هو أساس التفكير الأمبراطوري القائم على عقل أمبريالي لا يمكنه أن يرى في الفكر حوارا أو تفاعلا وتثاقفا، بل مونولوج لا ينتهي مع الذات التي تعيش خَدرَ نرجس أمام المرآة. من هنا الخلل الذي أشار إليه أدونيس في الوحدانية بوصفها آلية في النظر لا تتيحُ احتضانَ الآخر ولا قبول الفكر المختلف. إن التقنية الحديثة هي أيضا – بوصفها أداة سيطرة وإخضاع ونمذجة – لا تقف على فراغ، وإنما هي غصنٌ يتفرع عاليا اليوم، ويطلعُ في أصل الجحيم الأوليّ: الفكر الأحادي الذي يضمرُ الرغبة في محو التعدّدِ والاختلاف، ويضمر الدعوة إلى العنف سبيلا إلى تطهير العالم من جلبة أصواتهِ المتكاثرة، بحثا عن هارمونيا الوجود وقد أصبح صدًى للذات الصّافية. هذه هي العنصرية. ولكن ما يكون مصيرُ رؤى كهذه على المُستويات الحضارية والإنسانية والثقافية؟ يجيب أدونيس: "... لقد فشلت الرؤية الوحدانية، حضاريا، قبل فشل التقنية المادية. ولعل فشل الأولى أن يكون في أساس فشل الثانية " ( المُحيط الأسود – ص 104). ما معنى ذلك؟ من الواضح أن أدونيس لا ينظر إلى الحضارة وقوتها من جهة الهيمنة والفتح، بقدر ما ينظر إليها من جهة اغتنائها بالأبعاد الإنسانية والإبداعية. الحضارة، بالتالي، هي ما يزيدُ في رصيد الإنسان على درب تحقق إنسانيته - حرية وحقوقا وتفتحا؛ وهي ما يسهمُ في دفعه إلى صنع هُويته إبداعيا وتشكيل العالم في أفق الوعد بالانعتاق الشامل. هذا ما يجعل الوحدانية – بمعنى ما - فشلا حضاريا بوصفها طمسا لإمكانات الإنسان في بناء عالم تتآلف فيه أصواته المتعددة، وبوصفها آلية جبارة في السيطرة والإخضاع وقتل روح النقد والإبداع. نجد هذا في أشكالها الدينية القديمة كما في أشكالها الإيديولوجية / التقنية الحديثة. الجذر، في الحالتين، واحد: إرادة القوة والنبذ مكان التآلف، ومركزية الذات مكان التعدد والانفتاح على الآخر.

إننا نعثر في كلام أدونيس – انطلاقا مما سبق - على حُلم رومانطيقيّ عميق يتمثل في ذلك الحنين إلى طفولة المتوسط، يوم حبلت ضفافه بالأبجدية ويوم كان فيه الإنسان سَميرًا للآلهة وبطلا يُجابهُ القدرَ أو يطوفُ العالم بحثا عن عشبة الخلود. كأنه يحلم – بوصفه مُبدعا ومُفكرا - باستعادة العُهود الوثنية في صورة انتفاضةٍ ضد تاريخ طويل من سيادة الوحدانية وممارساتها في الإدانة والقتل والحجر على العقل المبدع. كأنه يحلمُ بعودة فردوس مفقودٍ اضمحل كطفولة هاربة طواها الزمن. إن نيتشه العربي هنا، أعني أدونيس، يُجابهُ زمنَ سيادةِ الوحدانية وسيادة ثقافتها القائمة على الرؤية الواحدية للعالم بزمن التعدّدِ الذي جسَّدهُ تاريخٌ سابق، كان مسرحا لمغامرات العقل ويقظة الروح على أسئلة الوجود والمصير الكبرى بمعزل عن شرعة فرض اليقين الواحد؛ وهذا مثلما جابه نيتشه – في الفكر الغربي الحديث – زمنَ العدمية الأوروبية الذي جسَّدتهُ المسيحية - بوصفها مؤسسة تاريخية لإنكار الحياة وطمسها - بزمن الإغريق المأساوي الذي مثل شبق الإنسان في احتضان الحياة وأسرارها، واحتفاءَهُ ببطولةٍ ديونيزوسية سَكرى بالوُجود وأعياد الأرض والجَسد.

إن تاريخ الوحدانية، انطلاقا من ذلك، لم يكن إلا تاريخ مُمارساتها وتأويلاتها المُختلفة التي تفننت – شرقا وغربا – في سَحق كلِّ تطلع معرفيّ إنساني والزج بتنوُع العالم وغناه في قمقم الأحادية الفكرية والسياسية. لقد ظلت الوحدانية، بذلك، مُسوّغا كبيرا لجعل السَّماء سيدة على الأرض، وجعل المُطلق حارسًا أمينا لقلعة الحقيقة المُؤسَّسية أمام مُناوشات التاريخ وكل أشكال المُمانعة. لقد فكك انتصارُ الوحدانية، ثقافيا وسياسيا، العالم المُتوسطي القديم وجعل منهُ جُزرا مُتنابذة لا تقومُ بينها إلا علاقات الاستبعاد المُتبادل بحسب تعبير البروفيسور محمد أركون؛ كما رسَّخ هذا الانتصار ثقافة الهيمنة وإرادة طمس الآخر وسَحقه باعتباره ضالا أو مُبعدًا من دائرة الخلاص. هذا يعني، رُبّما، أن الرؤية الوحدانية مثلت – في وجهٍ من وُجوهها – نهاية التاريخ: لقد أرادت إجهاض المُغامرة المَعرفية البشرية والتأسيسَ لثقافةِ النهايات الكامنة في البدايات وفي مَلاحم الولاداتِ المُقدَّسة. فكل الرُّؤى المغلقة والشمولية تهيمنُ باسم الماضي أو المرجعية النصية.

هكذا – وانطلاقا من ذلك – يرى أدونيس أنَّ من أوكد المهام المُلقاة على عاتق الفكر الرّاهن أن يتنطح لمشكلة حضور الوحدانية بوصفها رؤية ً وممارسة مؤسَّسية ظلت تاريخيا " طاقة منذورة لتعطيل الحياة، والقضاء على الفكر " كما يُعبر ( مُحاضرات الإسكندرية – ص 59). إن ما يعرفه العالم اليوم، بالتالي، من أشكال النبذ والإقصاء ومن صنوف العنصريات والأصوليات، يجد جَذره في أساس عميق يتمثلُ في مضمرات الرؤية الواحدية التي لا تسمح – بوصفها نظاما معرفيا ذا بنية لاهوتية مغلقة – بتعدّدِ العالم ولا بحق الفكر في مد الجسور نحو المجهول واحتضان الآخر بمعزل عن المُسبَّقات الراسخة. هذا استبداد يتخذ أشكالا كثيرة في الخطاب والمُمارسة. لذا، يجب البدءُ بقراءة الرؤى الوحدانية كلها " على نحو نقدي وجذري " كما يقول أدونيس " خصوصا في أشكالها المؤسَّسية " ( نفسُه – ص 61)، وهذا بغية التخلص من نزعات الهيمنة، وتدشين عهد نزعةٍ إنسانية جديدة تنهي زمن المركزيات وتفضحُ مُمارساتِها التي حوّلت التاريخ إلى كوميديا عنفٍ وانغلاق جهنمية الطالع . نزعةٍ إنسانية تبدأ زمن العالم المُؤتلف في اختلافِه. هكذا تستعيدُ الإنسانية حقوقها في السكنى في مُحيط الحياة من جديد وقد أصبحت قيمة ً عليا وهارمونيا جزر تكتب شبقَ مدّ الجُسور إلى الآخر وسِفرَ الخروج من التمركز. هكذا يبدأ تاريخٌ جديدٌ على أرض الغرابة الشعرية التي طالما حلم بها أدونيس: حيث الشمسُ عينٌ لا تمنعُ خمرة الضوء عن فراشة الإنسان التائهة؛ وحيث الأرض مهدٌ طيبٌ وبيتٌ لا يطرُد الشعراء إذا مدُّوا أيديهم إلى فاكهة شجرة الجسد؛ وحيث الموجُ في محيط الوجود الشاسع يَسردُ عناقَ البداية والنهاية فاضحًا لغة الكلام.

4
يندرجُ هذا النقد للوحدانية – كما عرضناهُ – في مشروع أدونيس المبدئي الرَّامي إلى تخليص الثقافة العربية من هيمنة المُتعاليات ونظام المعرفة القائم على سيادة المُسبَّق. لا حداثة ولا إبداعَ مع دوام استمرار الماضوية ومُؤسسة الحقيقة القائمة على العقل الفقهي ذي البنيةِ المرجعية الأصُولية. من هُنا وجبَ تحريرُ الطاقة العربية على الكشف وعتقُ العقل من مَحبس الأصُوليات جميعها من أجل الخروج من الكُساح الحضاري والشلل الذي طال أمدُه. ونعرفُ جميعاً كيف أن هذا الأمرَ شكل مدارَ نضال الأنتلجنسيا العربية منذ عقودٍ وهي تواجهُ زمن الانتكاس والفشل أمامَ لحظةٍ حضاريةٍ زاوجت بين المعرفةِ والقوَّة وخمدَ في ليلِها ضوءُ الألوهة. إلاَّ أننا نرى، من جهتنا، أن النقد الأدونيسي للثقافة العربية ذهب إلى أبعدِ مدًى ممكن في لحظتهِ: فلم يكن هذا النقد مُجاراة ً للسائد من الأفكار الإيديولوجية الجاهزة وإنما مُراجعة تفكيكية ذاتَ طابع حفري في ما تأسَّس عليه الفكرُ المرجعيّ برُمتهِ تراثيا كان أو حديثاً. لقد ظلَّ هاجسُ أدونيس المركزيّ يتمثلُ في مُحاولة تخليص الحداثة من سُقوطها في النظام والانغلاق والأدلجة لينظُرَ إليها بوصفها مُقاومة ً مستمرة لبنية التفكير المرجعية. هذا رُبما ما جعلهُ ينبّهُ، باكرًا، إلى الأرضية الإبستيمية الواحدة للفكر الغيبي والفكر الإيديولوجي معاً رغم اختلافهما في مضمُون رؤية العالم والخلفية المعرفية التي يصدُر عنها كل فكر. إذ إن الفكرَ الغيبيّ والفكر الإيديولوجي " ينطلقُ كلاهُما من نصّ- مرجع، ومن إيمان به، قبليّ ومُسبّق " كما يُعبّر (المُحيط الأسود – ص 396). لقد رأى أن وراء الاختلافات المذهبية للفكر السَّائد في الثقافة العربية نظامًا معرفيا واحدا تتأسَّسُ فيه الحقيقة على النص المَرجعي وإرادةِ اعتقال العالم في النظرية الجاهزة، ما جعلهَا تبدُو فيه كأنها لاهوتٌ يُشهرُ سيف الاستبعاد والنبذ والإدانة.

هذا ما جعلهُ يعتقد أن الفكر العربيّ لم يتغير بصُورةٍ جذرية بعد هجمةِ الحداثة عمَّا كان عليه قبل قرون. لقد ظل فكراً يقومُ على قبلية المعنى ولم ينفتح على صَيرُورات العالم والتاريخ. لقد لبسَََ هذا الفكرُ العَباءة العلمانية ولكنهُ بقي لاهوتيَّ الطابع في عُمقهِ: يستندُ إلى نص – مرجع، ويُمارسُ عنفا نظريا ومُؤسَّسيا إزاء المُختلف. من هنا نفهمُ جيدًا غياب الديمقراطية عن هذا الفكر ونفهمُ مُمارساتِ القمع والإدانة والتخوين التي تمت باسمهِ. هذه هي الواحدية الفكرية. كان ستالين والمُستتيبُ القديمُ أيقونتين تسكُنان معاً دُخيلاءَ كلِّ مفكر عربيّ إيديولوجي. فليست الشمُولية والواحدية الإكليرُوس والحروبَ الصَّليبية فحسب وإنما هي الحزبُ الواحد ومُعسكرات الاعتقال أيضا.

انطلاقاً من ذلك نعتقدُ أن مُشكلة الانغلاق أمام الآخر تكمنُ في جذر أبعد غورًا من الوحدانية الدينية. فلم تكن الوحدانية، تاريخياً، إلا تجلّيًا من تجليات الواحديةِ الفكرية القائمة على إرادة التمركز حول الذات ونبذ المُختلف. إنها الصُّورة الدينية الطائفية لمُحاولةِ اختزال العالم في الأنا واحتكار معنى الكينونةِ التاريخية للبشر والاستئثار بالخلاص. هذا يعني بالتالي - كما يُعلمنَا التاريخُ - أن الوَاحدية لم تكن دومًا ذاتَ طابع دينيّ بالضرورة وإنما ظلت نزوعا مُضمرًا إلى المركزية التي يجتهدُ الفكر التفكيكيُّ المُعاصر في فضحها عبرَ تناولهِ خطابات الهيمنة قديماً وحديثًا.

أحمد دلباني



#أحمد_دلباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فصل عن العرب سقط من فصول - كتاب الموتى-
- متى ينتهي نشيد البجعة؟
- الكتاب الأسود
- الشرعية السياسية والزمن الثقافي
- في الطوطمية السياسية وحضور الوصاية: الحقيقة والسياسة
- رسالة إلى مستبد عربي
- في مشكلة السلطة العربية واللاشعور السياسي الجمعي: خريف البطر ...
- عن الثورة العربية وأسئلة العقد الاجتماعي الجديد: قد يعود الب ...
- قداس السقوط
- احتفاءً بالكوجيتو العربي الجديد: - أنا أثور، إذن أنا موجود -
- المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد: التفكير بوصفه قطفا للثمرة ال ...


المزيد.....




- 144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة ...
- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...
- بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - ميتافيزيقا الجلاد - أدونيس منتقدا الرؤية الوحدانية