/ باريس 24/8/2002
إن العملية العسكرية المحتملة التي تهدف إلى تصفية نظام صدام حسين تتم أولاً في كواليس الإدارة الأمريكية في واشنطن . وقد ظهرت للعلن مؤخراً خلافات في التقديرات ووجهات النظر بين قطبين رئيسيين في الولايات المتحدة الأمريكية هما وزارة الدفاع " البنتاغون " برئاسة دونالد رامسفيلد ووزارة الخارجية برئاسة كولن باول ، هذا عدا المترددين في الكونغرس الأمريكي وبعض رجالات الحزبين الجمهوري والديموقراطي ومسؤولين سابقين في الإدارات الأمريكية السابقة من مستوى مستشاري الأمن القومي ووزراء الخارجية وبعض رجالات الجيش والخبراء العسكريين . والجميع يطرح مجموعة من التساؤلات المشروعة والمسموح بها في إطار النظام الديموقراطي المتبع في الولايات المتحدة الأمريكية من قبيل : هل يشكل النظام العراقي خطراً حقيقياً ومباشراً على الأمن القومي الأميركي ؟ وهل يمثل خطراً حقيقياً وآنياً على الأمن الإقليمي ؟ وهل من المناسب الآن وفي هذا الوقت المحفوف بالمخاطر والتوترات الدولية ، خوض تدخل عسكري من هذا النوع في حين إن السياسة التي يتبعها الجنرال آرييل شارةون في الأراضي الفلسطينية ، من وجهة نظر الشارع العربي ، لم تتعرض لأي نقد من جانب الإدارة الأمريكية ؟ وهل ينبغي اليوم إنهاء " حرب " لم تنته عام 1991 وإن كان ذلك مقصوداً لضرورات استراتيجية واقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية تخضع لمعايير تلك الفترة وبقرار من الإدارة الأمريكية ذاتها بوقف العمليات العسكرية والإبقاء على نظام صدام حسين في السلطة والسماح له بكبح وسحق الانتفاضة الشعبية التي شجعتها ودعت إليها واشنطن ؟
مما لاشك فيه أن حرب الخليج الثانية لم تنته إلاّ في شكلها العسكري وتواصلت بأشكال أخرى منها الحصار الاقتصادي والحظر الجوي والمراقبة والتفتيش وتسديد الضربات العقابية بين الفينة والأخرى ضد هذا النظام الديكتاتوري .لأن سقوط النظام العراقي في ذلك الوقت كان سيخلق خللاً في المعادلة الإقليمية المبنية على هيمنة الغالبية السنية على الأقلية الشيعية في منطقة الشرق الأوسط إذ لو سقط النظام العراقي لكان بالإمكان وصول القوى السياسية الشيعية العراقية إلى سدة الحكم وتحالفها من النظام الإيراني الشيعي وكسب شيعة الكويت والبحرين ولبنان وسوريا إلى جانبهم وتشكيل محور شيعي يمكن أن يهدد الحليف الأول والأهم للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة آنذاك بعد إسرائيل بالطبع وهو المملكة العربية السعودية، مما يهدد بجر المنطقة الشيعية السعودية في المحافظة الشرقية للمملكة الغنية بآبار النفط الرئيسية ، وحثها على التمرد والإنفصال والإنضمام إلى المحور الشيعي المنشود . وهذا بحد ذاته يشكل سيناريو كارثي للعائلة المالكة السعودية ولحكام الخليج السنة كما هو حال حكام الأردن ومصر ، ولا ننسى إن صدمة الثورة الخمينية لم تكن قد إختفت بعد حينذاك .
والحال إن المخاطرة السياسية والتحالفات قد تبدلت ،فحصل تقارب وتنسيق بين السعودية وإيران ،وشبه مصالحة بين السعودية والنظام العراقي بعد قمة بيروت العربية ،وتداعيات الانتفاضة الفلسطينية، واختلاط الأوراق والاصطفافات الإقليمية والمحلية ،والتقارب السوري ـ العراقي ، والعراقي ـ الإيراني ،الخ.. ثم يأتي حدث الحادي عشر من ايلول / سبتمبر ليغير المعادلات كلها ويقلبها على عقب حيث تتحول العربية السعودية من الحليف الأول إلى العدو الأول لدى بعض أصحاب المشورة والرأي في الولايات المتحدة الأمريكية .
من هنا يمكننا القول ، عند قراءة مشروع الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط ، إن الحرب على النظام العراقي قائمة لامحالة ـ إلاّ إذا وقع حدث غير متوقع بمستوى أحداث أيلول 2001 يحدث إنقلاباً معاكساً ـ ويتوقع شن الهجمات بشكل من الأشكال ، في الثلث الأول من السنة القادمة 2003 خاصة وإن المؤشرات كلها تدل على أن وجهة نظر صقور واشنطن هي التي تغلبت على مواقف وآراء حمائم البيت الأبيض .
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت موسكو عاجزة عن التصدي للمشاريع والمخططات الأمريكية في المنطقة ولاتشكل قطباً مناوئاً للولايات المتحدة بل والأسوء من ذلك أصبحت تابعة لها ومعتمدة عليها اقتصادياً وغذائياً. فبدون المساعدة الاقتصادية الأمريكية تصاب روسيا بما يشبه المجاعة ، وأسلحتها النووية أصبحت قديمة ومتهالكة لاتقوى على الرد على القوة الأمريكية المتطورة والغاشمة . فالتفوق التكنولوجي الأمريكية عسكرياً أصبح بديهية يعرفها الجميع ويمكن واشنطن من إتخاذ القرارات وحدها دون مشورة أو تنسيق وموافقة الحلفاء والأصدقاء الآخرين الذين لم يعد لديهم سوى الموافقة والمشاركة بشكل من الأشكال وإلاّ فالعواقب وخيمة ، ولم يبق أمامهم سوى الاعتراض الشكلي أو اللفظي ليس إلاّ، وهذا ينطبق على أوروبا والصين وروسيا واليابان ودول العالم الثالث برمتها بما فيها منظومة الدول الإسلامية . أما العالم العربي فلا حول له ولا قوة سوى المماطلات والمهاترات الكلامية . ولولا قضية فلسطين والموقف الأمريكي المتحيز لإسرائيل بصورة مطلقة لما أمكن للعرب أن ينطقوا بكلمة احتجاج أو اعتراض واحدة ضد أمريكا .
تواجه أمريكا خصماً ليس لديه مايخسره سوى تشبثه بالحكم الذي بات مهدداً وآيلاً إلى السقوط لذا يمكنه أن يغامر عسكرياً ويكون الباديء بالضربة إذا فقد أعصابه أو أصابه اليأس ـ بأن يضرب إسرائيل الأقرب إليه مثلاُ بأسلحة كيمياوية أو جرثومية " بيولوجية " كما يشاع اليوم ـ وبالتالي تريد الولايات المتحدة الاحتفاظ لنفسها بعنصر المفاجأة . ومن هنا يمكن توقع اختيار البنتاغون لخيار الضربات المخططة والمستهدفة لأهداف محددة بدقة متناهية ـ كضرب قوات الحرس الجمهوري ووسائل الاتصالات ومقرات الحزب ومساكن المسؤولين المقربين لصدام ومخازن الأسلحة والذخيرة ومعامل الأسلحة وخاصة أسلحة الدمار الشامل الخ ـ والتركيز على بغداد لعزلها عن باقي المحافظات التي سيسهل السيطرة عليها فيما بعد . وهذا يعني تسديد ضربات سريعة ومركزة إلى رأس النظام ولتحقيق هذه المهمة يكفي توفير وتجهيز 50000 رجل مسلح ومدرب تدريباً جيداً لمثل هذه المهمة . وبعد الإنتهاء من الضربات الجوية وعمل القوات الخاصة على الأرض يجري تأمين عملية إنتقال السلطة ووضع حكومة بديلة تضم أغلب القوى السياسية العراقية المعارضة والمتحالفة ضد نظام صدام حسين تكون مهمتها ملأ الفراغ في السلطة والتحضير لانتخابات ديموقراطية حرة ، أو العكس تماماً ، تنصيب سلطة مكونة من رجال هم أشبه بالدمى أو البيادق الذين تحركهم واشنطن كما تشاء وتحتل الولايات المتحدة الأمريكية العراق بقوات كبيرة تتمركز في البلاد وتقيم القواعد العسكرية المتطورة لتشكل نقطة إنطلاق قوية لزعزعة الأنظمة العربية التي لم تشارك في الحملة الأمريكية أو عارضتها، وقلب النظام الإقليمي كله على عقب بدءاً من إيران وإنتهاءاً بسوريا مروراً بالعربية السعودية ودول الخليج الأخرى التي لم تشارك في هذا السيناريو الكارثي الذي يختلف كلياً وجوهرياً عن سيناريو أفغانستان . فهذه الأخيرة دولة فقيرة ولاتشكل أهمية اقتصادية للغرب عدا كونها تقع في طريق نفط قزوين والقوقاز ، في حين إن المنطقة العربية هي الأغنى والأكثر أهمية اقتصادياً لدول الغرب فالعربية السعودية والعراق يضمان أكبر احتياطي نفطي في العالم اليوم إلى جانب دول الخليج الأخرى ، والولايات المتحدة الأمريكية تريد استثمار حملتها هذه للسيطرة على منابع النفط كلها ووضعها تحت هيمنتها وبالتالي وضع دول الغرب الأوروبي تحت رحمتها بما في ذلك روسيا رغم عدم حاجة هذه الأخيرة للنفط العربي.
يمكن للولايات المتحدة الأمريكية وبدون صعوبات تذكر ، الاعتماد على الدعم والإسناد البريطاني لها . ولديها أساساً أكثر من 50000 رجل سيكونون متواجدين في الكويت شاءت هذه الأخيرة أم ابت ، ومعهم مئات التقنيين الألمان الخبراء بالأسلحة الكيمياوية والبيولوجية [ ولا ننسى إن الشركات الألمانية هي التي ساهمت وزودت النظام العراقي بالقدرات العسكرية الكيميائية والبيولوجية ] . أما تركيا فسوف يتم تعويضها مالياً على مشاركتها المباشرة المضمونة [ رغم الإدعاءات الظاهرية بمعارضة الضربة الأمريكية ] ، وسوف تحل قطر محل العربية السعودية كمكان لتجمع القوات الأمريكية الإضافية غير تلك الموجودة في الكويت ، في قاعدة العديد تحديداً كنقط إنطلاق أخرى تؤازر وتنسط هجمات الصواريخ المنطلقة من حاملات الطائرات في الخليج والبحر الأحمر، ومن المحتمل جداً ، وإن بسرية تامة ، أن تقدم الأردن أراضيها وبعض تسهيلات المرور لحماية المنطقة الغربية القريبة من الحدود الأردنية ـ الإسرائيلية ومنع تواجد محطات ومنصات إطلاق الصواريخ العراقية المتحركة التي يمكن أن تهدد بضرب وإصابة إسرائيل .والآن ماهو البعد السياسي لهذا المخطط العسكري الجهنمي الذي أقره صقور البنتاغون في واشنطن ؟ يقول هؤلاء بأنه لو تم تنفيذ هذا السيناريو بدقة وبحذافيره وحقق أهدافه كاملة وبأسرع وقت وبأقل الخسائر [ خاصة فيما يخص المدنيين العراقيين والبنى التحتية العراقية ناهيك عن القوات المشاركة في العمليات ] فإن الأنظمة العربية المحرجة تجاه الرأي العام فيها كمصرولأردن لن تتعرضا إلى هزات وخلخلة وزعزعة إستقرارها . وسيكون النظام العراقي القادم مقبولاً وفيدرالياً وديموقراطياً لاسيما من ناحية كون العرب ، السنة والشيعة ، والأكراد ، السنة والشيعة منهم أيضاً ، وباقي المجموعات الإثنية ، سوف يشاركون في السلطة في بغداد ، بدلاً من تنصيب جنرال ديكتاتوري آخر عربي ـ سني يستند إلى فئة ضئيلة من السكان على حساب الفئات الأخرى التي تشكل غالبية السكان. والحال إن الحل السياسي البديل المعروض يصعب تحقيقه في ظل النسيج المتواجد حالياً من القوى السياسية العراقية المتنافرة ، بل هو أصعب من تحقيق العمليات العسكرية المحددة أعلاه .
إن هدف تغيير النظام ذو وجوه متعددة ، فالمقصود منه بصفة غير مباشرة ، تقليل أهمية النفط السعودي في موازين المعادلات الاقتصادية الدولية ، وبالتالي إنهاء الدعم غير المشروط للعائلة الحاكمة في المملكة العربية السعودية ، وعزل إيران وجعلها تدرك بصورة أفضل مخاطر سياستها المعادية للولايات المتحدة الأمريكية ودفعها للتفكير بإجراء تقارب جدي مع هذه الأخيرة . ومن جهة أخرى يهدف المشروع ، إذا تحقق على أرض الواقع ، إلى تحويل العراق إلى واجهة نموذجية للتنمية والإزدهار والتطور والديموقراطية ليؤثر إيجابياً على دول الجوار وحثها على التحول المماثل سلمياً دون إراقة دماء أوالإضطرار إلى إستخدام القوة لتحقيق التغييرات المنشودة نحو الديموقراطية والتعددية ، ما من شأنه تسهيل عملية السلام في المنطقة بين العرب وإسرائيل التي سوف تندمج في هذا المحيط الديموقراطي العربي الذي تنشده واشنطن نظرياً أو علنياً كما تدعي من خلال تخصيص ميزانية لبناء وترسيخ الديموقراطية في العالم العربي حسب إدعاءاتهم الإعلامية . وهو مشروع طموح يستند إلى رؤية سياسية عقلانية يتمناها العالم أجمع ، ولكن يتعين علينا أن نعرف ما إذا كان الواقع العربي الحالي قابل للتكيف مع مثل هذه المشاريع الطموحة ؟