أنور مكسيموس
الحوار المتمدن-العدد: 3436 - 2011 / 7 / 24 - 23:57
المحور:
الادب والفن
عندما وصل همام البيت, تجهم وأظهر غضبا شديدا, رغم أنه طوال الطريق, كان يتضاحك مع من يقابله, من معارفه وجيرانه, وخلفه حجاج, صاغرا مستسلما لحمله الثقيل من حطب وروث, وما طالت أيديهما, من خير فيلا عبد الرحمن بك…
نظرت سيدة فرأت وجهه المكفهر, فتوقعت مصيبة كبرى!…
- خير يا "ابو" حجاج!…خير, ماذا حدث؟!…
لم يرد عليها إلا بالسباب, واللعنات عليها وعلى ابنها العويل هذا…
ثم أكمل قائلا: بسبب ابنك العويل هذا, تركت العمل بالفيلا…
وقبل أن يكمل دقت المرأة على صدرها, ثم لطمت خديها: فصلت!…
-يا ليتهم فصلوني…ما دمتم ورائي, أنت وابنك سوف أفصل بالتأكيد…
استردت سيدة أنفاسها, عندما علمت أنه لم يفصل, لا يهم, يعمل في أي شئ, المهم ألا يفصل…
-بسبب ابنك تركت العمل بالفيلا, وسوف أخرج مع عمال الزراعة, والقياس, وجمع القصب…
-منذ متى؟!…
سألت سيدة وهي منزعجة. فهي تخشى على مكان زوجها في العمل, وخسارة ما يحضره من الفيلا, مما تطوله يده…
-من باكر يا أم الحبيب, "الواد" ابن…ترك العمل وظل يتطلع الى زوجة المفتش وابنتها, كأنه يرى عجبا. رآه بلال, وربما يخبر البك, وأجد نفسي أنا وأبنك العويل هذا بدون عمل!…
دقت المرأة صدرها وهي تولول, وشردت للحظات, وهمام يصاعد من قلقها وخوفها, فترتفع معه حدة عصبيته المفتعلة, حتى أربك البيت بأكمله, ثم هجم على ابنه, يصفعه ويركله, وهو يشتم الجميع, بكل بذاءة الألفاظ, وحجاج يسقط حسبما يدفعه أبيه!…
لم تستطع الأم التدخل في زمرة هذا الهياج, إلا بالرجاء والتوسل, وأن يرحم نفسه وصحته, حتى تعب, وجلس على الأرض يلهث, وهو لا زال يسبهم, ويحملهم مسؤولية فصله من العمل, ويعدها بالطلاق إن حدث ذلك !.
أكثر ما يضايق همام, هو ذلك الهدم المفاجئ لأحلامه. فقد كان يحلم أن يقوم حجاج بكل العمل, بينما هو يرقد مستريحا وذلك يتيح له فرصة أكبر لسرقة ما يستطيع, و أخيرا يقبض مرتبه آخر كل شهر.
على أي حال, هي مناسبة ليستعيد بثورته هذه سلطته على البيت, وسلطته على ابنه حجاج الذي لن يعارض في إعطاؤه, كل ما يقبضه, صاغرا مستسلما!.
أمرها بإعداد الطعام, فهرولت مسرعة, وجهزت العشاء سريعا, وجلس ليأكل, وجلست هي قبالته.
نادت على حجاج ليأكل, فرفض, فألحت عليه, مما أغاظ همام فنهرها: اتركيه!…"عنه ما أكل"…ثم اغتاظ فجأة, وأنت أيضا يا بنت…لا تجلسي معي وتأكلين!…
انزاحت المرأة في ذل وانكسار, الى ركن قريب من ولدها, وهي تنظر إليه بين الحين والحين, وتنتظر أن يفرغ هذا "الآف", -كما كانت تسميه, حين تكون مغتاظة, ومنكسرة- من الأكل لتقوم برفعه, و إطعام حجاج خفية.
والاف هو تسمية أهل تلك البلاد لنوع من الثعابين شديد العدوانية والسمية.
أنهى همام طعامه, بعد طول وقت, لم يتعوده, وهو يأكل, في بطئ ويفكر, ويختلس النظر الى زوجته بين الحين والحين.
التف جانبا, حتى يظل الطعام, على يمينه, فلا هو يأكل, ولا أحد يستطيع أن يتقدم ليأكل, أو حتى تقدر سيدة أن ترفع الطعام.
تسللت سيدة في خفة, عندما سمعت شخير زوجها يعلو, وقامت برفع بقايا الطعام, ثم انسلت به الى الغرفة المجاورة, ووضعته على المصطبة, حيث ينام ولدها حجاج, ثم همست في أذنه, وهي تجذبه, ليقوم ويسد رمقه, وينصب طوله ببضع لقيمات.
أبى الصبي أول الأمر, ورفض وهو ينشج, ثم قام معها مستسلما…
جعل حجاج يأكل, وأمه تنظر إليه, وهي تحاول أن تستوضح ما حدث بحدسها!.
استغلت سيدة معرفتها بطبائع الرجل الصعيدي-وهي قد لا تدري أنها طبائع غالبية القطر المصري كله- حتى تمنع, على حجاج أي تصرف خاطئ, فقالت له: أترضى يا حجاج, أن ينظر أحد الى أختك, لو كان لك أخت؟! … أو أمك... طبعا لن ترضى! …
هذا هو الوتر الذي عزفت عليه سيدة. فهي تعرف, أن الذكر الصعيدي, ينظر ويشتهي, ويرغب وهو في غيبة من أمره. ولكن ما أن تذكره بشرف أهل بيته, وتربط بين ذلك وما يريد أن يفعله تتغطى الشهوة والرغبة, بالتقوى, والأمانة, واجتناب الحرام. وهي تعرف, أيضا, أن الغالبية العظمى من الأزواج, لا يفعلون ذلك, فقط خشية أن يبتليهم الله بما يفعلون, وان فعلوا فأنهم يكونون أشد على بيوتهم, وبناتهم, حتى لا يقتص الله منهم, بأفعالهم! وهم لا يدرون أنهم بذلك يعجلون القصاص …
وهم يقومون برواية الحكايات والأحداث, في بيوتهم ومع أصدقائهم وجيرانهم, وحولهم الصبية يتسمعون. وكلما قصوا فانهم يزايدون ويزيدون من واقع خيالهم, حتى يرهبوا أنفسهم والسامعين, من هول القصاص, والفضائح!…
قصت عليه في عجالة مما سمعت فيما سبق وحدث كي تؤكد له ما تقوله وترويه...ألم تسمع؟!...ألا تذكر؟!…هل ترضى يا حجاج؟... والصبي يجيبها بالنفي…
أردفت سيدة أخيرا: نحن يا ولدي أناس فقراء وليس لنا إلا الستر, وهؤلاء أناس أكابر ولا يحبون لأحد أن ينظر الى خصوصياتهم من الفقراء …
فلأجل خاطري يا ولدي, عملك وعملك فقط…أبوك, له ما يزيد عن ثلاث سنوات, يعمل ولم يسبق أن شعر به أحد…لم يلفت نظر أحد نحوه, حتى بلال…
تشنج الصبي, ما أن ذكرت سيدة اسم بلال فقال وهو يبكي: ظل أبي يضربني هو وعم بلال…
قاطعته أمه وهي تقول: و"ماله"! …بلال مثل أبيك, وأبيك يخاف عليك, وعلى نفسه… هل يرضيك أن يفقد أبيك وظيفته وتفقدها أنت معه؟!.
لقد حصلنا على هذه الوظيفة بأعجوبة, فهل يرضيك أن تفقدها؟!…
وبعدين هؤلاء أناس, مظاهر من الخارج ومن الداخل يعلم الله!…وان كانت لك حاجة عند الكلب قل له يا سيدي…ضربك أبيك أو ضربك بلال لا يهم…المهم أن تصبر وتتحمل, حتى تثبت قدمك في عملك…حاضر ونعم, وينتهي عملك, وتعود لبيتك…انتبه!!.
سوف يراقبك بلال, من الآن فصاعدا.و خصوصا أن أبيك لن يكون معك…أتعدني يا حجاج؟! … عدني!…
- أعدك. قالها كأنه يتلو قسما خلف أمه, وهو يمسح أنفه بكم جلبابه. لكنه دهش في نفس الوقت من سلوك الجميع. بلال, وأبيه ,وأمه. فأبيه ثار عليه, وضربه مرتين. مرة في حظائر الفيلا, ومرة عندما عاد الى البيت. ثم أمه التي تواصل نصحه وإرشاده, وأيضا بلال الذي ثار وكأنه مسؤول عن بيت المفتش!…
بالطبع لم يستطيع الصبي, ولا حتى أمه, إدراك الفرق بين الغضب والغيظ الذي أخذ بتلابيب بلال, وثورة الأب وغيظه لتسليط الأنظار عليه, بعد أن كان يسرق في هدوء وحذر!…
لقد تعود الجميع, على سلوك همام, وطبائعه ونظراته, بعد طول مسكنة واستقامة. فيأتي هذا العويل, ويوقظ العيون التي نامت, والأذان التي سكنت!…
عرف الكثير عن الفيلا والعاملين في الفيلا دون أن يعرف أحد عنه, سوى أنه همام الزرايبى, ذلك الكم المهمل, غير الجدير بالحديث عنه في أي مناسبة!…
انزوى حجاج, متكورا حول نفسه, فوق المصطبة, المليئة بمخلفات الدجاج وروث الماعز, بعد أن أزاح بعض الطيور النائمة, لكنه ظل مستيقظا لفترة…فقد ضربه أبوه عدة مرات, وضربه بلال!…لماذا!؟…
ثم إنها من المرات القليلة جدا, في حياته , التي يرى فيها, هؤلاء البشر ,وللحظات خاطفة. ملابس نظيفة, سلوكيات لم يعرفها…وعلاقات أسرية لم يتعود أن يرى نظيرا لها بين أهله وذويه, وجيرانه؟!…
العلاقة الجميلة بين الأم وابنتها!, كأنه يرى فيلما سينمائيا…ولم يكن خياله القاصر قادرا على إدراك تفاصيل ما يدور في تلك البيوت الراقية, إلا من خلال ما يراه في سينما المركز, وما يسمعه من أحاديث أهل تلك الناحية, والتي يحاول كل منهم أن يزايد على الآخرين كي يظهر خبرته ومعرفته, بما يدور داخل تلك البيوتات…
غلبه النعاس فنام, حتى أيقظته أمه, في الصباح الباكر, قبل أن توقظ أبيه.
وضعت له إفطاره, وجهزت له غذائه في منديل قديم من القماش الملون, ولم تنسى أن تذكره بما قالته له بالأمس, حتى يستطيع أن يحافظ على تلك الوظيفة التي حصل عليها بمعجزة.
انسل حجاج خارجا, يحمل قفته على فأسه, التي وضعها على كتفه, وبداخلها منديل طعامه, والذي يتكون دائما أما من الجبن القديم, أو الملوحة, أو "كوز من الجلاب", مع بصلة أو بعض خضرة الأرض من جرجير أو فجل, أو "سريس", "مع بتاوتين أو بتاوة", بحسب اتساع الرخاء في المنزل…
عندما وصل كان بلال يقوم بتوزيع الأعمال, والتنبيهات, قبل أن يستيقظ عبد الرحمن بك. وكان من نصيب حجاج هو عمل أبيه, من تنظيف الزرائب, والإسطبل, وعشش الطيور,…
لقد انفصل عن أبيه, فعليه أن يكون حريصا جدا, وعليه إظهار انه يعمل باجتهاد.
فلم يعلمه أبيه أي من مهاراته الأخرى, خشية أن يأتي بفعل غبي تكون عواقبه الكارثية على كليهما. كل ما قاله له من قبل سابق, وفي لهجة آمرة شديدة: تعمل ما هو مطلوب منك, حاضر ونعم…لا تجعل أحد يشعر بك…لا تترك عملك وتساعد أحد…
كان همام يعلم أن حاضر ونعم, هما مفتاح التواصل في العمل, في كل الحالات, وكل الأماكن. في بيوت الأكابر, ومع "الخواجات" ورؤساء العمال...
حتى معه في بيته, حجاج وأمه سيدة, يجب عليهم أن يقولوا حاضر ونعم ويعملوا ما يرضى هو عنه, ولا شئ غيره!.
عمل حجاج, كما نصحه أبيه وأمه, وكما طلب منه بلال أن يعمل. لكنه بين الحين والحين يعود فيسترجع صورة السيدة فريدة وابنتها سوسن, فينظر خلفه كأنه سيراهما, ثم يعود سريعا الى عمله.
لقد مرت السيدة فريدة من قبل-كعادتها أحيانا في متابعة أعمال الفيلا- وانتحت جانب الزريبة, حيث يعمل حجاج, بجلبابه القذر وسرواله الأشد قذارة, وتبادلت معه بعض الأسئلة السريعة, عن بداية عمله, وتعليمه, ثم طلبت منه الاجتهاد في عمله, وتركته وانصرفت.
في ذلك الوقت كان أبيه داخل الزريبة, ولم يحاول الظهور وحمد الله كثيرا أنها لم تراه وهو نائم, وقد رأى الصبي مدى الذعر الذي بدا على وجه أبيه!.
كانت جولات السيدة فريدة, ومعها ابنتها سوسن, بين الحين والحين, كي تري ابنتها مدى ارتفاع قدرها على كل ما حولها, ثم إبهاجها ببعض ما ترى ببعض التعليقات, وهي تعلمها -في نفس الوقت- بعضا مما يمكن أن يلتقطه عقلها الصغير. تحدثت مع ابنتها عن كيفية دفع هؤلاء بأبنائهم وهم صغار للعمل, وكيف انهم جميعهم يميلون أن يكون عندهم أطفال كثيرون دون أن يكون لديهم ما يكفيهم, فيكونون عرضة للتخلف والفقر والمرض …
ثم قارنت بين حياتها, وحياة هؤلاء القوم, من حيث الملابس والتعليم والحياة الراقية النظيفة, ومدى الخوف والرعب الذي يصيبهم بمجرد أن يروا أحدهم – تقصد نفسها أو أبيها - قادما ...
ذكرتها ايضا بما تفعله أم نحمده والتي تتصرف بطيبة مثل "الأراجوز" كي تدخل عليهما السرور…
كان ما قالته السيدة فريدة, لابنتها سوسن, قليل مما لمسته بنفسها, ومما سمعته عن غرائب الأحاديث والروايات.
وبرغم ذلك فان كل ما أدركته السيدة فريدة عن طبائع وسلوك وحياة أهل تلك البلاد كان قليلا جدا!.
في ذلك اليوم عاد بلال مرة أخرى قبل المغيب, ليمر على العمال, ورأى أن حجاج قد جمع الروث فأمره: تأخذ هذا الروث وتذهب به الى الأرض, شرق البلد…أتعرف هذه الأرض؟ …سوف تجد ساقية على أول الأرض …تضعه بجانب الساقية… هل تقدر أن تفعل ذلك؟.
-حاضر يا بلال أفندي…أعرف.
أجاب الصبي في استكانة, و بلال ينظر إليه!.
تركه بلال دون رغبة في تركه, فهو ككثير من أهل تلك البلاد يغيظه كل يوم نفس الحدث, كأنه حدث لتوه, وخصوصا عندما يكون الشخص مغلوبا على أمره.
حمل حجاج الروث والمخلفات خاصة الفيلا, على حمارة, وقادها أمامه وهو يضربها بعنف كي تسرع السير, ثم عاد ليضع الحمارة في مكانها, وانسل عائدا الى بيته.
**************
لأول مرة سيقف حجاج في الصف، و قد قدمه أبيه أمامه، ليري ما سوف يقبضه حجاج ابنة ، و ماهية مرتبه الشهري!.
تناول حجاج مرتبه، ثم همام أبيه، ورفعوا أيديهم فوق رؤوسهم بالشكر و التحية، و ما أن ابتعدوا حتى مد همام يده, وفرك يد ولده فركا ليأخذ ما في يده.
تردد الصبي وحاول قليلا ثم أعطاه له صاغرا مستسلما.
كان قد قر في يقين همام أن خمسة و أربعين قرشا له، و ثلاثين قرشا لحجاج، قد أصبحا الآن في حوزته، و شرد فيما يمكن أن يفعله و يخطط بهذا المبلغ الكبير!...
سوف يوفر مبلغا دون علم سيده، يمكنه الاستفادة منه في شراء قيراط أو قيراطين تحوطا للزمن ورغبة في التملك. . .
ومصروف للحلاقة والجلوس على القهوة على فترات. وسوف يستطيع أن يجلس مثل الآخرين, ويضع ساقا على ساق، و سوف يشترى علبة سجائر بدلا من سيجارة أو سيجارتين يشتريهما وهو ذاهب الى عمله, ويشتريهما و هو عائد الى منزله, أو "باكو معسل", أو باكو دخان سائب…
وصل الاثنين معا، فاستقبلتهم سيده فرحة ومرحبة و لكنها وجدت ابنها متجهما، فحدست ما يمكن أن يكون قد حدث.
دخل همام كعادته، و استلقي علي الأرض علي جانبه في نصف رقدة ، ليستكمل شروده ، فيما يفعل بالدخل الجديد و كيف يقي نفسه من ثرثرة سيدة زوجته 0
أمسكت سيدة بيد حجاج وانتحت به جانبا دون أن يلحظ همام و همست له:
ماذا حدث ؟!...هل اخذ أبيك راتبك ؟!
أجابها: نعم!...لم يترك لي شيئا...لماذا ؟!...أنا أعمل طوال الشهر وأشقى وهو يأخذ...
هدأت أمه من تبرمه، قبل أن يزيد و يرتفع نشيجه و يسمعه أبيه، و وعدته بأنها سوف تستبقى له بضعة قروش لمصروفه0
لم تستغرب سيده هذا السلوك من زوجها، بل توقعته, و لم يكن من الحكمة أن تنبه ولدها الى ذلك، فماذا يفيد التحذير ؟!00
ألم يتركه لامه في السابق، عندما كان يعمل بضعة أيام في الشهر ؟!00
لكن اليوم، حدث الاختلاف، فقد أصبح " مستوظفا " عند البك المفتش و له مرتب شهري ثابت !.
اقتربت سيده من همام و هي تبتسم وتقول:
ماذا بك يا رجل ؟!.. شارد وسارح !...ثم صمتت للحظات...
لقد اصبح حجاج رجلا بجانبك...اليوم عيد، لقد أصبح حجاج موظفا بالتفتيش ..
راقبها همام حذرا ومتوثبا: وماذا بعد ؟! .. ماذا جري لك يا امرأة ؟!.. حجاج اصبح رجلا… ماذا قبل أن يعمل ؟!...ألم يقضي معظم أيامه آكلا شاربا نائما…
- دعك من هذا الآن!…أ أضع لك العشاء؟!.
- ضعي العشاء يا أم البك!.
قالها في خبث وسخرية, حتى تهدأ وتبتعد عنه, وعن الحديث في موضوع النقود!.
تعشى الجميع, وطلبت سيدة من حجاج الذهاب لينام حتى يستطيع الاستيقاظ مبكرا, لكنه عارضها, حتى يشرب كوبا من الشاي.
قامت سيدة وأعدت الشاي, وشرب الجميع, وقام حجاج لينام, بينما, بقيت سيدة تنظر الى زوجها, وتتفكر كيف تبدأ حديثها معه!. كان همام في نصف رقدته, يتحسس بين الحين والحين, جيب صديريته, ليطمئن على النقود, ويختلس النظر, الى زوجته المستغرقة في التفكير, وهو يدرك ما يمكن أن يدور برأسها.
لم يطل انتظاره طويلا حين بادرته سيدة قائلة:
- أريدك أن تشتري لنا بضعة أشياء للمنزل؟.
اغتاظ همام لتلك المرأة, التي تريد تبديدا الدخل الجديد, فصاح بها: ماذا ينقص البيت؟!.
هدأت سيدة من ثورته, وهي تتدلل وتتامحك, ثم قالت:
نريد أن نأكل العيش الشمسي, بدلا من "البتاو", من مدة طويلة جدا لم نأكله…عليك أن تشتري لنا كيلة دقيق قمح, أقتين زبده, عدس, حلبة…"جلاب ونارخ" ودوم…ورطلين لحمة…لأجل ما تأكل أنت وحجاج, وتتغذوا, ألا تشقون في العمل؟!…
استشاط همام غضبا لكل تلك الطلبات التي لن تبقي, له شيئا, فصاح بها مغيظا ثائرا: قمح وزبده ولحمة! …وماذا أيضا؟! …ثم غلبته السخرية وهو يقول: ولماذا لا! …البك المفتش يغرف ويعطينا! …
أجابته على سخريته, وهي تكتم حنقها عليه: و"ماله"!…كل هذه الأشياء لن تزيد عن عشرون قرشا. ثم أردفت مرغبة له في الشراء: أريدك تأكل وتشتد, ألا ترى نفسك كبرت وتعبت…فقط أحضر هذه الأشياء…دعك من اللحمة اليوم…سوف أذبح لك الديك الكبير, لم يعد يصلح للإخصاب…
ثم صمتت قليلا وهو يحدجها بنظراته الملتهبة, حتى أردفت قائلة: أريدك أن تعزم, بلال للعشاء حتى تثبت أقدام حجاج في العمل…
صعدت سيدة عند هذا الحد, من غضب همام, فانهال عليها كعادته, بالسباب والألفاظ البذيئة, ثم ارتفعت وتيرة هياجه المحموم وقام ليضربها, فهربت من أمامه, ودخلت الغرفة حيث ينام حجاج, وأغلقت الباب, بالمزلاج الخشبي, حتى فشلت محاولاته, في اقتحام الباب, وعاد الى مكانه, لينام على الأرض الرطبة.
كان همام يعلم علم اليقين, أن زوجته, سيدة لا تريد بلال, وتراه رجلا ناقصا, وكثيرا ما كانت تضحك عندما تذكر جلبابه المخطط والذي قصرته له قليلا زوجته, أم نحمده من الأمام, حتى لا يتسخ, ويهترئ سريعا, كما كانت تضحك وهي تقلده وهو يأكل بعينين جاحظتين قبل أن يملأ فمه بالطعام.
كان يسره أن تتحدث عنه هكذا, وهو لا يغفل أن زوجته تريد تثبيت أقدام ابنها حجاج في العمل, كرغبته تماما, لكنه يخشى إن لم يثور على كل شي وسكت, تتحول الأمور الى أشياء أخرى, كما سمع وتعلم من مجالس الجيران والأصحاب, عندما يلين الرجل, يصبح "خرعا وتفجر" المرأة!.
كان يهب من رقدته بين الحين والحين, يسبها هي وابنها, ويشتم الجميع, إلا أنه أخيرا ثقلت رأسه جدا واستسلم للنوم, في فناء البيت, مع جحافل الناموس والبراغيث, وكافة هوام وحشرات الصعيد!.
*******
استيقظ همام عندما أحس بحرارة الشمس تلفح جسده ووجهه, وفتح عينيه, ليجد الشمس قد افترشت الفناء, فقام مذعورا, فقد تأخر هذه المرة عن النهوض مبكرا. وقد تعود من قبل, أن تستيقظ سيدة, فتوقظه بينما هي تعد الشاي. هذه المرة لم توقظه, فقام يضرب باب الغرفة بيديه وقدميه, مع كثير من الشتائم, لتقوم سريعا بإعداد الشاي, وتجهيز طعام الغذاء…
ابتعد وهو لا يزال يصيح, حتى تطمئن وتخرج.
فتحت الباب قليلا, ونظرت تستطلع الأمر, حتى لا يصيبها سوء.
أيقظت حجاج قبل أن تخرج, وهي تهزه بشدة وعصبية لينهضن من رقاده, ثم سحبته من يده, ودفعته أمامها, وهي تراقب زوجها, الذي أمسك "ببتاوة" يقضمها, ويتوعدها بعد أن يعود من عمله…
أوقدت سيدة الكانون في عجالة, بان سكبت قليل من الكيروسين, حتى يشتعل بسرعة, ووضعت إناء الشاي, وفي سرعة وهمة ملأت البيت حركة ونشاطا. فقد أعدت غذاء همام ووضعته في منديل, ثم غذاء حجاج ووضعته في منديل آخر, وناولت حجاج "بتاوة" ليأكلها وهو يشرب الشاي.
أنهى همام إفطاره سريعا, ألقى بمنديل الغذاء في قفته, التي علقها على طرف فأسه, وانسل خارجا, قبل حجاج.
فعليهم أن يتجمعوا, أمام بيت الخواجا, فيتسلمون معداتهم وأدواتهم, ثم يخرجون في مسيرة شاقة وطويلة لتحديد وقياس أراضي تفتيش الباشا.
كان الخواجا مثل بقية خواجات البلدة, يرتدي طربوشا أحمر, وجلبابا أنيقا من الصوف الغالي. وكان يرتدي الصوف صيفا وشتاءا, فهو كما يقول: الصوف يقيه الحر صيفا, والبرد شتاءا, كما كان يرتدي العباءة عندما يذهب الى المكتب مساءا, ليقدم تقريرا عن أعماله عن ذلك اليوم لعبد الرحمن بك, الذي يقوم بدوره في رفع كل التقارير والأعمال الى الباشا.
وقد كان للخواجا أيضا خدمه من عمالة تفتيش الباشا, مثله مثل بقية الأفندية والجلبابية, وقد كان معظمهم, إن لم يكن كلهم في بعض القطاعات, من المسيحيين, أو النصارى كما يدعونهم أهالي تلك البلاد!, وذلك لإشتهارهم بالأمانة والجدية والإخلاص فيما يوكل إليهم من أعمال.
ويكون محظوظا من يعمل تحت إمرة أحد هؤلاء الخواجات, مثل همام, فلا يستطيع أحد آخر من مشغلي العمال أن يقترب منه كما الحال مع بلال.
وقد كان حظه الأوفر-أي همام- أن يعمل مع ذلك الخواجا الذي يحظى باحترام وتقدير عبد الرحمن بك الذي ينقل للباشا صورة أمينة, وواضحة عن كل أعمال التفتيش, والعاملين معه.
لأجل ذلك الإزدهار في أعمال الزراعات, وإنتاجية الأراضي, وأعمال وإنتاجية مصنع السكر, ترك الباشا, عبد الرحمن بك, يدير وينظم كل شئ حتى حديقة القصر الشاسعة, وإسطبل الخيل, وجراج العربات, حتى مهبط طائرته النيلية الخاصة, واستراحته على النيل, حتى إن تلك المنطقة من النيل, أطلق عليها نيل الباشا!, الذي اختص لنفسه عقد الصفقات مع الحكومة, وحكومات الدول الخارجية, وكبار التجار, والمستوردين, وغير ذلك مما يدخل في نطاق الاقتصاد والسياسة!.
كان كل من يعمل لدى الباشا, من عبد الرحمن بك حتى الخواجات من الأفندية والجلبابية, والأجانب, محل ثقة وأمانة. فقد كان الجميع ينتقون انتقاء, ويرقون بحسب كفاءتهم!.
لم يستطيع بلال الاقتراب من همام أو أي من عمال الخواجا…فقد كان خادم عبد الرحمن بك, وملازمه دون زيادة.
سر همام بذلك أيما سرور, فهو سيعمل مع من هو أعلى منزلة من بلال, ولو أنه سيشقى ويتعب أكثر.
سوف يكون بعيدا عن ثقل دم بلال, ولن يراه كل يوم, وسوف تنقطع زياراته الى منزله, ولن يرى شراهته الى الطعام, ولن يضيق بعد, بنكاته السمجة أمام زوجته.
لكن سروره لم يدم, فعندما عاد مع بقية العمال, في ذلك اليوم, الى بيت الخواجا, لوضع أدواتهم ومعداتهم, أخبرته إحدى زوجات العاملين في بيت الخواجا, أن بلال كان هنا ويطلب منه هو وعباس الدن, الذهاب غدا الى الفيلا.
ذهب همام من فوره, قبل أن يصعد الخواجا الى بيته, وهو يصيح: يا خواجا!…يا خواجا..
التفت الخواجا خلفه ليجد همام فبادره متسائلا في غضب: ماذا تريد؟!…
-بلال يا خواجا يريدني أنا وعباس الدن أن نذهب غدا الى الفيلا…
لم يكن أحد يجرؤ أن يلقب بلال بالافندي أمام أحد الأفندية الحقيقيين, والذين يكتب أمام اسم كل منهم, في الخطابات, والمذكرات, وكشوف القبض, حضرة فلان أفندي أو سعادة فلان أفندي…
كما أن مرتب الأفندية يبدأ من ثلاثة جنيهات فما فوق.
كان أهالي البلدة يلقبونه بالافندي, لملازمته عبد الرحمن بك, ولكنهم إذا وقعوا في مأزق بين الأفندية فانهم ينادونه بكلمة يا حاج بلال أو يا أبو نحمده, وهو راض عن هذا التصرف بدلا من تعليق أحد الافندية واستهانته به أمام العمال والفلاحين…
رد الخواجا على همام: لا تهتم لما يقول بلال…هل أصبح لبلال كلمة ورأي…عندما أراه سوف يكون لي شأن معه…اذهب وأحضر غدا في ميعادك, وبلغ الدن أيضا!.
خشى همام عصيان أوامر بلال, فربما يكيد له عند البك المفتش, فقرر أن يذهب الى بلال في طريق عودته على منزله, يخبره بما قال الخواجا, وأنه لن يستطيع الحضور الى الفيلا. لقد سنحت الفرصة لذلك الخبيث, لوضع بلال في موقف صعب, في مواجهة الخواجا.
وقف همام أسفل البيت, ونادى: يا حاج بلال!.
أطل بلال بصديريته, ووجد همام, فسأله مستاء: ماذا تريد يا غراب البين؟!.
-الخواجا يقول لك…
قاطعه بلال قائلا: انتظر!…أنا نازل إليك!…
نزل بلال وبادره: ألم أترك لك خبرا, بأن تذهب أنت وعباس الدن الى الفيلا غدا؟.
قال همام وهو يهمس كان هناك من يسمعه: أمرني الخواجا, أنا, وعباس بالحضور باكرا, للعمل معه…
ثم أردف وقد رآها فرصة لإهانة بلال في ثوب قول الحقيقة, دون أن يجرؤ بلال على الرد: لا تؤاخذني يا بلال أفندي, الخواجا قال لا تهتم بما يقول بلال! … لا تؤاخذني قال أيضا: منذ متى أصبح لبلال كلمة؟!…
حدجه بلال بنظرة غيظ, ولم يستطع الرد, خشية أن يقوم هذا الخبيث, بنقل حديثه الى الخواجا, فتسوء العاقبة, وهو الذي تعود أن يزرع الشوك في غيبة صاحب الأرض.
قال بلال: اخفي عن وجهي الآن!…سوف نرى ما يمكن عمله غدا!.
أتم همام مهمته, فقد أطاع الخواجا, ولم يعصي بلال, فقد أمسك العصا من النصف, ولكن لخوفه من غدر بلال, تذكر قول سيدة الذي إهتاج له, بان يعزم بلال على العشاء, فليتقي غدره بعد أن شفي غليله وأهانه.
قال همام: تعال لتتعشى معنا…سوف ننتظرك غدا…
رد همام مغتاظا: اخفي عن وجهي الآن…"غور"…
رأى همام أن الموضوع جد, وليس مريح, فأراد ترغيب بلال للحضور: أم حجاج تصر أن تأتي على العشاء…لن نتعشى قبل أن تأتي…لا تغضب نفسك بما قاله الخواجا, سوف ننتظرك…هل ستأتي؟!…
صمت بلال قليلا قبل أن يجيب: أنا أعرف أنك رجل لحوح … ثم أردف كأنه يقبل لكثرة إلحاحه: حاضر!…حاضر, سوف أحضر.
انصرف همام, وهو لا يزال يتحسس جيبه بين الحين والحين, وهو يفكر ماذا سيقول لزوجته, بعد أن سبها وشتمها, لطلبها "عزومة" بلال … لماذا قبل الآن؟! … ماذا سيقول لها؟.
فكر انه حتى يبدو الموضوع طبيعيا, لابد أن يشتري لها طلباتها أولا. إن هذه الورطة سوف تكلفه كثيرا, ولكن لا يهم, فالشهور قادمة, والنقود لن تنقطع!.
دفع همام باب البيت, ودخل بوجهه المتجهم الكشر, وقد حذرت منه زوجته, بعد مشاجرة الأمس والصباح.
عجبت منه عندما استلقى على الارض, مستندا على قفته نصف مستريح.
فجأة صاح بها, لزوم إظهار الرجولة: اعملي لي كوبا من الشاي!.
-حاضر. قالتها هي أيضا بصوت مسموع, عكس ما توقع, ثم أردفت: ألا تسند قلبك "بخابور", حتى انتهي من إعداد الطعام؟…
كان قد توقع أن تقوم بعمل الشاي, دون أن ترد, ثم تذهب لأعمالها في المنزل, وبذلك تصعب عليه الأمور. فكيف يلين وهو رجل البيت الذي تعود أن ينهر ويضرب ويصيح, ثم يأتي الجميع بعد ذلك يسترضونه على الأخطاء التي ارتكبوها بحقه. فالرجل دائما على حق, وهو أخبر وأدرى بشؤون الحياة وطبائع البشر والجيران وكل شئ.
إن خبرة المرأة في الصعيد عن العالم الخارجي هي خبرة سماعية, وأحداث وروايات وقصص موروثة. لكنها خبيرة في معرفة طبائع زوجها والتي لا تختلف عن طبائع أقرانه من أهل الصعيد.
فكل امرأة تتفاخر بأن زوجها غضوب وشديد وهي تعرف كيف تتعامل معه, وكيف أنها تتحمل شدته وقسوته. وهي لا تستطيع أن تسأله عن نقوده, حتى وان كان مسرف, ما يتبقى منه وما يلقى إليها هو فضل ومنة منه!…
وخبرة الرجل عن المرأة, أنها مثل الأشياء التي لا تشبع أبدا, والشدة واجبة معها كل حين لأن الرجل النيئ يجعل المرأة "تفجر"!.
وافق همام أن تحضر له سيدة "بتاوة", مع الشاي, حتى ينضج الطعام. وقد سرت سيدة وتعجبت في نفس الوقت, كيف تسير الأمور بهذا التناقض, وهذا التبدل المفاجئ.
لقد تعودت مثل غيرها على هذا التناقض وهذا التغير, إنها مثل غيرها تقول بينها وبين نفسها أو أحيانا أمام أولادها: غريبة!…ثم تعود لتقول في نفس الوقت: ولا غريبة ولا حاجة!.
والتي قد تقترب من مفهوم النكتة التى تقول: صعيدي أخذ مائة صفعة على وجهه على غرةّ!.
أحضرت له "البتاوة" سريعا, ومعها كوب الشاي, ثم بادرته قائلة: لقد ذبحت لك الديك الكبير, لم يعد يفيد, كل البيض الذي ترقد عليه "البحة"-أي البطة-يخرج فاسدا, بالهناء والشفاء لك أنت وحجاج!.
وقصدت ألا تذكر إسم بلال, وكان من عادة نساء الصعيد وضع بيض الدجاج مع بيض البطة الراقدة.
لم يجبها بشيء, وقد أتى على "البتاوة" وكوب الشاي, ثم سألها عما يكون قد نقص من البيت أو عما قد تحتاجه من مؤونة!.
تظاهرت بالتمنع أولا, حتى لا يضايقه ذلك مرة أخرى, لكنه عندما أعاد عليها السؤال بخشونة, أسهبت في طلباتها, وتركت له الخيار فيما يريد ويقدر أن يأتي به!.
طلب منها إيقاظه عندما ينضج الطعام ويحضر ولدها العويل حجاج, حتى يحمل ما يشتريه هو.
قال لها كأنه تذكر فجأة, بأنه سوف يدعو "النطع واللطخ والنطل" بلال للعشاء غدا حتى ينتبه الى حجاج, حيث أنه رأى أن حجاج يعمل بمفرده مع هذا الخسيس, وتجب ملاينته حتى يعودوا للعمل معا. لم يفته تأكيدا لقدرته, وذكائه أن يقول لها, كيف سيوقع بين هذا الكلب بلال والخواجا, ويضعه في مشاكل ليس أهلا لها, وربما تسبب في فصله, قال ذلك وهو يبتسم ورأسه تنظران بين قدميه كأنه فعل!.
*******
حضر بلال كعادته, في زهو وخيلاء, ولكنه قي هذه المرة متحفزا. فهو مملوء حقدا, وكراهية, واحتقارا لهذه العائلة التي أصبح لها اثنين من العاملين بالتفتيش. لذا كان عليه أن يشاطرهم هذه الزيادة في دخل الأسرة الذي أصبح يكاد يقترب من دخله من عمله.
كما أن نهمه وطمعه وشهوته جعلته في احتياج لهذا البيت. بالطبع هناك بيوت أخرى, لكن أحد لم يدعه أو يترك له فرصة للتواصل. كما أن كبار البيوت, وأصحابها من الخواجات, وغيرهم يعاملونه معاملة السيد للخادم.
تحلق الجميع حول المائدة, وهو لا يزال ينظر الى همام وولده, وهو شارد: ما دامت هذه العائلة استطاعت أن تدع هذا الصبي العويل أن يعمل بالتفتيش, فهي أيضا قادرة بالنفاق والمماحكة أن تزيد دخلها, حتى يصبح أكبر مما يتقاضى هو!.
قطعت عليه سيدة حبل أفكاره المتصلة, وتحولت عيونه, الى ذكر البط الذي أحضرته سيدة, وقامت بتقطيعه, وهو ساخن, وهي تقول: أنه آخر ذكر بط وعليهم أن ينتظروا الخلفة الجديدة.
في هذه المرة أعطت لكل فرد من الجالسين نصيبه حتى لا يجور على الآخرين, واستبقت جزءا لغذاء اليوم التالي, وهو ما لم يحدث في المرات القليلة السابقة, كما أنها احتفظت لنفسها, ما فاض منهم من الجلد وبعض اللحم العالق على العظام.
أكل بلال والتهم نصيبه بسرعة, هو والصبي, بينما تأنى همام, وهو يأكل مطأطأ الرأس, ويرفع طرف عينيه بين الحين والحين, ويلاحظ بلال وهو ينظر الى نصيبه من ذكر البط.
لم يكن بلال قد شبع, وهو من ذلك النوع الذي لا يصبر على ملئ بطنه. ولما لم يجد فائدة من أن تقوم سيدة بأخذ ما توفره لغداء اليوم التالي, وتعطيه له, قال:
-هل عندك "ملوحه"؟ … نفسي آكل ملوحة من كبس يدك؟.
-نعم! …حاضر!. قالتها وهي مطأطئة برأسها, وهي تختلس النظر لزوجها, الذي كاد ينفجر غيظا من هذا الجائع النهم, والذي يريد أن يوفر ويرتزق على حساب من حوله, لقد خرجت عن الطريق المرسوم, عندما قالت نعم.
قامت سيدة, وأحضرت جرة الملوحة أمام بلال, ومدت يدها حتى آخرها, لتستخرج بعضا من "صير" الملوحة- السمك المملح والصغير جدا-ووضعته في طبق قديم, وقدمت معه رغيفا من الخبز "الشمسي".
جر بلال الطبق والرغيف, والتهم الملوحة برأسها وذيلها وعظمها, فلا وقت ولا داعي لذلك ككل من يأكلون "الملوحة الصير", ثم شرب وتجشأ. مد يده الى قطعة القماش, التي حملت بها سيدة الطاجن, والمليئة هبابا وسوادا, فقلبها ومسح يده, ثم صعد بعد ذلك الى المصطبة, وجلس مثنيا ساقيه الى أعلى, وهو لا يزال يمصمص شفتيه بصوت مسموع, ويتابع همام وهو يأكل.
أدركت سيدة عدم رضاء بلال, فقامت سريعا لتعد الشاي الثقيل المحلى بالسكر الكثير, وقد قصدت أن تقدم له الشاي دون تقليب حتى يرى كمية السكر في الكوب.
وبرغم أنها تعلم أنه يأكل الملوحة بصفة شبه يومية, فقد بادرته قائلة:
-أعلم أنك تحب ملوحة أم حجاج, إن شاء الله في "الدميرة الجاية" أي في موسم الفيضان القادم, سوف أكبس لك جرة ملوحة, لترى صنع أم حجاج أم صنع أم نحمده!.
هز بلال رأسه في سخرية وهو يقول: "الدميرة الجاية…أيوة…".
أنهى همام طعامه, وقام الى المصطبة, وهو يمسح فمه بكم جلبابه, وجلس على يسار بلال, يضع ساقا على أرض المصطبة, ويضع عليها ساعده الأيمن, وساقا منثنية الى أعلى ندا لبلال.
اغتاظ بلال لهذا الوضع, ولم يجد بدا من أن يطلب من همام طلبا يؤديه: واد يا همامّ…اسقيني!.
طلب همام في بلادة واضحة من حجاج: "واد" يا حجاج هات ماء لعمك بلال ليشرب!.
-أنا قلت يا همام, ولم أقل يا حجاج…
قالها في حدة, فهرولت سيدة بسرعة وأحضرت قلة الماء وأعطتها لبلال ليشرب, فأزاحها بيده, وكادت أن تسقط لولا أنها احتضنتها بكلتي يديها في ذعر وعينيها على همام زوجها.
إنها تعلم, أن تلك القلة العتيقة, المكسورة عند رقبتها, لو سقطت, لسقطت معها كل ترتيباتها. فسيدة لها ترتيبات, وهمام له ترتيبات أخرى. فلو أن القلة سقطت وانكسرت لثار همام وحدثت مشاجرة, لا تحمد عقباها, وكم من قتلى سقطوا في أرياف القطر المصري لأسباب لا قيمة لها مثل تلك.
وفعلا كانت سيدة ترى عيون زوجها وقد اخترطهما الغضب والغيظ, لولا أن شيئا لم يحدث, فنظر همام الى الأرض مغيظا, وهو يهز رأسه يمنة ويسرة, ثم قال:
-أنت طلبت ماء, وليس لك أن تقول من يحضره لك, أنت في بيتي!.
كان همام غليظا في لهجته, فسكت بلال سكوت الذليل المحتاج, وقد تنبهت سيدة لذلك الحال المضطرب, فتدخلت لتلطف الجو:
-همام أخوك يا بلال أفندي, والعمل مع الخواجات كما تعرف مرهق ومتعب, وأنت تعرف الباقي!...
ثم أقسمت وهي تكمل: همام كان حريصا أن تأتي وتتعشى معنا…أنت تعرف أسلوب الخواجات في العمل…انه كل يوم يأتي ويقول, أن العمل مع بلال أفندي أفضل مائة مرة من العمل مع الخواجا "أبو صليبه…" رمزا الى ديانته.
ابتسمت سيدة لما قالته ثم قالت: عندما كان يعمل معك, فانك كنت تتركه ليسترح…أما هؤلاء الخواجات فانهم مثل خواجات بلاد بره…
بدأت حدة الإهانة والانكسار على وجه بلال تخف رويدا, رويدا, وبدا أن لون الوجه الممتقع, والذي علاه سواد غريب فوق سمرته, يأخذ لونه الطبيعي مرة أخرى.
أردفت سيدة وهي تضحك: "كل الصعايدة زرابين"…عاملين زي الديوك…
وكلمة "زربون" كانت تطلق على العبيد السود الذين يبدون أنهم يهتاجون فجأة وبعنف وبلا مقدمات.
قالتها, دون أدنى تحفظات, كما كانت تفعل في السابق, فلم يعد بعد أية فروق بين همام و بلال, ولم يعد هناك أية أهمية لأي تحفظات سوى كلمة أفندي بعد اسمه.
أيضا بالنسبة لهمام, لم تعد هناك ضرورة للحذر من بلال, أو منافقته, فقد حبسته شهواته وأطماعه داخل قفص الذل والمهانة دون أن يدري.
كانت هذه الليلة هي الضربة القاصمة لخيلاء وزهو بلال. لقد أحس بأنه لو فعل بهمام ما كان يفعله في السابق, فلن يكون بمقدوره الحضور مرة أخرى. وربما جرأ همام على سبه, وطرده من المنزل. وقد أحس همام اللئيم, بأنه ما دام قد تقبل بلال بلادته, وعدم اهتمامه به في بيته فيما سبق, وحديثه غير اللائق, ومع ذلك حضر واتى الى بيته, فقد تدنى لمستواه أو عاد لأصله, أو ربما صعد همام ندا لبلال. إن همام في جلبابه القذر, وبيته الساقط لأدنى مستويات الفقر, قد أحس بنظرة علوية وكثير من الاحتقار لبلال.
استدار بلال نحو همام, محاولا تجاذب أطراف الحديث, ليخفف من حدة البلادة وثقل الدم, التي أمسكت بتلابيب همام: سمعنا اليوم أن الوزارة قد تغيرت…
رد همام في بلادته: تأتي وزارة, تذهب وزارة, لا يعنينا ذلك في شئ…
قال بلال: كانت تتردد إشاعات, بأن الأخوان المسلمين, يعدون العدة للخلاص من النصارى, أو لإبادة النصارى!…
رد همام متلمسا طريقه في الحديث: هي إشاعات سمعنا بها "عمناول"- أي من قبل- ولكن للآن لم يحدث شئ!…
انفرجت أسارير همام قليلا, و قد أخذه بلال بعيدا, عن أجواء البيت والعمل وخصوصياتهم.
أردف بلال: الملك يتبع الإنجليز في كل شئ…افعل هذا, ولا تفعل ذاك…فعندما وصلت الإشاعات الى القنصل الإنجليزي عن طريق قنصل فرنسا, تدخل الإنجليز لدى الملك لإسقاط الوزارة.
-وما علاقة الوزارة بقتل النصارى؟!…
-لا علم لدي, هذا ما قيل, سمعناه من أحمد أبو حسين, كاتب الإشارات بالمركز…
لم يشأ بلال التطرق في سب الإنجليز أو الملك, خشية من هذا الثعلب, الذي يمكن أن يدس حديثه عن الخواجات, لدى أحدهم, لكن بلال مال نحو همام وسأله: ماذا لو أن هذا الأمر قد حدث, هل تقتل الخواجا الذي تعمل عنده؟!…
كان السؤال مفاجأة لهمام, لكنه ألجم لسانه, وسكت, وهو ينظر الى بلال. فهو لا يريد أن ينفي, فيتهم بالممالأة والخيانة…ولا يريد أن يقول نعم, فيدس له لدى عبد الرحمن بك, والذي معظم أفندياته من النصارى!.
هو بالطبع يحلم بذلك, لانه سوف يحمل, في وسط هذه الهوجة, ما يقدر أن يحمله من بيت الخواجا, ولن تكون هناك أي مسائلة, لانه لن يعرف من الذي قتل ومن الذي أخذ. ربما أخذ البيت كله لو نجحت العملية كلها على نطاق القطر المصري, وسوف يدعمون من الجميع وكل من حولهم شعوبا ودولا. هكذا كانت تفكر الدهماء وتحلم!!.
بالطبع لو حدث ذلك, فبالتأكيد سوف يأخذ بلال إحدى وظائف الخواجات…
تحرك بلال في اتجاه أهدافه, مرة أخرى قائلا: أنت لا تعلم يا همام يا أخي, كم تعرضت لسب ومضايقة عبد الرحمن بك, كي يعمل حجاج, أنا من جهة, وأم نحمده من جهة أخرى, حتى كرمه الله بالعمل, والله ولد مليح ومحظوظ.
أردف كأنه يمزح: والله من المفروض أن يكون لي النصف…
أحست سيدة و لاول مرة بالغيظ, من بلال, وأحست بأن زوجها على حق و فيما يقول" راجل لطخ و راجل نطع".
طأطأت برأسها, عندما حدجها زوجها بنظراته, وفهمت أنه يدينها لعدم سماعها كلامه.
ربما فهم بلال من تلك المحاورة الصامتة, بأنه يستطلع رأي زوجته فيما يقول. لكن همام فاجئه بغلظته المعهودة عندما يقدر:
-نصف ماذا؟!…
أردف بلال وقد أحس بالمأزق, فاغتصب ابتسامة لهذا السؤال الصريح الغليظ: يأخذ حجاج خمسة عشرة قرشا, ويعطيني الخمسة العشرة الباقية. ثم ضحك لتخفيف وقع كلامه على همام وزوجته. قال همام في غلظة:
-حجاج يعطيك النصف؟!…ولماذا لا أعطيك أنا أيضا نصف راتبي؟!…تأخذ نصف مرتب الولد؟!…تأخذ شقاه وعرقه؟ …يصرف حجاج عليك وعلى بيتك؟…حجاج لا يأخذ شيئا…حجاج قبض مرتبه وأعطاه لي…أعطيك نصفه؟!.
تلاشت البهجة والابتسامة من على وجه بلال, ولكن بقى الفم مفتوحا, ينبئ بأنه كانت هناك ابتسامة!…
تدخلت سيدة, سريعا قائلة: أبو نحمده, يمزح معك, انه يريد أن يقول لك كم تعب, من أجل أن يعمل ابنك حجاج…
ثم أردفت قائلة, توبخه وهي تتصنع أنها ترفعه: كما أن بلال أفندي, رجل مقتدر وليس في حاجة الى نقود ولدك حجاج…هل يعقل أن يشارك رجل كبير مثل بلال أفندي صبيا مثل ولدك؟!…
كانت عينيها تلمع, بومضات خاطفة, وهي تهدئ من غيظها وغيظ زوجها, لذلك الطفيلي الذي يريد مشاركتهم, راتب الأسرة, وهو خط أحمر لن يسمح له أحد بتجاوزه.
ظن بلال أن سيدة تعي ما عبرت عنه, فأغتصب ضحكة خفيفة وهو يقول: لماذا لا يكون تفكير زوجك كبيرا مثلك, هل يعقل أن تصدقوا ما أضحك به!…
سألت سيدة بلال في فتور: أأعمل لك شايا؟.
رد عليها بالإيجاب, وعينيه الجاحظتين, لأعلى ولأسفل فيما حوله.
شرب الشاي, واستأذن في الانصراف, علهم يعوقونه, فيبقى. لكن سيدة قالت في حزم لهمام: قم عزم أبو نحمده!…
قام همام خلفه وهو يقول: "أنست ونورت"…
ثم أغلق خلفه الباب حتى قبل أن يركب حمارته, وبصق وهو يقول: رجل ليس عنده ذرة دم أو كرامة.
كانت سيدة معتادة أن توصل بلال حتى الباب, تجنبا لبلادة همام وتصرفه الخشن معه, لكن هذه المرة, كانت لهجتها حازمة آمرة, حتى أن همام أطاعها دون كلمة, وهذا أيضا ما أنقذها من ليلة ليلاء, حتى انه خشي الحديث معها, عندما رأى نظرتها المغيظة الكارهة, لهذا المتطفل وغفر لها هذا العشاء, ورغيف الشمسي والملوحة!…
كانت سيدة تريد أن تستعين ببلال, في شراء قميص وبنطلون " شاكب راكب", لولدها حجاج, ولكنها تراجعت, عندما رأت طمعه في دخل بيتها, وقررت أن تقوم بذلك بنفسها, وخصوصا بعد أن رأت تأثير حديثها على همام, وامرته بأن يقوم بتعزيم بلال, فأطاع مستريحا. فقد رأى حزمها مع بلال, ومعه, كأنه وجد قائدا يمكن الاحتماء به وتنفيذ أوامره!…
#أنور_مكسيموس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟