أنور مكسيموس
الحوار المتمدن-العدد: 3436 - 2011 / 7 / 24 - 08:30
المحور:
الادب والفن
أسرع بلال كالمعتاد, وأحضر المقعدين, لعبد الرحمن بك كي يجلس قليلا قبيل ذهابه الى مكتبه.
شرد عبد الرحمن بك قليلا, وهو يتأمل الغروب والنيل وهو يهدر مسرعا نحو الشمال دون هوادة أو كلل أو توقف, فهو عنيف في الفيضان, وهادئ باقي شهور السنة, لكنه!... دائما عفي فتي لا يتوقف عن الجريان والحركة, يجدد شبابه وينظف نفسه على الدوام.
شرد فيما تريده زوجة الباشا الإنجليزية. فهي تريد إدخال تغييرات شاملة في الأثاث, والرخام, وحديقة القصر والزهور وأشجار الزينة, وغير ذلك كثير, مما يستدعي استيراد كل ذلك من الخارج. من إنجلترا, من فرنسا من إيطاليا, وبالطبع سوف يكون هو المسؤول أمام الباشا عن تنفيذ كل ذلك, إضافة الى أعماله في التفتيش, علاوة على انه الآن موسم قصب السكر, والمصنع يعمل بكل طاقته…
كان يقف خلفه بلال, وقد رأى شرود وسرحان البك, فكانت فرصة له أيضا, كي يشرد ويسرح…
التفت فجأة عبد الرحمن بك, ليرى بلال ساهما وشاردا, في أفكاره, فظل يرمقه للحظات, حتى انتبه إليه بلال. أحس الاضطراب الشديد, كأن عبد الرحمن بك اصطاد أفكاره…
-تقف بجانبي وتسرح…فيما شرودك؟!…
-لا شئ يا أفندم…لا شئ…في انتظار أوامر سيادتكم…
هز عبد الرحمن بك رأسه وهو ينظر إليه بحدة, مما زاد في ارتباك بلال. لم يطمئن, إلا عندما, هدأت نظرات عبد الرحمن بك, ولاحت ابتسامة خفيفة على وجهه, وهو يسأله: هل تحب يا بلال؟!.
-يا أفندم أنا رجل متزوج, وعندي "عيال", وخير سعادتك يفيض علينا, فماذا ينقصني؟!…كل ما أرجوه, وأتمناه هو رضاء سعادتك عني, وأن أبقى أخدمك, طوال عمري!…
سر عبد الرحمن بك, وخصوصا أن لهجة بلال المضطربة وكلماته تنم عن طاعة وصدق. فمن عادة هذه النوعية من البشر أنها لا تحمل معها من المشاعر, إلا من ينفعها في وقتها الآني!.
خلع عبد الرحمن بك برنيطته العريضة, وأخذ يهوي بها أمام وجهة وقال:
-أين الولد الذي طلبت رؤيته؟.
-موجود يا سعادة البك, ثم أسرع ناحية سور الفيلا الكبير ونادى:
-"واد" يا حجاج!…تعال!…
هرول الصبي نحو بلال, الذي أمسكه من ساعده, وهو يقدمه لعبد الرحمن بك:
-الولد حجاج يا باشا!…
نظر عبد الرحمن بك مليا الى الولد…
صبي ما بين الخامسة أو السادسة عشرة…وجهه متسخ, وأنفه مفلطح غير كبير وقد تدلى منه بعض المخاط…يرتدي جلبابا صعيديا غامقا, سبق غسله, لأهمية المقابلة لكن لا زال به من الأوساخ الثابتة والرقع, ما طغى على شكله الأصلي…
كان الولد يقف حافيا, كمعظم أهل بلدته, وهو لا يرتدي شيئا آخر تحت الجلباب, سوى السروال…
كان الصبي يقف خائفا ومضطربا, يفرك يديه, لا إراديا, في بعضهما, ثم يرفع كم جلبابه, ليمسح به أنفه…
لكزه بلال وهو ينتظر أوامر البك…
-فيم يصلح هذا الولد يا بلال؟.
سأل عبد الرحمن بك, وهو فعلا يريد أن يساعد الصبي, كما طلبت منه فريدة هانم, لكن!…لابد له من عمل يعمله, يستحق عليه أجره…وهذه سبب الثقة الكبيرة التي أولاها الباشا لعبد الرحمن بك…
رد بلال, وهو حريص أن يوضح مجالات العمل, وليس أن يرد صراحة:
ما تأمر به يا باشا!…هذا والده همام الزرايبى, ويمكن أن يعمل مع عبد القادر الكلاف, أو علي الجنايني, أو يساعد في نقل السباخ, والروث…ما تآمر به سيادتكم…
-اختر له عمل يكون في احتياج لنفر!.
أردف عبد الرحمن بك: هل تعرف هذا الولد جيدا…
-نعم يا باشا, أهله من نفس البلدة…
-هل هو أمين, وأهله أمناء ومضمونون لديك؟!.
-تردد بلال قبل أن يجيب:
-سوف أتابعه يا باشا, ومن لا يصلح, أبلغ سيادتكم فورا.
-دع الصبي يذهب, واحضر الركوبة!.
دفع بلال الصبي, ليذهب حيث يقف أبيه متواريا…وذهب هو في طريقه نحو ركوبة عبد الرحمن بك, ليحضرها له في مكانها المعد خصيصا لعبد الرحمن بك للركوب…
عاد مهرولا عندما ناداه عبد الرحمن بك. واضعا عصاه تحت إبطه, ووقف مشبكا يديه وهو محني الرأس: أمرك يا باشا!…
-اذهب واحضر "الحنطور"…سيدتك سوف تذهب لزيارة زوجة الباشا, اذهب معهم!.
أردف يحدث نفسه:لا داع للذهاب الى المكتب اليوم, سوف أستريح. ثم أكمل موجها حديثه نحو بلال:
-غدا باكرا جدا تكون هنا!.
-أمرك يا باشا…هل تأمرني بشيء آخر؟!…
نظر إليه قليلا ثم قال: بقى لك فترة, لم تخبرني عن أحوال عمال الفيلا, وما سمعته عن الموظفين, وعمال الزراعة, وما يحدث في مصنع السكر!. ثم هز رأسه وهو لا زال ينظر إليه.
-حاضر سيادتكم…وأي شيء جديد سوف أطلع سيادتكم عليه فورا…
كان بلال مسرورا, فهو سيرافق السيدة الكبيرة.سوف يكون طيعا ولينا, لأقصى درجة, حتى يجعل السيدة الكبيرة, تغير رأيها عن شدة أهل الصعيد وهمجيتهم…
ولا يتذكر أو يدري, منظره أمام زوجته, وفي حضور السيدة فريدة…
رأته أم نحمده, كم هو ذليلا كسيرا, يستجدي الرضا, ويبالغ في ليونته وطراوته حتى لا يبدو منه أية خشونة, في طبعه, وهو الذي يضيق من تسلطه وعنفه جميع أهل بيته…
سار بلال خلف الباشا, حتى إذا ما دخل الفيلا, عاد مسرعا لحمل المقعدين. وهو لا زال سارحا في أمانيه, يرفض الآن العبدة سيدة, أمام الهانم السيدة فريدة…
نزلت السيدة فريدة, وفي يدها ابنتها سوسن تتقافز وركبا "الحنطور", الذي سار في هدوء, كأنه يسير دون قائد…
كان بلال وهو يمسك بمقود الفرس, يتمنى أن تأمره سيدته بشئ أو تحادثه في موضوع…
كانت السيدة فريدة تتحدث مع ابنتها, و بلال والعربة والفرس شيء واحد…
وصلت العربة بعد قليل, ووقفت أمام قصر الباشا. قفزت سوسن, ثم مدت يدها لتمسك بيد والدتها, تساعدها على النزول, و بلال بين الحين والحين, يلتفت خلفه في سرعة, ثم يعود لينظر أمامه.
انسابت السيدة فريدة وسوسن, نحو القصر, وظل بلال في مكانه, حتى آتاه خادم من الداخل, وقاده حيث يبقى وينتظر.
اختفت السيدة فريدة من أمام ناظريه, لتظهر بعد قليل, سيدة وهي فرحة به, يزف إليها خبر عمل ابنها, وكيف تعب في إقناع البك كي يعمل حجاج في زمرة العمال معه, وكيف فتح كل المجالات, ليجد لولدها موطئا لقدميه…
بالطبع سوف تعد سيدة عشاء دسما احتفالا بهذه المناسبة, وسوف تزيد من ترحيبها به…
وبينما هو في أحلامه تلك, نزل خادم من القصر , وذهب حيث ينتظر بلال, وطلب منه الانصراف وهو يقول: الست هانم وابنتها سوف تتعشيان مع الست هانم زوجة الباشا, وسوف يقوم حنطور القصر بتوصيلهما, تستطيع الانصراف الآن, ومعك الحنطور.
انطلق بلال بالحنطور, الى فيلا عبد الرحمن بك, حتى إذا ما وصل, أعطى جرسا ينبئ بوصوله, فهرولت نحوه بعد قليل,الخادمة, ولما لم تجد سيدتها, سألته:
أين الهانم والست الصغيرة؟!…لماذا عدت بمفردك؟!…
أجابها, بأن تبلغ البك, بان سيدتها, سوف تتعشى هي والهانم الصغيرة مع زوجة الباشا, وسوف يحضران بحنطور القصر…
ذهبت الخادمة, وعادت بعد قليل لتخبره:
-البك يقول لك اذهب وعد صباحا باكرا.
ذهب بلال وفك الحصان عن العربة, ووضعه في الحظيرة, وانطلق في طريقه نحو بيت الزرايبى.
عرج في طريقه, على بيته, حيث فتحت له أم نحمده من أعلى, وعندما ذهبت لاستقباله , كان بلال قد دخل واخرج حمارته, وانطلق…
وصل بلال بيت همام, وطرق الباب كعادته, ولكن في خيلاء زائدة, واستقبله همام مرحبا به هذه المرة على غير عادته.
ثم أتت سيدة لتزيد من الترحيب به. لا يهم دوره في تشغيل حجاج, ولا وقت للتفكير في ذلك الآن, المهم أن الولد قد وجد عملا ودخلا ثابتا, حتى ولو الى حين, وسوف يضاف هذا الدخل, الى دخل الأسرة , كما أن بلال هو الذي يمكنه المساعدة, على استمرار حجاج في العمل, أو فصله…
لهذا قامت أم حجاج, لإعداد عشاء احتفالا بعمل الولد واحتفاءها ببلال, وقد شعرت بأن بلال سوف يأتي ليزف لها البشرى ويأكل, ويصل الود, ولم يضايقها هذه المرة أن يلاحقها بنظراته, فقامت باختيار زوجين من الحمام الصغير, ودجاجة وقامت بذبحهم, يساعدها في عملها ولدها حجاج…
وبينما تعد العشاء, بادرت بلال في سرور قائلة:
"الواد العويل ده" لم يقل لي أي شيء, ولم أستطيع, أن أعرف منه شيء, سوى أن البك سألك, ماذا يمكن أن يقدم من أعمال…
رآها بلال فرصة, كي يصول ويجول, ففتح فمه:
-هذا الولد كان سيضيع تعبي سدي…يمسح أنفه بكم جلبابه, أمام البك المفتش, وقد لاحظني البك وأنا ألكزه, كي يمتنع عن هذه العادة...كم تعبت حتى وافق البك, لقد كنت على وشك ترك العمل بسبب ولدك هذا…هؤلاء القوم لا يحبون الإلحاح…
_ حصل خير يا بلال أفندي, سوف يعجبك عشائي أيما إعجاب…
ثم أردفت متخابثة: وسوف تسر أم نحمده هذه الليلة… وضحكت.
فقد كانت في نشوة غير عادية, وسرور بالغ, لكن همام أظهر ضيقه وغضبه من هذا التصريح المفرط, فزعق فيها: احتشمي يا امرأة!…أنت أيضا سوف تسرين. قالها كي يخجلها, ثم ضحك بخبث, وهو ينظر الى بلال, الذي حدجه بغيظ كأن سيدة زوجته هو وليس زوجة همام…
-كلامكم "ماسخ" انتم الاثنين…
رد همام: نحن نضحك يا بلال أفندي, وأم حجاج فرحة بعمل ولدها…
ضحكت سيدة وهي ترجوه في دلال, ألا يغضب, ولا يأخذ حديثها بالضيق والثورة…
قام همام, ليحضر قلة ماء ليضعها بجواره على المصطبة, وهو لا زال يضحك, وعندما ابتعد قليلا همس بلال لسيدة:
-يعني لازم سيرة المرأة "النكدية" هذه...
قال ذلك كي يظهر لها ضيقه وتبرمه من زوجته, وأنها-أي سيدة- ذات مكانة عنده. فهو مثل كل الرجال الذين يجرون خلف رغباتهم, بتصوراتهم الدنيئة عن المرأة , قليل الخبرة بالنساء, وإن كانت المرأة في تلك النواحي قد رضيت ورضخت لتلك التصورات والتعاملات!!.
كانت فيلا عبد الرحمن بك, والتي تلي مبنى مكاتب موظفين التفتيش, مشهورة ومعروفة لدى الأهالي باسمه, بالرغم من أنها جزء من أملاك الباشا الهائلة.
فقد كان الباشا يمتلك آلاف الأفدنة, معظمها مزروع بقصب السكر. بالإضافة الى شركة السكر, والتي تحوي مصنع ضخم لتصنيع السكر, ومستعمرة كاملة التجهيزات, من فيلات للموظفين المصريين والأجانب, ومباني سكنيه, ومدارس راهبات لتعليم أولاد العاملين, وحمام سباحة, وملاعب, وسينما, ومحلات.
كل ما يحتاجه الفرد هو وأسرته, بالإضافة الى الكهرباء والمياه النقية, وغير ذلك كثير من أسباب الحضارة في ذلك الوقت.
وقد زاد على ذلك-أي الباشا- اهتمامه بفقراء البلدة فأنشأ المستوصف الخيري للعلاج المجاني وأعماله الخيرية في الأعياد!.
وقد كان المصنع والأراضي, وكل ما يتصل بحرفة الزراعة من فلاحة ومساحة أراض والتصنيع والتوزيع, والعمال المهرة, من فنيين من كافة التخصصات, ميكانيكا كافة التخصصات, وكهرباء وديزل, ومساحين أراضي لأملاك و زراعات الباشا وقياسيين , وغير ذلك كثير , فاتحة خير لهذه البلدة فعمل بالتفتيش مئات من العمال والفلاحين, والموظفين, والفنيين المهرة, وغير ذلك كثير…
كل ذلك كان تحت إمرة عبد الرحمن بك, والمعروف برئيس تفتيش ( فلان) باشا.
يضاف الى أعماله هذه وغيرها, كل ما يختص بقصر الباشا الكبير على النيل, والمرساة الخاصة بطائرته النيلية.
لذلك تم تحويل هذه البلدة, من بلدة صغيرة, الى مركز تقف عليه القطارات ومركز هام من مراكز الاقتصاد المصري آنذاك.
وقد ضرب المثل بهذا الإزدهار في عهد عبد الرحمن بك, رئيس التفتيش, من ازدياد الإنتاج وازدياد أعداد العمالة ,وازدهار البلدة, واشتهار اسمها بوجه عام.
كانت فيلا عبد الرحمن بك أول مكان نظيف تطأه قدم حجاج همام.
ففي بيته البدائي, حيث المنزل دور واحد, وغرفتين مسقوفتين, بالجريد, وجذوع النخيل, والطين المخلوط بالتبن...لم يكن يرى شيئا نظيفا...
كان يحضر الروث -حيثما وجده في الطريق- ويملأ كفه به, ويلصقه على الحوائط, لتجفيفه, واستخدامه وقيدا للأفران الصعيدية كما كانوا يفعلون في بيوتهم, مع أقرانه وجيرانه مما يملكون بقرة أو جاموسة, بعد عودتهم من الحقول.
كان عمله بالفيلا فارقا كبيرا في حياته, حيث يوجد شئ من الرقي حتى وان تعامل مع الروث, حتى وان كانت اقل الأعمال فهناك درجة من الرقي في التعامل.
لن يعمل بعد الآن في الطوب اللبن حيث يغرق حتى ركبتيه, في التبن والطين, ولن يعمل في تنظيف المصارف, وتفريغ فضلات الآدميين, من المراحيض البدائية, من بيوت وجهاء البلد…
لكن الشيء الذي لازمه لا إراديا هو تدلي مخاطه من أنفه, أكثر أوقات يومه, حيث يقوم بمسحه بكم جلبابه الصعيدي الذي يشبه المخروط. فهو ضيق جدا عند الكتف, واسع جدا عند الرسغ, وكثيرا ما يستخدمه أهل الصعيد, كي يداروا بداخله مشترواتهم, خوفا من نظرة العين والحسد. فهم يضعون ما يشترونه, داخل الكم الأيسر, ويغلق عليه بكف اليد.
كان بلال قد أوصى بوضع حجاج مع أبيه, يعمل في نظافة حظائر البهائم والطيور, و إطعامها, وجمع المخلفات والروث,…
رأى همام أن ذلك يناسبه جدا, ويرضيه ويريحه.
بدء همام يعتمد, بشكل رئيسي ومباشر على مجهود ابنه حجاج معظم الوقت. فقد كان يجلس, متكئا مستريحا, طوال اليوم. يخرج علبته الصفيح الصدئة, وبها "الدخان" ودفتر "البافرة", ويبدأ في صنع سيجارته, بعناية وتؤدة واستمتاع. لقد اطمأن أن دخل بيته سوف يغطي الزيادة في عدد السجائر التي يدخنها!.
يغفو, ثم يستيقظ, فيأكل, ثم يعاود إشعال سيجارة, والولد لا زال يعمل, دون تبرم, دون دهشة, ربما يكون ذلك بالنسبة للصبي, هو امتداد, لدوره في البيت.
فليس لديه حتى الآن أي معرفة, انه و أبيه, يتقاضيان أجرهما عن عملهما, وليس عن عمل فرد واحد نيابة عن نفسه والآخر. لكن الأب يعلم ذلك جيدا, فيبدأ العمل وقت أن يستشعر, حضور بلال, ويبدأ استعراض الأوامر والإرشاد في وجوده. "يشخط وينطر" حتى إذا ما ذهب عاد الى نومه وكسله ودخانه!.
كان الصبي ملازما لأبيه في كل شئ. يحضران الى العمل سويا, ثم يذهبان الى المنزل سويا بعد انتهاء عملهما. يحمل حجاج ما تم إخراجه من روث رطب, في قفته المصنوعة من الخوص, لتقوم سيدة أو حجاج, بوضعه على الأرض أو لصقه على الحوائط لتجفيفه, واستخدامه وقيدا للفرن. هذا بالأضافة, لما تم إخفاؤه, مع هذا الروث, داخل تلك القفة دون أن يعلم الصبي, فيحملها دون تبرم. حتى اذا ما وصلا البيت يستخرج همام, ما تم إخفاؤه دون أن يلحظ الولد شئ, سوى أمه التي تعلم, وتعلم الحكمة, من ذلك. فلو أوقفه أحد, وهو يعلم لأرتبك, وصارت كارثة, على الاثنين.
كانت سيدة, تستقبل حجاج كل يوم عند عودته, محتفية به أكثر من أبيه, وهي تمسح له عرقه, ومخاطه. وكان همام يضيق بحديثها اليومي: ألا ترى كيف كبر ابنكّ؟!…كيف يحمل عنك ويساعدك؟!…لقد كبر وأصبح كتفه بكتفك!…
كان يسبها أحيان,ا ويسخر منها ومن ولدها أحيانا, وكثيرا ما يستقبل حديثها, بعدم اهتمام,وهو راقد متكئا, على الأرض الرطبة, التي سبق أن رشرشتها سيدة, بماء غسيل الأواني أو غسيل الملابس, متفكرا أو شاردا. فهو ماهر في السرقة, وهو الذي يحضر لهما أشياء كثيرة من الفيلا دون أن يلحظ أحد, فهل يستطيع هذا العويل, أن يفعل ذلك ويأتي بمثل ما يسرقه!…
ألا تعلم هذه المرأة أنه ضابط ومرشد لتحركات وتصرفات ابنه من أن يأتي بعمل غبي, أو تصرف جاهل, يكون مرده على كليهما!…
فهمام قبل أن يعمل ابنه معه, كان لا يحمل أي هم أو مشغولية تجاه عمله. كان يراقب من حوله, حتى تحين الفرصة, لسرقة ما تصل إليه يده, في هدوء, وبرود أعصاب…
حضر بلال على غير عادته, في ذلك الوقت, حيث يجب أن يكون مع عبد الرحمن بك. ومر على عمال الفيلا, ثم نظر الى داخل زريبة البهائم, فوجد حجاج يقوم بأعمال التنظيف, وجمع المخلفات, بينما استلقى همام على الأرض في غفوة…
نظر حجاج الى بلال في اضطراب, دون أن يعلم ما الذي أتى به في هذا الوقت, وما يريد. أحس الصبي, من نظرات بلال له ثم لأبيه, أن هناك خطأ ما, فهل يوقظ أبيه فيغضبه, ويقوم لسبه وضربه, أم ماذا يفعل؟!…
ارتفع صوت بلال فجأة وهو يصيح:"واد" يا همام…قم!…
انتفض همام, من رقدته, وقد أحس بالورطة التي وقع فيها, فلم يستطيع مناطحة الرأس بالرأس, كما اعتاد قي الآونة الأخيرة…
-أهلا يا بلال أفندي…كنت متعب قليلا…
لم يهتم بلال , بما يقول أو يعتذر…فقد قر في يقينه, انه يعرف هؤلاء القوم. يعرف كيف يفكرون, كيف يسلكون بعيدا عن الرقابة, وكيف يبررون أخطائهم!…
تراجع بعيدا عن مدخل الزريبة, وهو يطرقع بعصاه, ويضرب الهواء في خيلاء, كأنه يضرب مذنب واقع على الأرض.
سار خلفه همام, وهو يمسح عينيه, في مواجهة الضوء, ويختلس النظر الى بلال, عله يستطلع, ما الذي أتى به في هذا الوقت, ولماذا تركه البك المفتش ليأتي؟!…
فتح بلال فمه أخيرا, بعد أن أغمض عينيه, ثم فتحهما, ونظر الى أعلى والى أسفل وحوله ثم قال: يبدو أنه لا يجب أن تكون ومعك ابنك في مكان واحد!…
-ماذا تعني يا بلال أفندي؟…
-من اليوم سوف تكون مع عمال الزراعة, حتى ينتهي موسم القصب…
قالها بلهجة خاطفة, وفيها شئ من السرور والتشفي, من ذلك الخبيث, والذي من الصعب التخلص منه, وخصوصا ما جد عليه, من توصية هلال الديب كبير مطاريد الجبل, بان يراعيه. فكان ضبطه وهو نائم فرصة, ليزيحه من الفيلا دون أن يقدر على المعارضة!…
ارتاح همام قليلا بعد أن تأكد أن الموضوع لن يصل الى البك المفتش, ولكنه يجب أن يعارض حتى لا تكون الأمور سهلة طيعة…
_لكن يا بلال أفندي…لكن يا بلال أفندي…
قالها وهو يتصنع الذل والمسكنة, ويعلم أيضا, أنه سوف ينفذ ما يريده بلال, كلب المفتش في نظره, وظله القريب منه.
-حاضر يا بلال أفندي…موسم القصب فقط يا بلال أفندي؟…
-لا تسأل!…
رفع همام رأسه, ثم عاد ليضع وجهه نحو الأرض, مطأطأ رأسه جدا, جدا, مما يعني أن هناك قادم ذو أهمية قصوى…
استدار بلال ليجد السيدة فريدة, وابنتها سوسن تتحرك في خفة وهي تمسك يد أمها…
اضطرب بلال قليلا لكنه استجمع نفسه, وتحلى بأكبر قدر من الخضوع, والمجاملة, فرفع يديه, وبإحداهما العصا, فوق رأسه عدة مرات.
ابتسمت السيدة فريدة, دون الرد على تحيته, وسوسن تنقل بصرها بين أمها, وبين بلال, الذي بدا لها, كأنه ارتعب من قدوم أمها وتجوالها.
وضع بلال يديه متشابكتين على عصاه, ووجهه الى الأرض, وخلفه همام وولده حجاج الذي وقف ينظر في بلاهة لهذا الموكب الذي أرعب بلال. السيدة فريدة وابنتها سوسن تتقافز بجانبها. كان الصبي ينظر إليهما, ويمسح دون وعي منه, مخاطه بكم جلبابه!…
انتبه همام عندما وجد ابنه يبحلق في سوسن ابنة البك, وهي تتحرك في خفة وطفولة ممسكة بيد أمها, فتحرك, ليقف أمامه حتى لا تلحظ السيدة الكبيرة هذا الفتى الذي لا يعلم, أنه بكلمة منها, تسقطه هو وأبيه من عمالة التفتيش وربما من وجودهما من البلد بأكملها…
وكدربته في السرقة, كان ينقل بصره, بين الموكب الصغير, وبين بلال وهو يتراجع, حتى اقترب من ابنه, ولكمه بكوعه في صدره , وأشار له ليدخل الزريبة ليكمل عمله!…
بالطبع لم تلحظ السيدة فريدة, وابنتها سوسن اللاهية في طفولتها, شئ من ذلك.
لكن بلال لاحظ, وأحس بشيء غير عادي خلفه. فهو أيضا يتابع, كل ما حوله حتى وهو محني الرأس, فعينيه تجول بين الموكب, وما خلفه, وأمامه, وخصوصا أنه سمع صوت اللكمة خلفه!…
ظل بلال على حاله هذه, حتى ابتعدت السيدة فريدة, وابنتها سوسن في طريقهما نحو باب الفيلا حيث ينتظرهما حنطور, يقلهما الى قصر الباشا.
نظر همام, ولا زال رأسه, خفيض نحو الأرض, نحو بلال, وقد بدأ يضرب قدمه بعصاه, وهو يفكر, ثم استدار وتأمل همام.
ذقنه الطويلة, والتي لا يحلقها, إلا مع شعر رأسه, وغالبا ما يكون يوم خميس, ثم جلبابه الذي لفه وأخرجه من جيب "سيالته", ليرفعه عن الأرض, فلا يتسخ اكثر مما هو عليه, ولا يعوقه عن الحركة, إن شاء أن يعمل, ثم سرواله الدمور, والذي غطت البقع والأوساخ على لونه الأصلي الغامق...
نقل بصره نحو حجاج, والذي لم يختلف عن أبيه, سوى أنه ربط حبلا حول وسطه, ورفع جلبابه كثيرا الى أعلى, حتى أن ما تدلى من الجلباب من خلال الحبل, غطى نهايته السفلي, وسرواله الدمور والذي لا يختلف عن سروال أبيه في القذارة والاتساخ, بل ربما ينافسه ويزيد…
-"واد" يا حجاج!…
دفعه همام نحو بلال, فهرول الصبي نحوه وهو يمسح وجهه وفمه, من تراب الزريبة, ووقف كما يفعل والده وقال: نعم يا بلال أفندي. قالها وكررها عدة مرات من كثرة ما سمعها من أبيه وأمه…
-من منهما " يا واد ", التي تعجبك…الست الكبيرة أم الست الصغيرة!!…
أجاب الصبي: لم أفهم يا بلال أفندي؟!…
فجأة ودون مقدمات, بدأ بلال, يسبه هو وأبيه, ثم ارتفع صوته في حدة: إياك وان تخرج من الزريبة طوال فترة عملك…اسمع يا "واد", إياك أن ترفع عينيك نحو أسيادك…عملك وعملك فقط…فاهم يا ابن…
وقف همام مطأطأ الرأس, يرفع عينيه ويديرهما بسرعة, بين بلال وحجاج, حتى يجد لنفسه, وابنه مخرجا, أو يلوذ بالصمت. فعندما ينتهي حديث بلال, يستطيع أن يرى كيف يخرج من المأزق…وكم من مآزق خرج منها!…
أنهى بلال سبابه وتحذيراته وأوامره, لحجاج ثم بدأ في توجيه حديثه نحو همام: أنتم هنا للعمل…للعمل فقط…البك مشكورا قبلك أنت ثم ابنك للعمل…انتم تعملون هنا…ماذا تظنون؟!…عزبة أبيكم…أنت تنام, والجحش الصغير يترك عمله ويتفرج…الست هانم وابنتها فرجة وهما يسيران!...
ثم أقسم أغلظ الأيمان, بأنه لو تكررت منهم هذه الأفعال, فسوف يقوم فورا بإخبار البك, وهو يفعل بهم ما يشاء…
ذعر همام و بلال يعلو صوته, خشية أن يسمعه بقية العاملين, فيذهبون لإبلاغ الخدم, والذين بدورهم يبلغون السيدة فريدة.
ظل همام يترجاه ويتوسل إليه, ثم تحول الى ابنه حجاج, ليصفعه المرة تلو المرة, ويلكمه, وهو يسبه, بأمه وأبيه,…
تركه بلال يضرب ولده ويسيمه ألوان شتى من الإهانة والضرب, وهو ينظر ويتفحصهما متلذذا…
ها هو يعود يستعيد كيانه الضائع ووضعه أمام هؤلاء البلداء الذين سمحوا لأنفسهم, بأن يرفعوا من قدرهم معه عندما تنازل وأكل معهم…
لم يفت بلال أن يرفع عصاه ويلهب حجاج ضربا أوجعه وهو يسبه, ويلعنه!…
رفع بلال العصا ليضرب همام, الذي لم يؤدب ولده, لكنه ترفع, بينما بادره همام وهو يغمض عينيه ويفتحهما بسرعة: اضرب يا بلال أفندي!…اضرب!…
قالها وقد أحس بالأمان, عندما ضرب بلال حجاج, وزاد عليه ليضغط أكثر, بأن يستعطفه بأن يزيد بضرب الولد, وضربه هو, الذي لم يؤدب ولده كما يجب, في تظاهر بالاستكانة التامة…
تراجع بلال, عندما تذكر سيدة, فكيف سيدخل بيت همام, بعد أن يضربه؟!…
كان همام مثل الذئب, الذي تربى وتعود على الحياة بين البشر, يغفو عن الوجع عندما يشبع, لكنه أيضا على استعداد دائم للانقضاض, وتمزيق من يقف في طريقه, أو من يسد عليه طريق النجاة!…
هذا النوع من الذئاب, يعيش بين الكلاب, يقلدها في كل شئ, حتى إن من تعود عليه لا يعود يذكر انه ذئب, و إنما يقول من يراه, انه يشبه فصيلة الذئاب. تراه شرسا محبا للدماء… عندما يجوع, أو يغضب أو يحاصر فإنه يعود لفصيلته وطبيعته…
أراد بلال أن يكون أكثر كرما, بالرغم من أخطاء همام وابنه الفادحة, فقال وهو يهم بالانصراف: لا داعي لذهابك اليوم, سوف أبلغ البك أنني تركتك لتنهي أعمالك بالفيلا.., اليوم…لكن غدا تذهب كما أمرتك…
-حاضر يا بلال أفندي…قالها وهو يبذل مجهودا كبيرا, ليقولها في صيغة الطاعة الكاملة, ولم يكن يعلم أن عبد الرحمن بك طلب من بلال ما يزيد عن حاجة العمل في الفيلا من عمال, أو إن كانت الفيلا في حاجة لمزيد من العمال.
#أنور_مكسيموس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟