عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 3434 - 2011 / 7 / 22 - 15:46
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
رُفِّعَ عبد الكريم قاسم في 12/04/1947 إلى رتبة مقدم ركن، ونقل إلى لواء المشاة التاسع. وفي هذه السنة يسافر إلى خارج العراق لأول مرة، وكانت وجهته لندن. كانت السفرة لأجل التطبيب الناجم عن عمله, وكذلك قيل لمعالجة الشق في شفته العليا، الذي ورثه منذ الصغر, وهذا ما أشار إليه بعض مُدرسيه. يمكث قاسم في لندن ويستغل الفرص الزمنية المتاحة له من أجل الاطلاع ودراسة التطور الاجتصادي الذي شهدته بريطانيا وديناميكيته، ومستويات المعيشة ونموها مقارنةً بواقع العراق. ويركز الانتباه على كيفية حل مشكلة السكن. لأن هذه المشكلة كانت ولا تزال واحدة من المشاكل الاجتماعية/ الصحية المستعصية في أغلب بلدان عالم الأطراف ومنها العراق، لأن الأسر الفقيرة والفئات الوسطى المتوسطة وما دونها، كانت تعاني من عمق هذه الأزمة منذ ذلك الوقت. وهو بالذات عاش هذه الظروف وتحسس معاناتها على نطاقه الذاتي والاجتماعي.
من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم مبررات توجهه إلى التركيز على هذه الناحية بعد الثورة، كمحاولة لاجتثاث الصرائف وأكواخ الطين والقصدير التي كانت بمثابة أحزمة بؤس تطوق المدن العراقية الكبرى خاصةً . لذا لم تخل مدينة عراقية في فترة حكمه ( 14 تموز1958- 9 شباط 1963) من مشروع سكني حكومي، أو على الأقل توزيع الأراضي السكنية على الجمعيات التعاونية للموظفين وأصحاب الدخول المحدودة من كسبة وحرفيين, للعمال ومراتب القوات المسلحة، بل حتى ضباطهم. "... كان قاسم مصراً ومصمماً على توفير السكن لكل عراقي لا يملك سكناً خلال فترة قصيرة، وإلغاء كل التشريعات التي تعرقل تنفيذ خطته هذه واستبدالها بغيرها " كما يعترف بذلك حتى من ناهضوه. إذ يشير الصحفي، القومي التوجه، شامل عبد القادر إلى هذا المنجز لقاسم في مقالته الموسومة 37+5+35= 4 بالقول: (.. . كانت (4) سنوات من حكم عبد الكريم قاسم على صعيد البناء والتشييد السكني وتوزيع الدور وبناء المصانع والمعامل في عموم العراق هي الأفضل والاحسن والاقوى من (77) سنة مضت من عمر العراقيين. أربع سنوات قضاها (الأسطى) كريّم في تشييد أكثر من ربع مليون دار سكنية وزعت بالعدل على العراقيين، المؤيدين والمحبين لقاسم أو المناوئين والمعارضين والمناهضين له، بل ووزع عبد الكريم قاسم بيوتا سكنية مريحة في اليرموك والضباط على عدد من ضباط الجيش الذين تآمروا فيما بعد على حياته وقتلوه في 9 شباط 1963. لا النظام الملكي ولا عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف ولا حكم البعث لـ 35 سنة نجحوا في كسر (ارقام) عبد الكريم قاسم على صعيد البناء والسكن!! لقد برزت احياء ومدن جديدة في بغداد والمحافظات العراقية في عهد عبد الكريم قاسم: الثورة وجميلة والحرية والشعلة واليرموك وزيونة والضباط والقضاة والمحامين والتجار ونواب الضباط والمعلمين وتوزيع آلاف الدونمات من الأراضي وسندات التمليك على الفلاحين والكسبة والفقراء، ناهيك عن عشرات المصانع والمعامل ابتداءً من معامل الإسكندرية لصناعة السيارات إلى معامل الأحذية في الكوفة... )
و حسب قول الجواهري الكبير: " أصبح هذا الفقير المعدم ذو الثياب المهلهلة حاكماً مطلقاً، ليزحف زحف الذين كفروا على الأكواخ والصرائف وعلى كل ما فيها من تعساء وليحيلها شققاً وعمارات وبيوت ترى لأول مرة النور والكهرباء والحدائق والشوارع، منتقماً من فقره وماضيه، ثائراً على مرارة واقع البؤساء.. . " .
لقد حفزت هذه الزيارة ذهن قاسم وروحه المتمردة على التفكير بضرورة الإسراع لتهيئة الظروف الذاتية لحركة الضباط الأحرار لأجل إنجاز التغيير الكبير المرتقب عندما يحين ظرفه الموضوعي، بغية التماثل النسبي مع الأبعاد الحضارية التي تنعم بها أوروبا. ويتعرف قاسم في أثناء الزيارة عن قرب بالجواهري الكبير، الذي كان أحد أعضاء وفد نظمته السفارة البريطانية في بغداد لمجموعة من الصحفيين العراقيين لزيارة لندن والاطلاع على معالمها وتعمير، ما خربته الحرب العالمية الثانية بفترة زمنية قصيرة.
مَثّلَ هذا اللقاء بين الجواهري وقاسم بداية العلاقة المتميزة والقلقة بينهما. وبصفاء لغته واعتزازه الكبير بذاته المتمردة يصف الجواهري هذا اللقاء بالقول:
" في الملحقية العسكرية بلندن… كانت بعثة عسكرية خاصة تضم ملحقين وموفدين من ضباط يتسابقون عليَّ ويجرني الواحد بعد الآخر من أرادني ؟ وكان بينهم ضابط شاب، كان من دونهم، أشد إلحاحاً عليّ بأخذ حصة أكبر، أو الحصة الكبرى من الجلسات واللقاءات، من جملة ذلك أن اصطحبني إلى بيته وهو شقة متواضعة بملحقيتها. هذه ( الدويرة) شهدت ثلاثة لقطات، تصح أن تكون على بساطتها ذات كلمة ومغزى، لما سيكون لهذا الرجل من دورٍ خطير في تاريخ العراق… لم يكن هذا الرجل سوى عبد الكريم قاسم.. . ".
اصطحب الزعيم قاسم، الجواهري إلى مختلف مناطق لندن ليطلعه على معالمها، بعدما نفر من البرنامج الموضوع لهم ومن صحبة بعض الصحفيين الذين كانوا معه ضمن الوفد. كما كان قاسم بمثابة مترجم له عند مراجعة الأطباء وزيارة المعالم الثقافية. كان قاسم معجباً أيما إعجاب بالجواهري الكبير، في كثير من مواقفه السياسية المناهضة لسياسة نخبة الحكم وارتباطها ببريطانيا وفي دفاعه عن الفقراء والمحرومين، وفي قصائده الشعرية موضوعةً وهدفاً، المتميزة بالصورة الجمالية وصفاء اللغة، وسلمها الموسيقي المنفرد في انسيابيته.
في ذات الفترة يسافر الوصي عبد الإله إلى لندن, حيث كان يقضي إجازته فيها, "وقد أرسل في طلب الجواهري, وتحادث معه طويلا حول ترشيحه إلى الانتخابات النيابية, وطلب إليه تمديد إقامته في لندن ليعود معه في وقت واحد إلى بغداد. لكن الجواهري اعتذر له لعدم امكانية بقائه لمدة أطول في لندن , إذ كان متضايقاً من اقامته فيها.. . خرج الجواهري من اجتماعه بعبد الإله متوجها إلى الموعد مع صاحبه (الضابط برتبة رائد), حيث حجز له موعداً مع طبيب الأسنان وفي الطريق تحدث إليه عن الانتخابات النيابية المزورة, وخلو مجلس النواب من أصوات وطنية محترمة, لكن الضابط انتقل بالحديث , إلى حفلة المساء الماضي وأبدى دهشته وارتياح الجواهري على كرنواليس. وأخذ يترجم له الخبر المنشور تحت الصورة في الجريدة وخبر رويتر قائلا ببراءة أن الشعراء مسموح لهم كل شيء, وهم يشكون من عدم وجود الحرية. أما نحن العسكريين, فلا نتمتع بأية حرية ولا نشكو من انعدامها ".
بعد ذلك, كان قاسم ( يتابع مواقفي الوطنية والاجتماعية، وبخاصة الشعرية منها. وكنت الوحيد الذي يناديني بـ " الأستاذ " أمام اتباعه وغيرهم وفي أكثر من موقف… ". كما كان قاسم منذ بدء علاقته ".. . صادقاً معي كل الصدق وأميناً كل الأمانة ونظيف كل النظافة في حفاظه على تلك العلاقة، وصحيح كذلك أنه لم يصل مدني واحد في العراق هذه الدرجة من الثقة والوطادة والعلاقة… حتى وصل الحد به إلى أنه أعلن وهو يفعل ما يقول: أنني لا أرد طلباً للجواهري … " .
وفي الوقت ذاته أشار قاسم في خطاب له أمام وفدالأدباء العراقيين بتاريخ 13/9/1958 إلى علاقته بالجواهري الكبير بالقول: ... تربطني بالجواهري صداقة ومودة قديمة مبعثها شخص الجواهري كصديق، وحبي للأدباء والأدب وحملة الرأي الثاقب ورسل الثقافة الذين يوجهون ابناء الشعب باتجاه مستقيم ويخلقون في الشعب روح النبل والشهامة التي ترفع من معنوياته واندفاعه، إن حملة الأقلام وأصحاب الرأي والفكر من الأدباء والكتاب منهم والشعراء المخلصين، لهم فضل في توجيه الرأي العام توجيهاً سليماً. لقد أخبرت الجواهري قبل هذا بأن الحركة التي قمنا بها كانت نتيجة لاندماج قوى الجيش والشعب معاً حيث أصبحنا قوة حطمت نظام الحكم البائد وما ثورتنا إلا نتيجة الكفاح المشترك من الناس المخلصين في هذا البلد وفي طليعتهم الأدباء .. . "
بعد عودتهما من لندن أخذ الوهن يتسرب إلى هذه العلاقة كما أخذت اللقاءات تتباعد، بسبب طبيعة عمل الزعيم قاسم العسكري ونضاله السري لأجل تغيير الحكم حسب طريقته الخاصة. وفي الوقت نفسه نضال الجواهري السياسي السلمي بالكلمة والنضال السلمي التحريضي لتهيئة بعض من ظروف مخاض التغيير المرتقب ومستلزماته، ضمن دائرة رؤيته لذاته التي تعتمل داخلياً وبصورة عفوية قوية على سجيتها : " لعل الجواهري يُحِسُّ في قرارة نفسه بأنه لا أحد يصلح لقيادة العراق سواه.. . " و "... يشعر في قرارة نفسه أنّه أكبر من أي رئيس, وأرفعُ قدراً من أيِّ ملك..." .
بمعنى آخر " عاد الجواهري إلى بغداد ولم يعد يذكر صاحبه الضابط في لندن ولا الضابط كانت تسمح له التزاماته العسكرية وطبيعته الشخصية ومشروعه الخاص، بتوسيع دائرة علاقاته في بغداد، والاتصال بشاعر سياسي كالجواهري "، وغيره من السياسيين العاملين ضمن خارطة التغيير المرتقب في عراق تلك المرحلة. خاصةً والجواهري كان أشهر من نارٍ على علم, حيث ".. . عرف عن هذا الملك غير المتوّج الذي اسمه الجواهري أن توحد في مرحلة الاربعينيات بالناس توحداً يكاد يكون تاماً, واشتُهِر بينهم بصفته شاعراً سياسياً فريداً .. . " في كل عصور الشعر العربي." .. .أما سبب فرادته فهو أنه نقل الشعر السياسي من موضوعٍ إلى ذات.. . إن ما تحدث به الشاعر عن هموم الجماهير لم يكن من همومها هي وحدها, وإنما كان من هموم الشاعر نفسه, ولكنّ لهذا الشاعر من الموهبة الأصيلة ما يجعله يلتقط من همومه ما هو إنسانيّ, لا ما هو خاص به.. . ". استمر هذا الفراق المؤجل لغاية ثورة 14 تموز حيث تجددت العلاقة بينهما ثانيةً ببعدِ جديد ذا علاقة خاصة ومضامين بنائية مستهدفة.. وقد " تقاسم الصديقان الزعامة!! عبد الكريم قاسم زعيم السلطة السياسية. والجواهري زعيم السلطة الثقافية وزعيم الصحافة ". وكان عبد الكريم قاسم ".. . يتعامل مع الجواهري صديقاً وسياسياً, كما هو شاعر كبير, فيشاوره في الأوضاع السياسية, ويجالسه طويلاً في الإسبوع أكثر من مرة.. . ".
وهذا ما لم يحظ به الجواهري من أي زعيم عراقي أو غير عراقي حيث كانت علاقته بهم ذات صفة نفعية إن لم نقل زبائنية، إذ يطرقون بابه بغية حصولهم على مكانة لهم في شعر الجواهري. وبالعكس من قاسم الذي كان ينظر إليه كذات إبداعية كبيرة ووعي سياسي وأديب مكافح .. وهنا يسوق د. الأعرجي إلى واقعة ذات دلالة فيقول: " فقد كان يحز في نفسه أنّ هذه الأحزاب العراقية يوم تقتسم المناصبَ السياسية, أو يوم يُخيَّل لها أنّها ستقتسم لا ترى فيه أكثر من شاعر, ومن هنا كان يروي بمرارةٍ أنّه زار الزعيم عبد الكريم قاسم ذات مَرّة في مقرِّه بوزارة الدفاع, فوجد الفقيد الأستاذ عامر عبد الله عنده, فكان في جلسة عامر ما يوحي أنه أعطى ظهره للجواهري, وتنبه الزعيم إلى ذلك فقال لعامر بشيء من العصبية:
عامر , هذا الأستاذ الجواهريّ!
فعدل من جلسته .. . "
هذه الصفة التي تمتع بها الجواهري في دفاعه وتبنيه مطالب الجماهير الفقيرة وتوحدهِ مع معاناتهم, هي التي دفعت قاسم أكثر فأكثر إلى لقياه, كمشروع مشترك وَمعلَمَاً أدبياً رفيعاً, والذي كان آنذاك في خضم التهيئة لانضاج البعد الذاتي لحركة الضباط الأحرار. وفي الوقت نفسه إعجابُ الشاعر العميق في لاوعيه يومها بشخصية عبد الكريم قاسم وهو يحث الخطى في غشباع جزء من الحاجات المادية للجماهير الواسعة من الفئات والطبقات الكادحة التي دافع الجواهري عنها وتوحد معها ومع تطلعاتها.
ثم انتكست هذه العلاقة ضمن الخارطة الجديدة للقوى السياسية وموقف كل منهما إزاء ما كانت الحياة تطرحه من ضرورات والتزامات، من مهام وأعمال، وما رافقها من صراع سياسي/فكري طال المجتمع العراقي بكل مكوناته عمودياً وافقياً، وبالتالي أوجد ما أوجد من تفسيرات مختلفة ومتباينة لحل مثل هذه الإشكاليات. وحدث الافتراق بينهما والذي كان للبعد الذاتي فيه دوراً كبيراً لكلا الطرفين.. وإن كان للجواهري الكبير وروحه المتمردة ونرجسيته العالية القدح المعلى في ذلك وعدم تحقيق " أحلام الجواهري التي كانت قد لازمته أربعين عاماً في أن يصبح وزيراً .. . ومن شعوره العميق بأنه هو الزعيم الحقيقي الذي عليه أن يُوجّه وليس سواه سواء أكان هؤلاء الزعماء زعماء سياسيين, أم جمهوراً, أو أجزاباً ". وقد عبر عنها بعد ثلاثة عقود من الزمن في مذكراته، بصورة غير متسقة مع ماهية ذاته، ولا مع واقع صيرورتها الموضوعية، وغير مقنعة لا لنفسه ولا للآخرين.
يقول الجواهري: " .. . غير أني أستطيع التأكيد ثانيةً أن عبد الكريم قاسم كان يملك ضميراً حياً ونزاهة نادرة, وبساطة في اللباس والحياة والمأكل, مما جعله يضاف إلى قائمة المترفعين عن المظاهر والمكاسب وجاه الثورة وهو ما أغفله الكثيرون من الكتاب والصحفيين والمؤرخين .. . وأراها مناسبة للقول إن الكثيرين من هؤلاء لم يتعاملوا بنزاهة مع التاريخ ولا بل أمانة مع واقع حال هذا الرجل وكثيرون منهم كتبوا إما بدوافع سياسية أو بدوافع شخصية أو بدوافع مصلحية.. . الأسباب التي جعلت أكثرهم يبتعد عن الحقيقة.. . وبذلك لم أعتمد أحداً منهم وأنا أكتب تاريخ هذا الرجل إلا القلة النادرة والموثقة.. . " وحتى بعض من هذه القلة التي اعتمدها الجواهري الكبير ، لم تكن موضوعية لا مع ذاتها ولا مع الزعيم قاسم .؟
لقد خلط الجواهري هنا الذاتوية العالية بشيء من الموضوعية، فيها كثير من التناقض وفي الوقت نفسه الكثير من لحظات الانسجام الصافية مع الذات.. ولم تخلو من الثأرية والانتقام.. وفيها التضخيم, المبرر وغير المبرر, للذات وتدنيس لسمعة قاسم [الكثير السيئات], حسب تعبيره, والمقترنة بالشتيمة والحط ليس من قاسم فحسب، بل حتى من ثورة 14 تموز، كما يوصف كل ذلك في المذكرات وفي اللقاءات الصحفية والتلفزيونية، التي كانت كلها تفصح عن لا شعوره، لأنه " هذا هو الجواهري: الخوف من الإتيان بالحقيقة كاملة، شعراً أو تصريحا.. إن الجواهري ساكت عن الحق والساكت عن الحق شيطان أخرس ولا قيمة للشاعر بدون دوره التاريخي في أن يقول الحق حتى لو قطعت شفتاه وأسملت عيناه.. . "
لقد " طرح الجواهري آراء خطيرة في ثورة 14 تموز عام 1958 وفي عبد الكريم قاسم. وقد ترددت في الإشارة إليها حفاظاً على وحدة الموضوع الفكرية. لكنه يصر على موقفه هذا كلما تجاذبنا الحديث عن الثورة مما حداني لالتقاط جوانب من تلك الآراء… لقد استغربت أن الجواهري لم يحتفظ بكره وحقد وغضب، على شخصية سياسية في تاريخ العراق مثل كرهه لعبد الكريم قاسم .. . ". لأنه كان يعتقد, لحين وفاته, أن الزعيم قاسم كان يقف وراء حملة التشهير التي تعرض إليها الجواهري من قبل اليمينين الأعداء السافرين " لعبد الكريم قاسم وحكومته، وللجواهري واتحاده ". وكان الجواهري يطلق على قاسم أستهزاءً لقب (الأفندي) كما نعته بكونه قد " اختل توازنه ولم يكن تفكيره سوياً أو مستقيماً، بل كان مريضاً وازداد مرضه عندما أمسك بناصية الحكم واعتلى شهوة الانفراد.. . ". رغم أنه يعزو بعض من أسباب الفجوة بينهما إلى طبيعة مزاجه النفسي حيث يقول: " أنا بطبعي حاد ومتأزم ومتوتر كما أخبرتك, وكما تعرفني وهو ما ينعكس على حالتي لرد الفعل.. . ". ويؤكد ذلك ويعترف في مذكراته بالقول: " وإذا بي أقول مالا يصح أن يقال.. . كلمة كبيرة حقا – بل ونابية أيضاً- لكنها اندفاعة الشاعر المكبوت. جملتي كانت على صغر حجمها وعلى بداهة ارتجالها فظيعة جداً.. . ". لكن التساؤل ينصب هنا على ما رد فعل قاسم على مثل هذه الكلمة النابية من جهة، وهل مارس ما يماثلها مع غير قاسم من الزعماء وبهذه القسوة؟؟ ولم يصبه سوء منهم؟؟؟.
كانت العلاقة متشابكة بينهما ومعقدة ومستنبطة من ذات المناخ السياسي ومن نرجسية وذاتية المبدعين الكبار والقادة العظام. من ذاتوية المبدع والسياسي الكاريزمي ذي الطموح العالي الذي يتجاوز في بعض الأحيان قدراته الحقيقية. وهذا ما سنعود إليه في الكتاب الثاني – الجزء الثاني من هذه الثلاثية، لاحقاً وبالكثير من الإسهاب.
الهوامش
- مستل من الكتاب الأول من ماهيات السيرة لعبد الكريم قاسم (1914-1958)، دار الحصاد دمشق 2006. وقد نشر في الحوار المتمدن في 23/5/ 2006 http://www.ahewar.org والموضوع منقح ومزيد .
2- خليل ابراهيم حسين، موسوعة 14 تموز في7 اجزاء، الجزء 1، ص. 199، مكتبة بشار بغداد 1990
3 - راجع حول هذا الموضوع جريدة المشرق في 7.11.2009، بغداد
4-محمد مهدي الجواهري، المذكرات، ج.2، ص. 176، دار الرافدين دمشق 1990.
5 - حول هذه الزيارة راجع سليم طه التكريتي، محمد مهدي الجواهري، دار الريس لندن 1986.
6 -محمد مهدي الجواهري، المذكرات، ص. 473، مصدر سابق. وقد ثمن الجواهري موقف قاسم من الأدباء بالقول: " يمكن أن تتعجب إذا قلت لك أن الزعيم كان كثير التهيب في علاقاته مع الأدباء وكان أول بيت زاره في العراق بعد الثورة، هو بيتي وقد تكررت الزيارات.. .". راجع د. عبد الحسين شعبان، الجواهري جدل الشعر والحياة، ص. 154، الكنوز الأدبية بيروت 1997
7- حسن العلوي، الجواهري ديوان العصر، ص. 195-196، وزارة الثقافة دمشق 1986، ويشير العلوي في الصفحة ذاتها إلى أن ( صحفي بريطاني قد التقط في تلك اللحظة صورة للجواهري، وهو يمد يده وأصابعه قريبة من عيني "كرنواليس" ونشرت هذه الصورة النادرة على الصفحة الأولى لإحدى الصحف البريطانية) .
8 - محمد مهدي الجواهري، المذكرات، ص. 171-172، ج.2، مصدر سابق.
9 - خطب الزعيم عبد الكريم قاسم لعام 1958-1959، أعداد ماجد شبر، دار الوراق لندن 2007. وكان الجواهري قد ترأس الوفد لتقديم التهاني بالعهد الجمهوري الجديد.
10 - د. محمد حسين الأعرجي، الجواهري- دراسة ووثائق، صص. 166،168 ، المدى دمشق 2002.
11 حسن العلوي، الجواهري، ص. 196، مصدر سابق.
12- د. محمد حسين الأعرجي، الجواهري، ص. 163، مصدر سابق.
13 - المصدر السابق، ص. 198، ويشير ذات المصدر في الصفحة ذاتها، كيف كان قاسم يعود الجواهري إذا مرض، وكان قاسم يصوغ خبر زيارته للجواهري بنفسه لوكالة الأنباء العراقية. وقد نشرت الصحف البغدادية آنذاك صورة عبد الكريم قاسم جالساً على كرسي إلى جانب سرير الجواهري، وقد أمتدت يمينه تلتمس جبهة الشاعر.
14- المصدر السابق ،ص. 217 .
15- المصدر السابق، ص. 176
16- محمد مهدي الجواهري، ذكرياتي، ج.2، ص. 179، مصدر سابق.
17 - للمزيد حول ذلك راجع، د. محمد حسين الأعرجي، الجواهري/ مصدر سابق؛ و د. عبد الخالق حسين، ثورة 14 تموز 1958وعبد الكريم قاسم،ص. 191، وما بعدها، دار الحصاد دمشق 2003.
18 - للمزيد عن هذه الموضوعة، راجع د. عبد الخالق حسين، المصدر السابق.
19 - خلدون جاويد، لماذا هجوت الجواهري( وورثيته) ص. 106، دار الأضواء بيروت 2003.
20 - حسن العلوي، الجواهري، ص. 204-205، مصدر سابق.
21 - المصدر السابق، ص. 206. , ومن الجدير بالذكر أن هذا اليمين قد اشاع بأن الزعيم قاسم قد اطلق سراح الجواهري بكفالة بمقدار خمسين فلساً وهذا مايتنافى وموقف قاسم الاخلاقي ناهيك عن موقفه من الجواهري بذاته. لذا فقد كانت هذه الواقعة بالشكل التالي كما يرويها الصحفي حسين محمد علي الشرع : " الزعيم عبد الكريم قاسم وكفالة الجواهري يخطئ من يقول أن الزعيم يتدخل في أمر القضاء ولكنه كان يؤخذ رأيه كرئيس دولة بتعيين القضاة والمصادقة على الأحكام أما قضية الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري فإن الزعيم قد رجانا ونحن في قاعة الشعب لأخذ انتخابات الدورة الثانية للانتخابات في قاعة الشعب بأن ننتخب نقيباً للصحفيين غير الجواهري لأنه يريده في مكان آخر هذا ما قاله الزعيم أمامنا في اجتماع الهيئة العامة للصحفيين فامتعض الجواهري وخرج مع الزعيم وكتب عدة مقالات في جريدته وكان الرجل مطلوباً بمبلغ لأصحاب المطابع وقد كثرت عليه الدعاوى ومنها دعوى اعتقاله لدى قاضي تحقيق الرصافة في محلة لمربعة سيد سلطان علي وقد ذهب الاستاذان محمود شوكت صاحب جريدة الثبات والاستاذ حسن الصوري صاحب جريدة الحضارة وقدما طلباً للقاضي ووضعا على الطلب طابعا من فئة خمسين فلساً وهذا عرف في كل الطلبات وهو سار حتى الآن وبهذا تم اخلاء سبيله حالاً وفي اليوم التالي كتبت بعض الصحف خبراً مغرضاً بأن الجواهري خرج بكفالة خمسين فلساًَ فلا الزعيم أوقفه ولا له علم بذلك مع العلم أن الجواهري عاش ومات وهو فقير الحال وهو الذي ملأ الدنيا بأنتاجه الثقافي"ـ جريدة المشرق 25 آب2009 بغداد
22-د. عبد الحسين شعبان، الجواهري، ص. 150، مصدر سابق.
23 - المصدر السابق، الصفحة ذاتها.
24 - الجواهري، مذكراتي، ص. 261، مصدر سابق.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟