جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3434 - 2011 / 7 / 22 - 03:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إحدى أهم الحقائق التي باتت تفرض وجودها بإتجاه تشكيل صيغ المتغيرات هو صعود الإسلام السياسي بكل ما يحمله من أخطار على صعيد مسألة بناء الدولة المدنية المتحضرة. هذا الأمر لا يمكن حصره في العراق فحسب وإنما يمكن رؤيته وهو يتحرك بوضوح وفاعلية على الصعيد العربي والإسلامي برمته. من ناحية أخرى يحظى هذا المتغير برعاية أمريكية وغربية على عكس ما تظهره الحرب الإعلامية التي يشنها الغرب ضد الإسلام. فمنذ التبشير بصراع الحضارات وبعد انهيار العالم السوفيتي وتراجع الحركة الشيوعية بشكل كبير والدوائر الغربية تبشر بصعود الإسلام السياسي كخصم بديل وتنفخ فيه بما يجعله قادرا على ملأ الفراغ السياسي الذي تركته الحركة الشيوعية أوالوطنية أوالقومية, ثم تذهب إلى بناء منظومة من الأحداث لمنح هذه الخصومة بعدا تصادميا بالحدة التي تجعله مشروعا بديلا لحركة التحرر. في حالاته الإستخدامية لعب الإسلام السياسي دوره كأداة حاسمة ضد الوجود السوفيتي والحكم الشيوعي في أفغانستان, وحينما تحقق المطلوب جرى الأمر بإتجاه ترويض القاعدة ولكن ليس ترويض الإسلام السياسي نفسه.
السياسات الإستراتيجية الغربية تعير اهتماما كبيرا لنظرية الاحتواء وهي نظرية هدفها السيطرة على السياق الطبيعي لحركة الصراع ثم تطويع تناقضاته بالشكل الذي يفقده أهم مرتكزاته الأساسية القائمة على تضاد المصالح. الإسلام السياسي لا يملك برنامجا خارج حدود الهوية الثقافية, ويتم اقترابه من حركة الصراع في عالم اليوم, علميا واقتصاديا واجتماعيا, من خلال عودة سلفية تسقط من حسابها طبيعة الظرف وقوانين الصراع الاجتماعية المستجدة والمختلفة بشكل كبير.
بعد انهيار الشيوعية وتراجع حركات التحرر الجماهيرية وانحسار المد الاشتراكي صار مهما لدى هذه الدوائر نقل الصراع من مستوياته الاجتماعية التي تتمحور حول العوامل الاقتصادية وما ينتج عنها من حركة صدام مع المصالح الامبريالية إلى مستويات تتأسس على مقومات روحية ذات ثقافة دينية من شأنها أن تسطح إلى حد بعيد كل العوامل التي تجعل للصدام إمكانات أن يتطور باتجاه تهديد المصالح الإستراتيجية التي تقوم على أساسيات بناء الدول المتحضرة وما يستدعيه ذلك التحضر من قيم التحرر والاستقلال والنهضة وبناء البنى التي تحرر الاقتصاد من تبعيته للشركات الاحتكارية.
إن تفحص مبادئ هذه الحركات الدينوسياسية بدء من الإخوان المسلمين التي لم يكن تأسيسها في مصر في العشرينات من القرن الماضي منقطعا عن الحركة الوهابية في نجد والحجاز, إلى الحركات الدينوسياسية في العراق سواء على المستوى الشيعي أو السني سيلمس بشكل سريع ومباشر خلو هذه الحركات من برامج اجتماعية حقيقية إلا بما يجعلها نقيضا هشا وحتى فارغا من شروط الصراع مع الاحتكارات العالمية, لا بل ويجعلها نقيضا كاذبا, وفي أحسن الحالات نقيضا سلبيا لا غير, وذلك من واقع استحالة قدرة هذا النقيض على بناء تجربة نهضوية توفر للبلد أو المنطقة استقلالا سياسيا واقتصاديا في آن واحد, والذي لا يمكن له أن يتحقق إلا من خلال خوضه للصراع وفق القوانين الأساسية التي تتحكم بعالم اليوم, وليس غيرها.
لسنا الآن في وارد الحديث عما إذا كانت هذه الحركات منذ تأسيسها هي صناعة غربية بامتياز أم أنها كانت تأسست باختيارات ذاتية حرة, وحتى على افتراض أن هذه الحركات كانت قد أنتجت نفسها بشكل ذاتي مستقل فإن التناغم بينها وبين الغرب لا يمكن أن يخفيه خطاب العداء المسطح.
لقد أفلح تسطيح هذه الحركات لأدبيات الصراع مع الغرب الاحتكاري إلى نزع جميع أنواع الأسلحة التي تؤهل تلك المجتمعات للدخول من خلال بوابات وطنية ونهضوية حضارية سليمة. وإذ هي استدعت إلى ميدان الصراع جانبه الثقافي الديني السلفي فقط فهي قدمت بالتالي خدمة جليلة للإمبريالية حينما ساعدتها على تقسيم العالم وفق مبادئ وآليات مكنت مجتمعاتها على التماسك والدخول إلى الصراع كأمة واحدة في وجه أمة أخرى بثقافة معادية.
وهكذا يصبح التخويف من الخطر الإسلامي الواحد أداة لتوحيد تلك المجتمعات لصد أخطار تواجه جميع أبناء الأمة بدرجة واحدة, وبدلا من أن يجري تقسيم العالم وفق معايير اجتماعية واقتصادية فإن احتكاري العالم الرأسمالي وجدوا في الصراع الثقافي المجرد عن مقوماته المادية وسيلة لتصريف التناقضات الذاتية الداخلية أيضا من خلال العدو الذي يتهدد الجميع. هكذا حلت الأمة بديلا للطبقة الاجتماعية بما منح الغرب فرصة تعويم تناقضاته الاجتماعية الداخلية بعد أن أسقطها على عدو خارجي وأدخلها إلى معركة تدور بين حضارات وثقافات وليس بين أمم وشعوب تسعى إلى الاستقلال وتوفير سبل النهضة من جهة ضد شركات ودول استعمارية احتكارية على الجهة الأخرى.
إن الصراع الآن بات حضاريا, أو هكذا شاءوا له أن يكون. غير أن هذا الشكل من الصراع ليس جديدا بالمرة, فالذي يتابع الحملات الاستعمارية تاريخيا لن يجد صعوبة في اكتشاف أن صراع الحضارات هو نظرية جديدة قديمة. إنها تجديد لروحية وقيم الحروب الصليبية ذاتها التي تم من خلالها تجنيد الفلاحين الحفاة خلف الإقطاعيين والملوك والنبلاء تحت رايات مسيحية لا علاقة لها مطلقا بروح المسيحية ولا بتعاليم السيد المسيح. ولذا فإن تلك الحملات الصليبية لم ترحم لا مسيحيا ولا مسلما على طريقها إلى ثروات الشرق, ولا كان المسيحيون العرب قد انخدعوا بشعاراتها الباطلة, فظلوا على وفاءهم للأرض والوطنية الصادقة حتى جاء الإسلام السياسي لكي يتبنى شعارات تلك الحملة من خلال ثقافة أدت إلى تقسيم العالم وفق تصنيفات دينية وثقافية لطالما سعى الغرب إلى توظيفها في حملاته الاستعمارية, التي كانت تغنت بحضارة الرجل الأبيض وكان من إنتاجاتها إعادة الرق والمتاجرة بالعبيد.
وتحت نفس الرايات أيضا, أي الرايات الأخلاقية خاضت أمريكا معركتها ضد الإتحاد السوفيتي, حتى أن ريغان كان أعلن أنه يقود معركة مسيحية أخلاقية ضد الشيوعية الكافرة, أما بوش فلم يتردد عن الإعلان أن غزوه للعراق وأفغانستان قد جاء بوحي إلهي .
ولذا فإن صراع الحضارات لم يكن جديدا, ولا كان قد استنبطه هنتنغتون لأول مرة, وإنما هو ثقافة تضرب جذورها في عمق الأنظمة الاحتكارية التي تسوق جيوشها الاستعمارية تحت يافطات أخلاقية كاذبة.
إن أفضل ما حققه الغرب الاستعماري من خلال صراع الحضارات هو بناء مفهوم الأمة الطبقة, حيث تم تعويم الصراعات الطبقية الاجتماعية وتذويبها في جسم واحد وتوجيهها ضد عدو خارجي يتمثل هو بدوره أيضا بأمة طبقة عدوة.
وإن من أفضل ما تحقق للغرب هو صعود الإسلام السياسي الذي بات يمثل العدو النوعي المطلوب الذي يحمل أيضا خصوصيات الصراع الحضاري بالشكل الذي أراده الغرب. وهكذا وجد مفهوم الأمة الطبقة طريقه إلى النور من خلال ثقافة صراع الحضارات الذي كفل من جانب آخر وبمساعدة حركات الإسلام السياسي تفريغ الصراع مع الغرب الاستعماري من جميع مضامينه الموضوعية وجعله إلى حد كبير حكرا على الجانب الثقافي الديني.
لقد شن الإسلام السياسي في السودان حملة شعواء ضد سوداني الجنوب المسيحيين تحت شعارات تطبيق الشريعة, وفي نفس الاتجاه يعمل الإخوان المسلمون على جعل ولادة الدولة القبطية مسألة وقت. أما في العراق فأدت تجربة الإسلام السياسي بكل أطرافها إلى اضطهاد المسيحيين ودفعهم إلى الهجرة لغرض بناء مجتمعات أحادية الدين والثقافة. بهذا لم يعد هناك اختلاف بين ما يطرحه الاستعماريون والاحتكاريون الغربيون وما يطرحه الإسلام السياسي, وهذا الأمر يصب إلى حد كبير في مصلحة اليهود الصهاينة الذي يهمهم تقسيم العالم على أساس ديني وثقافي, فذلك سيضمن نجاح الدولة الصهيونية كأمة يهودية.
إضافة إلى ذلك فإن تفريغ البناء الاجتماعي القائم على معطيات الحاضر من خلال عودة سلفية إلى الماضي سيضمن غياب كل عوامل التقدم والنهضة بما يكفل للأمم الاحتكارية أن تهيمن على عالم إسلامي معولم ومفرغ ومسطح ومغيب.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟