أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبد الرحمن جاسم - لغة الخطاب















المزيد.....

لغة الخطاب


عبد الرحمن جاسم

الحوار المتمدن-العدد: 1022 - 2004 / 11 / 19 - 11:32
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


تعتبر لغة الخطاب الأساس الواقعي والحساس لكل تواصل بين أي مجموعة من الناس وأخرى، "إنها صلة الوصل والرابط الحقيقي بين أي مجموعتين تضمان مرسل ومتلقي"، كما يقول "توماس مك-كان" عالم النفس الأميركي الشهير. فلغة الخطاب التي تخاطب عقول الناس باستخفاف لا تقود إلى مكان إلا إذا كانت مدعومةً بضوابط أخرى تجعلها مقبولة (مثل الأحوال الإجتماعية والسياسية القاهرة)، وهذا الكلام ينطبق مثلاً على خطابات هتلر "الحماسية" في الحشود النازية، فهتلر مثلاً، وكنموذج، كان يتحدث في أمور تعتبر بديهية، ويتلاعب بالعقول، حتى يصل إلى هدفه، معتمداً على الحالة النفسية لمخاطبيه. إن لغة الخطاب ومنذ الأزل هي وسيلة سيطرة على الجماهير.
فديموستين الخطيب اليوناني الأشهر -الذي تخلص من مشكلة التأتأة في صباه بوضعه حصاة تحت لسانه- ليصبح أشهر خطيب في تاريخ الإغريق، استطاع قيادة شعبه في كثير من الحروب، واستطاع بواسطة خطابه المؤثر أن يغير العديد من القرارات داخل أثينا العاصمة العظيمة، وهذه الميزة هي نفسها التي أودت به إلى حتفه في النهاية.
إن لغة التواصل، التي كانت فيما مضى هي لغة الخطابة، تحولت اليوم كثيراً، فلم يعد هناك حاجة لأن تقف على منبر لتوصل فكرتك بهذا التأثير، فيكفي أن تجلس في تلك الغرفة الصغيرة، وتوجه إليك كاميرا صغيرة ترسلك كلامك إلى كل أنحاء العالم حولك، إذا أردت، إنه سحر العصر الحالي، إنه عصر التلفزيون، وعصر الكاميرا المباشرة.
وقد تابعنا خلال الفترة الماضية، ولا زلنا، برامجاً كثيرة تقدم هواة تحيلهم إلى نجوم بين ليلةٍ وضحاها، وأكثر ما يلفت النظر في هذه البرامج، ليس أجوائها العامة الشديدة الغرابة، إنما اللجان التي ترأسها والتي تسمى بلجان التحكيم، واللغة المحترفة التي يتكلمون بها. فتارةً يفاجئك مدرب الصوت، أو الحركة بكلمات أو تعابير "محترفة" –كما يدعونها- مثل الـ"كوليتراشين بصوتك عالية"(وبطبيعة الأحوال نحن لا نعرف ماذا تعني كوليتراشين) أو "تحرك خارج محيط الحركة"، وكلها بطبيعة الأحوال تعني أنه أخطأ، وينسجم الناس مع تعابير كهذه، دون أي التفاته لدرجة دقة هذا الكلام أو صحته. فعضو اللجنة هذا، هو خبيرٌ في مجاله، والخبير يحق له ما لا يحق لغيره، ثم ما نفع الخبير إن لم يتحدث بهذه اللهجة، فهو ببساطة موجود لكي يتحدث بها، وإلا لقال عنه الناس بأنه سخيف، وطبيعة الخطاب هي من طبيعة الدور. إن مهمة لجنة التحكيم تمثيل دور اللجنة، بكل ما للأمر من معنى؛ من حيث الإداء، واللباس والسلوك، وإلا فإنها تفقد بالتالي مصداقيتها. هذه هي النقطة الأولى من خصائص الخطاب، إنها تناسب الخطاب مع القائل، أي التشابه المتلازم بين المخاطِب ونوعية خطابه، فيجب أن يكون هو نسخةً حرفية عن خطابه، فالخبير يجب أن يتحدث كخبير، (يعني أن يقول كلاماً كبيراً وغير مفهوم إذا ما اضطره الأمر).
والخبير هذا هو امتداد لحالة الخبرة العامة التي يتطلبها مجتمعنا، فالناس يريدونه هكذا، حتى أنهم يتلقفون الكلام الذي يقوله هذا الخبير، ويحولونه إلى تعابير عامة، تتداولها كل الألسن، وليس مستغرباً أن تجد طفلاً في العاشرة من عمره يخبرك بان الفنان الفلاني قد "كسر" في هذا المكان، أو "خرج عن الريتم"، وغيرها من العبارات التي تفيد بأنه هو الآخر أصبح "خبيراً" في المجال. فالأمر واضحٌ إلىحدٍ كبير: بمقدار ما تقلد هذا الخبير، تضحي خبيراً بحد ذاتك. والقضية نفسية بحد ذاتها، وبشرية بدرجة أكبر، إنها سمة تقليد الناجحين أو الشخصيات المؤثرة، فإذا كان هذا الخبير، هو معلم، أو مدرب "النجم" هذا(والنجوم عادةً هم أكثر من يقلدوا)، فإنه إذا يستحق أن يقلد.
ولغة الخطاب "الخبيرة" هذه ليست جديدة، ولكنها عادت للظهور من جديد مع موجة الفضائيات، حيث إنها غابت لفترة معينة، بعد أفول مرحلة الثورات مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. فقد درجت أغلب الحركات الثوروية وخصوصاً الماركسية منها، على استعمال لغة خطاب، تفوق لغة خبراء برامج الهواة تعقيداً وصعوبة، فلغة الحوار "الثورية" هذه كانت تبدأ بـ"الديماغوجية" مروراً "بالشوفينية" انتهاءاً "ببروليتاريا التمظهر". وبطبيعة الحال كان الناس يهزون رؤوسهم، ويصغون، ويتلقفون الكلمات، غير مدركين لمعناها، ولكن لأنها أتت من القائد، أوالمعلم، أو المفكر الفلاني الكبير، فهي كلماتٌ مقدسة، تستحق أن تضاف إلى القواميس، وتحول إلى محطات كلام. وأذكر هنا حادثة تلك المراة المسنة التي تعاركت مع سائق الباص، فنظرت إليه بكل قرف وقالت له "بروليتاري". فنظر هو إليها، واستشاط غيظاً وكاد يهم بضربها، وهو يردد "أنا بروليتاري؟ أنا؟".
وكذلك لا يختلف إثنان على أن الشارع الإسلامي له خطابه الخاص كذلك، فالخطاب الإسلامي للشارع هو خطاب فصحوي، تركيبي، تفخيمي بامتياز. فالمخاطِب الإسلامي يتحدث كما لو أنه من قبيلة بني أسد في عصر صدر الإسلام، إنه يحاول نزع تلك المرحلة التاريخية من مكانها، وإحضارها إلى العصر الحالي، ولا ريب أن الكثيرين بعد مرورهم بتجربة السماع المستمر لهذا الخطاب، لابد لهم من تقليده إذا ما تحدثوا في الدين، من باب التشبه بالأمر إلى نهاية الأمر. فيكون الأمر شديد المفارقة حينما يتحدث واحدنا بالعامية-المحكية أغلب حديثه، ثم يسربله(أي الحديث) بجملتين باللهجة الفصحى. إن هذا الخلط العالي، لأمرٌ مدهشٌ حقاً. فالحديث في الدين قد يفقد قيمته لدى المستمعين إن لم يكن هكذا، فيفقد المرسل تأييد المتلقين. لذلك إن الحاجة هي سيدة الأشياء هنا، إنها الحاجة لتقليد الخطباء المؤثرين، إنها الطريقة الأمثل للنجاح.
وحين نتحدث عن الخطاب نجد أننا أمام طلب رئيسي وأساسي من مختلف الناس لزيادة المعرفة، فقناة مثل "الجزيرة" مثلاً تقدم خطاباً جديداً وللغاية في العالم العربي، ثم إن استضافتها للعديد من المثقفين والكلاميين العرب، أعطاها مكانةً خاصة بين الجمهور العربي ككل. لذا فلغة خطابها، باتت تسيطر على أغلب الشارع العربي، وخصوصاً أثناء الحديث عن السياسة(لربما لأنها قناة إخبارية أولاً وآخراً)، فتجد بائع الخضروات مثلاً، يحدثك عن أخبار العالم كما لو أنه مراسل تلفزيوني أو محاور في برنامج "الاتجاه المعاكس". فلغة الخطاب هي أساس الأمر، وحينما تتحول إلى سلعة مناسبة، فهي تضحي من أشهى الوجبات.
نقطة أخرى أيضاً لا يمكن نسيانها أو تجاهلها هي اللغات الأجنبية التي تزين ألسنة مختلف الناس. فكثير من الأشياء أضحت لا تعرف إلا باسمها الأجنبي، لربما لأنها لم تعرف في عالمنا العربي سابقاً، فمن منا لا يسمى "حاسوبه" بالكمبيوتر، ومن لا ينعت "مبدل الأقنية" بالريموت كونترول، أو "الأقراص المدمجة" بالسي دي.(وحتى أنا وضعت أسماء الأشياء ذات اللغة العربية الفصحى، بين علامتين كي يستدل عليها، لقلة استعمالها، أو لعدم معرفة الناس بها). إنها أسماء باتت شائعة، وألفاظ تستخدم وبشكلٍ دائم، سواء كلغة خطاب بين الناس، أو على وسائل الإعلام. ولا يفوتنا هنا حادثة الفنان الشعبي المشهور عن أنه حينما كان يصور فيلمه الجديد كان يذهب يومياً إلى "اللوكيشا" سيراً على الأقدام، واللوكيشا هنا –كما أوضح للمشاهدين فيما بعد- هي "location" التصوير، الذي تعني بالعربية مكان التصوير، وهو لجهله باللغة الأجنبية، تلقف الكلمة من خبير التصوير، والمخرج واستعملها، مدركاً بفطرته وجه استخدامها، إنما محوراً إياها لتلاءم لفظه. فاللغة إذاً، وهو إيحاء لتطور العصر، تدخل أيضاً في لعبة الخطاب، فالمخاطِب يجب أن يحدث المخاطب بلغته، يعني بما يفهم، مستعملاً كلمات يفهمها ويتقبلها المخاطَب دونما إرهاق أو أرق، وحتى ولو أنه لم يفهم سيظل هناك تواصل من نوعٍ معين.

خطاب المثقفين:
إن لغة الخطاب هي الوسيلة الأسمى والأكثر تأثيراً، "فحينما نحدد لمن سنتوجه، وما هو مستوى حديثنا ونوعية المعلومات التي نريد إيصالها، نكون قد قطعنا الشوط الأكبر في سباق الفوز"، هكذا يقول فرنسوا كيزون عالم اللغة الفرنسي. إن اللغة مرتبطة إلى حدٍ كبير، وخصوصاً اللغة الإعلامية بقدرة الخطاب على الإيحاء بالأمر، وقدرته على التعبير، ومدى نجاح أي برنامج أو فشله هو بمقدار ما يمتلك خطابه من الإيحاء.
وقبل ختم الموضوع، تتبادر إلى ذهني، تلك المقابلة مع دكتور في علم النفس على إحدى الفضائيات، تحدث فيها عن الروائز وأهميتها، وصال وجال، لكنه غفل –وبكل سذاجة- أن يشرح للمشاهدين ماهية الروائز، وعن معنى الكلمة، فظل أغلب الناس-من غير المختصين- جاهلين تماماً بأن الروائز هي نفسها الاختبارات العادية التي يعرفها كل الناس، ولكن الكلمة –أي روائز وهي التعبير العلمي للأمر- غطت المعنى بنوعٍ من الغموض. إذا، الفارق هش ضئيل بين الإفهام وعرض العضلات الثقافية، وهذا أكثر ما يمارسه مثقفونا، فترى كثيراً منهم يصرون على إدخال كلمات كبيرة وذات معانٍ متشعبة ومتشابكة كـ"توتليتارية" وغيرها من الكلمات التي يعجز الناس أحياناً عن لفظها، لا لسبب إلا لأنهم يعرفون أنها ستشد الإنتباه إليهم بصفتهم يفهمون، ولطالما شاهدنا كثيراً من الناس يهزون برأسهم أثناء مشاهدة مقابلة مع أحد هؤلاء المثقفين، ولسان حالهم يقول: "يبدو أنه يفهم، انظروا إلى الكلام الكبير الذي يقوله". صحيح أن إشكالية لغة الخطاب هنا، مدركة، إلا أنها وبنفس الوقت تقع في نطاق اللامعقول، فصحيح أن الناس لا يفهمون، إلا أنهم وبنفس الوقت يقرون بأهمية الخطاب ومعناه. الأمر سيءٌ أحياناً، إلى هذا الحد.
ختاماً، وكي أنهي كما بدأت، إن لغة الخطاب هي أساس التواصل، فكلما ابتعدت أو قربت من الناس، اصابتهم، وأثرت بهم، وفعَّلتهم، وكما قال الصادق النيهوم في كتابه "صوت الناس"، "إن لغة الناس هي أساس الناس، فإذا أصبح الناس خرساً لا يعود لأي شيءٍ قيمة، ما فائدة مكبرات الصوت، لمخلوقٍ لا يصدر صوتاً؟". فالخطاب ليس فقط أن نتلقى بل كذلك أن نجيب. وأختم بكلامٍ لفرانسواز ساغان الكاتبة الفرنسية: "كلمني أكثر،
خاطبني،
لابد أن يكون بيننا تواصل،
لا تقل كلاماً مبهماً،
فعقلي صغير، كورود الحدائق،
دع خطابك يسكنني".



#عبد_الرحمن_جاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة. ...
- مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
- مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ ...
- من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا ...
- ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا ...
- قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم ...
- مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل ...
- وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب ...
- واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب ...
- مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبد الرحمن جاسم - لغة الخطاب