أنور مكسيموس
الحوار المتمدن-العدد: 3432 - 2011 / 7 / 20 - 00:26
المحور:
الادب والفن
استيقظ همام في الصباح الباكر, ودون أن يغتسل, اخذ كسرة من الخبز مضغها وشرب معها كوبا من الشاي, وبينما هو يأكل, كانت سيدة قد أعدت له منديلا, وضعت فيه قطعة من الجبن القديم, ورغيف من دقيق الذرة وربطت المنديل, ثم بادرته قائلة:
-أنت تنام الليل كله "وتشخر", وأنا لم يغمض لي جفن!.
-لماذا؟!…سألها مستفسرا,بصوت غليظ أجش, وهو ينظر إليها بوجهه المتجهم.
-ولدك حجاج!…
-ماذا به؟…
-أريده أن يعمل معكم, في فيلا المفتش…
-أين يعمل؟!… في فيلا المفتش!…
ردد كلماتها وهو يضرب كفا بكف: حجاج يعمل معكم في فيلا المفتش…صرخت في وجهه بينما هو يردد كلماتها:
-نعم… يعمل معكم في فيلا المفتش…لما لا!…
-تذكر ما حدث منها من قبل, فأثارت حنقه ورفع يده كي يضربها, فهربت من أمامه, ثم كاد يلاحقها, لكنه توقف وهو ينظر إليها مغتاظا!. ثم تركها, وشق طريقه بين الطيور, أزاح المعزة من طريقه بعصاه, وعلق منديل طعامه في عصاه, ووضعها على كتفه, وسار محنى الظهر, حافي القدمين, وذقنه غير الحليقة…
فهو لم يعرف الحذاء, منذ وعى الدنيا من حوله. لم يذكر, انه ارتدى شئ في قدميه, منذ طفولته… وهل للصعايدة في تلك النواحي, طفولة؟!…
لكن!… الشيء الذي لا ينساه أبدا, هو تلك العمامة فوق رأسه, فقد لفها بطريقة عشوائية, دون أن يلبس طاقية, وذهب الى عمله.
قامت سيدة, تنظف البيت, وتطعم الطيور, وتقوم بباقي أعمال بيتها, وهى لا تنفك تفكر, وتحلم بان تضع قدم ابنها حجاج, للعمل في فيلا المفتش, لقد نبتت الفكرة في رأسها في تلك الليلة بعد زيارة بلال, وسيطرتها على الموقف, وسطوتها على كل من زوجها وبلال. لقد بدأ بداخلها سلم الطموح والأحلام والإصرار, ولن يقف أمامها شئ, إلا على أطلال بيتها, وأطلال فيلا المفتش!.
تذكرت ابنها حجاج, فذهبت من فورها, لتوقظه من نومه.
كان حجاج, يغط في نومه العميق, وكيف لا!…فطوال الليل تعيث في جسده, جحافل الناموس والبراغيث وكل حشرات الصعيد…
تأملته وقد غطت وجهه, سحابة كثيفة, من ذباب الصباح العنيد والشره, فوق انفه المليء بالمخاط, وفمه, وحتى عينيه المغمضتين!…
قامت تهش عنه الذباب, وتتذكر كيف كان طفلا مليحا… فهو ابيض اللون, وهذا وحده في صعيد مصر يكفي, ولا شئ آخر. وهذا ما جعل سيدة تخاف علي ولدها, فألبسته وهو صغير, الاحجبة وملابس الفتيات, وقد كانت تقصد ألا تمسح له مخاطه حتى لا تنظره العيون-أي تحسده كعادة أهل الصعيد- فيمرض ويتخبل…
وقد أضحى بياضه, وملابس الفتيات وهو صغير, ثم مخاطه المتدلي وهو يحاول إرجاعه الى أنفه وهو كبير, أشياء يتندر بها, رجال البلدة ونسائها, مع أبيه همام وأمه سيدة!.
أخيرا, استيقظ حجاج, بصعوبة بالغة, قبيل الظهيرة, صبى نحو الخامسة عشر أو السادسة عشر, ووجهه الأبيض, الذي لفحته شمس الصعيد الحارقة, شاحبا, واقرب الى الصفرة.
قام متراخيا, فلم يطلبه اليوم أحد للعمل.
وبرغم صغر سنه, فقد عمل في مجالات كثيرة!…عمل في فلاحة الأراضي, و أعمال الزراعة والحصاد والنقاوة…عمل في الترحيلة, والمحاجر, وصناعة الطوب اللبن وأعمال البناء!…
كان يرزق من عمله بقرش, بقرشين, أو بعض القمح أو ربطة قصب. وكان يجلس في المساء, بجوار منزله, ليبيع ما جاد عليه يومه, بعد أن تستبقى أمه ما تريد مما أتي به.
وضعت سيدة الإفطار للولد,والتفت "بالبردة" الصعيدي. وهى البردة, التى أعطتها لها زوجة بلال أبو سنة, والتي أرادت أن يعرف عنها أنها امرأة كريمة تساعد الفقراء. فهى-أي زوجة بلال- تعطى ما لم يعد ينفعها مطلقا, مثل هذه البردة, التى امتلأت بالثقوب, وقد زادت عليها سيدة, بكميات هائلة من الأتربة والبقع.
يضاف الى ذلك أن أم نحمده-زوجة بلال أبو سنة- تريد أن تحيا دور الاستعلاء, فهي تريد أن تشعر أنه لا زال يوجد الكثير جدا مما هو اقل منها وأدنى مرتبة بكثير.
انطلقت سيدة نحو بيت بلال أبو سنة, وما أن وصلت, طرقت الباب وهي تصيح, على غير عادتها, ففتحت لها نحمده.
قبلت أم نحمده كثيرا مظهرة الشوق والحب, وأخذت نفسا عميقا, وهدأت من نفسها وهي تجلس إلى الارض, بينما جلست أم نحمده على كنبة في مواجهة سيدة, تتسمع لها, وهى تنقل لها أخبار العالم حولها.
تصنعت سيدة خفة الدم, وهى تضع على نفسها, وزوجها همام, من الصفات القبيحة والرذيلة, ما يضحك أم نحمده!…
لم ينقطع حديث سيدة, حتى وهى منهمكة في تنظيف البيت, مما جعل أم نحمده تشتمها بدلال وهى تضحك!…
أنهت سيدة تنظيف المنزل, وذهبت لشراء ما طلبته زوجة بلال, كعادتها بين الحين والحين, عندما تضيق بحياتها داخل بيتها. وهى زيارة تستفيد منها آخر المطاف.
وما تفعله سيدة عند زوجة بلال, تفعله أم نحمده, عند زوجة عبد الرحمن بك المفتش, أو الباشا الصغير, كما يلقبه البعض من أهل البلد.
بعد أن أنهت سيدة عملها في البيت وخارجه, استأذنت في أدب واستكانة لتعود الى منزلها, وهى تلتف ببردتها, وتسأل أم نحمده إن كانت تريد شيئا آخر.
أخرتها زوجة بلال لتلف لها نحمده, ابنتها الكبرى, ما تبقى من أكل البارحة, مما أحضره بلال, من بيت المفتش, وبعض الملابس القديمة, مما أكل عليها الزمن وشرب, لها أو لزوجها وسألتها:
-هل ينقصك شئ آخر "يا بت" يا سيدة؟!.
تصنعت سيدة قناعتها بما أخذته والشرف الذي نالته بجلستها معها, ثم أكملت في مزيد من تصنع الاستكانة والانكسار: كنت أريد أن أطلب شيئا لابنى حجاج!…لكنى خجلة…
ردت أم نحمده وهى ترمقها بنظرة خبيثة, ومستفسرة: ماذا تريدين يا بنت يا سيدة, هل تطمعين في شئ آخر؟!…سوف تجدين جلبابا لبلال, أعطه "للواد" حجاج…خسارة في الزفت همام زوجك…هل تريدين شيئا آخر؟!…
لم ترفع سيدة نظرها نحو أم نحمده وهى تقول:
أنا اعلم كم يجلك بلال أفندي, ويعزك ولا يرفض لك طلبا…
قاطعتها أم نحمده نافذة الصبر: ماذا تريدين؟!…تكلمي!…
أجابتها: أريد, أريد…لكنى أخشى أن يغضب بلال أفندي…
ردت عليها زوجة بلال, آمرة, ونافذة الصبر: تكلمي!… ماذا تريدين؟!…
أحست سيدة بشغف أم نحمده, لتعرف ماذا تود أن تقول لها, فقالت وكأنها مرغمة على الإجابة:
أريدك "ياستى" أن تكلمي بلال أفندي, كي يقبل البك المفتش, أن يعمل حجاج بالتفتيش... يعمل أي شئ…الولد كبر وعاطل… يعمل أي عمل, وحجاج كبير ويستطيع أن يعمل في أي شئ, وهو يستطيع أن يخدم بلال أفندي في أي عمل يطلبه منه…
سكتت قليلا لتضيف: وبعد أن ينتهي من عمله يستطيع أن يساعد بلال أفندي فيما يحتاجه لأرضه…
سرحت أم نحمده فيما تقوله هذه الطماعة, ولكن لا بأس, فالولد ممكن فعلا أن يساعد بلال في مراعاة الأرض, وخدمتهم على وجه العموم, ويمكن أن تستخدم, أم نحمده هذه العبارة في إقناع زوجها, حتى لا تشيع هذه المرأة الطماعة أنه لا خاطر ولا قيمة لها عند زوجها. لقد عرفت سيدة كيف تصل الى عقل زوجة بلال, أم البنات!.
أنهت سيدة حديثها بكثير من الدعاء والرجاء, أكثر بكثير مما قالته, حتى ألجمتها أم نحمده وهى تقول لها: هيا انهضي … تتحدثين وفي لسانك مائة امرأة تتكلم. قالتها وهي تضحك ثم أردفت: مع السلامة …سوف أكلم لك بلال أفندي.
وكلمة الأفندي هذه, ألصقها أهالي تلك النواحي على بلال, تندرا عليه في غيبته, ونفاقا في حضرته, واقتنعت بها زوجته, رفعة لها. لكنها لا تجرؤ على النطق بها أمام زوجة عبد الرحمن بك.
انصرفت سيدة, وقد أحست بشيء من الأمل ونشوة الانتصار. فقد استطاعت أن تنتزع من زوجة بلال وعدا وهى لن تستطيع الفكاك منه. فهي أم البنات, وسيدة أم الولد. ومع ذلك عاملتها وتعاملت معها, بما أشبع غريزتها, من الرفعة والتميز, عند زوجها بلال, كأنها أم الأولاد, وليس البنات.
لقد أبهجتها وهي تقول لها يا "ستي", وكيف أن بلال أفندي, يعزها ويقدرها" كست الستات ". وبالطبع سوف تقاتل أم نحمده, دون أن تدري للوصول لهدف سيدة, زوجة همام الزرايبى.
وصلت أم حجاج الى بيتها, قبل أن يصل زوجها, وألقت ببردتها, وهى مستغرقة في التفكير, فيما سوف يأتي به الزمن وما سوف تعمله!.
أيقظها من شرودها, وأحلامها, دخول زوجها همام بوجهه الكشر, المليء بالتراب, ورائحته, التي تزكم الأنوف الصحيحة, والتي تشمها أيضا زوجته, ولكنها تعودت, على كل ذلك.
دون أن يلقى لها بالا, أو سلاما, ألقى قفته الخوص, التي يحمل بداخلها, بعض الأغصان والفروع الجافة, كي تستخدمها سيدة "وقيد" للفرن, وتمدد على الأرض الرطبة, التي رشرشتها سيدة ببقايا ماء غسيل الملابس والأواني, مستندا على القفة بذراعه.
ظلت سيدة, تتفحصه بعض الوقت, دون أن ينتبه إليها, ثم بادرته قائلة: هل أضع لك الأكل الآن؟.
أجابها بعدم اكتراث: ليس الآن…أعملي لي كوبا من الشاي!…
قامت سيدة, أعدت كوبين من الشاي, وضعت لزوجها كوبا, وأمسكت بين يديها الكوب الآخر.
وسألته وهي متنمرة: ماذا ستفعل لابنك حجاج؟…
- ما الذي تريدين قوله؟.
- صرخت في وجهه: أريده أن يعمل معك في التفتيش, في الفيلا, في أعمال الأراضي…أي شئ يكون له دخل ثابت…
- صاح بها وهو يطلق سيلا من الشتائم: يا بنت ))…صدعت لي رأسي يا بنت( )…أنت تعلمين أنني أعمل اليوم ويمكن أن يرفتني التفتيش غدا…من أكون!... حتى أجعل المحروس ابنك يعمل في التفتيش؟!..
سكت قليلا, ريثما يلتقط أنفاسه, ويبتلع الزبد الساقط على جانبي فيه, ثم استكمل قائلا: ماذا جرى لك يا بنت( )؟!…ما سر اهتمامك المفاجئ بابنك العويل هذا؟!…امشي الآن بعيدا عن وجهي…
قامت سيدة من فورها, دون أن تضيف شيئا, فهي تعلم متى تتوقف, حتى لا تسوء حالها, وتنال ما لا تحمد عقباه!.
قامت ووضعت له عشاؤه, ثم جلست قبالته, وهي مستغرقة في التفكير…
هل تستطيع أم نحمده, بعد أن بجلتها, ورفعت من مقامها, وأبهجتها, أن تقنع زوجها بلال بذلك؟!. لو حدث ذلك, لتولت ابنها بالنصيحة, والإرشاد, حتى يعلو مقامه. سوف تجعله كيف يتقرب الى البك المفتش, ويكتسب ثقته, فيثبته في العمل, وربما يصبح خادمه الذي يلازمه, ويزيح بلال من طريقه.
كان همام كلما سب زوجته, أو شتمها, أو ضربها, يختلس إليها النظر, ليرى تأثير ما فعله بها, هل انكسرت أم لا زالت في حاجة الى جرعة أخرى؟!.
وبينما سيدة مستغرقة في أفكارها وأحلامها, كان همام يراقبها ليرى إن كان الموقف يحتاج المزيد من الشدة والعنف, أم لا. حيث أنه من الواجب على الرجل-حتى إذا لم يوجد حدث ما يستوجب العقاب-أن يفتعل الحدث, ويهتاج ويموج, كي تبقى المرأة دائما, في حدود ما يسمح به لها الرجل.
فهن مثل الحيوانات, شهوانيات, ينسين بسرعة, ويخرجن عن الخط المرسوم لهن, إذا تركن بلا شدة, فترة من الزمن, ولذا يجب تقويمهن بين الحين والحين!.
لكن هذه المرة, كان المشهد مركبا, فهو قد شتمها وسبها, لاهتمامها الملح بعمل ولدها حجاج, وبالذات في تفتيش الباشا, الذي يعمل هو به, موسميا!.
وكان من حسن حظ همام, وحظ الكثيرين, أن التفتيش قد ازدهر جدا, في عهد عبد الرحمن بك رئيس تفتيش الباشا, وازدادت حجم أعمال التفتيش, وعمل الكثيرون من أهل البلدة, الذين لم يكن لهم أي عمل! وكان همام الزرايبى واحد من هؤلاء بالصدفة البحتة!.
فكيف بعد هذه الفترة من عمله, تأتي زوجته وتطلب منه أن يعمل ابنها وكأنه-أي همام- شيئا مهما في تفتيش الباشا, ويستطيع أن يشغل الولد, بمجرد فكرة طرأت على رأسها الفارغ!.
أدار همام جسده, حتى لا يبقى أمامها وجها لوجه, ولكنه يستطيع أن يرى زوجته,وهي مستغرقة في التفكير, من زاوية جانبيه, ورأسه مطأطأ لأسفل.
التفتت إليه سيدة, ونبهته بلهجة تنم عن تأدية ما عليها, حتى النهاية:
-هل تريد شيئا آخر؟ أم تدعني أذهب لأنام!.
-(غوري, اخمدي)!…قالها, دون أن ينظر إليها, فهو يقصد ألا يعيرها أدنى اهتمام.
نظرت سيدة بانكسار نحو الأرض, وهي تكتم غيظها, وتعطي نفسها فرصة, كي تهدأ وتفكر, وتستكمل حديثها.
رفعت رأسها, بعد فتر من الصمت, وقالت: ماذا يغضبك, في أنني أريد وظيفة ثابتة لابنك؟…ما الذي يغضبك في أنني أريد لولدك أن يصبح مثل حسيني أو عبد القادر الكلاف…ثم ضحكت وقالت: أو حتى بلال أبو سنة…
-نعم, نعم!…وربما عبد الرحمن بك…
قالها متعجبا, وافتعل ضحكة, وهو يقول: جنت المرأة…جنت المرأة…
أقسمت سيدة, بأنها في كامل قواها العقلية, ثم أردفت قائلة:
ألم يحن الوقت, ليكون لنا قيراطين أو ثلاثة, نزرعها ونحيا في بحبوحة من العيش, مثل بقية خلق الله, الذين انعم الله عليهم…
ألم تتعب من حمل القفة وشغل الفاعل؟!…قروشك على قروش حجاج, ونوفر كل شهر, ثم نشتري قطعة أرض, تعمل فيها أنت وابنك حجاج…
كان همام ينصت إليها وقد وضع, وهو في رقدته هذه, ساقا فوق الأخرى وهو ينظر أمامه.
استكملت سيدة حديثها أو خطبتها وهي تمس وتر الشقاء والذل في حياته: ألا تطمع في أكلة شهية, وعيشة مريحة بلا خوف من الغد؟. ثم ابتسمت وهي تقول:
ألا تريد أن أرتدي لك مثل بنات البندر؟… أضع لك الجير والأحمر والأخضر…مثل ما يفعلنه في السينما وأهل البندر...
هل تذكر عندما كان الباشا يعيد على عماله ببضعة قروش, وتأخذنا الى السينما؟…
إنني بحس الأم أرى أن حجاج, إبنك هذا, سوف يصبح حاجة كبيرة قوي, وسوف يعوضنا الله به خيرا كثيرا!…
أغمض همام عينيه وهو لا يزال يتسمع لحديثها, وقد وجدت كلماتها رواجا في داخله. لقد استقرت حياته على هذا الوضع, ولكن لا بأس من أن تحلم زوجته, وتدغدغ أحاسيسه بمثل هذه الأماني!…
أردفت سيدة: الموضوع كله في يد بلال, كلب المفتش…ألا نتحمله قليلا لنصل لما نريد…أنا أعلم أنه راجل ناقص ورذل…ولكن لكي نصل لما نريد, علينا أن نضحك عليه. هو يظن أنه أذكى منا…وعلى رأي المثل, إن كان لك حاجة عند الكلب, قل له يا سيدي…
أكملت سيدة حديثها وهي تزيد من إطرائها لزوجها قائلة: أنت رجل البيت, تظلل علينا وتسترنا…إن حذائك برقبة بلال هذا…ثم ضحكت وهي تمازحه: ولو أنى لم أرك ترتدي حذاءا منذ تزوجنا…
رد همام الممازحة, باستهزاء وسخرية ولكن دون انفعال, سوى أنه فتح عينيه قليلا, ورمقها بنظرة خبيثة, وقال: نعم, نعم…أنا اعلم أن أباك, ولد وفي قدميه حذاء, ويرتدي بذلة وطربوش…بنت القنصل…
-نعم, بنت القنصل !… ألست عندك أفضل من مائة بنت قنصل؟!…أأسير لك عارية الأذرع والسيقان, حتى اصبح بنت ذوات, ألم تراهم, ماذا يفعلون في السينما؟!…
أعادت سيدة همام لاطمئنانه, وهو ينظر الى ما هو عليه. نعم فقراء, ويعيشون في فاقة مرة, ولكنهم لا يرتدون تلك الملابس التي يرتديها الأغنياء, التي تظهر الأذرع والظهور والسيقان, تترك الفتاه, حضن هذا, وتقبل ذاك, طماعين وجشعين وأصحاب دسائس, تتزوج الفتاه وتخون. أليس هذا ما صورته وعبرت عنه الأفلام المصرية, وعلمته للمصريين, أليس هذا ما كتبت عنه أقلام الصحفيين والكتاب, حتى قر في يقينهم, أن الغنى والتحضر, هو السقوط في الرزيلة, وأن الفقر نعمة ,...
دار هذا في خيال همام كما يدور في عقول معظم أهل البلدة من الفقراء. ربما هذا ما يحدث في بيت البك المفتش, أو بيت الباشا…ولما ربما؟…هذا بالتأكيد ما يحدث, بالرغم من أنه لم يدخل سوى حظائر البهائم وعشش الطيور لتنظيفها…
ألم يرى, هو وبقية العاملين, السيدة الصغيرة بملابسها القصيرة والسيدة الكبيرة وهي تعبر أمامهم بملابسها الضيقة, فتلتقط عيونهم هذه المناظر, ويختزنونها, حتى إذا ما ذهبوا الى منازلهم, أطلقوا العنان لخيالهم, وهم يستعيدون تلك الصور, دون خوف أو رقيب من أحد, قد يضبطهم وهم على حالهم هذه.
هذا ولا فرق بين رجل كبير وشيخ طاعن في السن, فكل منهم, يتخيل أنه يستطيع الزواج مرة أخرى, حتى من صبية في التاسعة أو العاشرة ما دام يستطيع, الصرف عليها, ولن يخاف عليها من فارق السن, فعادات وتقاليد البلدة, سوف تقوض, أية أحلام أو طموحات, أو أي عصيان أو خروج, لأي منهن!.
النبل والأخلاق, والشهامة, والكفاح والعفة والقناعة والكرامة, والفحولة...هذا ما تخيلوه من صفات حميدة يتحلون بها, ويذكرونها في أحاديثهم, وقصصهم وهم يتحدثون عن أنفسهم أولا, وعن الآخرين قبالتهم, حتى لا ينقضوا بعضهم البعض, ويستعرضوا نقائصهم. والمرأة طوع زوجها, حتى وان شتمها وسبها وضربها,…و… هذا كله وغيره كثير مما قر في عقول ويقين هؤلاء الفقراء. ميزات يتحلون بها, والنقائص "يتحلى" بها غيرهم.
انتبه همام فجأة, من تصوراته وخيالاته, كمن لسعته عقرب, وازدادت نظراته شراسة عندما سمع زوجته وهي تقول له: سوف تدعو بلال للعشاء…
قاطعها, وعاد الى ما هو عليه: عشاء؟!…عشاء يا بنت (…)…
صمتت سيدة حتى أنهى سبابه, وشتائمه, ثم أردفت قائلة: هل انتهيت من سبابك وشتائمك؟…هل نسيت في التو واللحظة, إننا نقول, لابد أن نتحمله حتى نصل الى ما نريد؟… ألم أقل لك حالا, لو كان لك حاجة عند الكلب, قل له يا سيدي؟!…خذ كلامي الى النهاية وقرر ما تريد!…
تركته سيدة حتى عاد الى هدوءه, ثم أكملت: سوف ندعوه الى العشاء, ثم نكلمه في الموضوع, وأنا واثقة من أنه سوف يفعل ما بوسعه, وأن حجاج سوف يعمل معكم…وما سيحصل عليه حجاج من نقود, سوف يكون بين يديك…ماذا قلت؟.
عرفت سيدة كيف تصل به الى ما تريد. فقد راقت له كثيرا, مقولتهاعن النقود الإضافية التي سوف تدخل جيبه, لكنه لم يرد عليها أول مرة, حتى تعيد طلبها مرة أخرى فيتفضل عليها بالموافقة, وفي نفس الوقت يستطيع إيلامها وإوجاعها وتحميلها المسؤلية إذا ما حدث شئ, ولم يكن في الحسبان!.
صمتت قليلا ثم أعادت السؤال: ما رأيك؟!.
سكت طويلا وكأنه يزن الأمور, ويحسب التكلفة والعواقب, ثم قال مظهرا تفضله عليها: افعلي ما تريدين…امرأة "عويله"!...قالها كانه يساير عبيط أو مخبول على هواه.
ضحكت سيدة وهى تقول: عويله, عويله…لا يهم, ولكنك سوف ترى, ماذا سوف تفعل هذه المرأة العويلة!.
أردفت سيدة كأنها تذكرت فجأة: لا تنسى أن تحضر لنا ذكر بط, ولن يمانع بلال…
شردت سيدة طويلا في أحلامها وخططها قبل أن تخلد الى النوم. وشرد هو في أفكاره, واخيرا قال في داخله: ربما تكون على حق, وربما يصدق حدسها, ويصبح في يده راتبين لا راتب واحد.
#أنور_مكسيموس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟