|
نظرية الالهام او العبقرية (افلاطون)
عمار الجنابي
(Amaar Abed Salman)
الحوار المتمدن-العدد: 3431 - 2011 / 7 / 19 - 01:14
المحور:
الادب والفن
قبل أن نتطرق لأصول نظرية الإلهام أو العبقرية عند أفلاطون لابد أن نشير إلى ماهيتها و مفهومها ، فهذه النظرية "تفسر ميلاد العمل الفني ، أو عملية الخلق الفني بإرجاعها إلى نوع من الوحي أو الإلهام ، فالفنان يستلهم عمله الفني لا من عقل واع أو شعور ظاهر أو مجتمع معين أو تاريخ فن سابق أو حتى لا شعور دفين ، و إنما هو يستلهم هذا من قوة إلهية عليا، أو من وحي سماوي خارق و تجمع دراسات كثيرة على أن نظرية الإلهام أو العبقرية تؤكد على فكرة الأصالة الذاتية للفنان ، فمعظم الفنانين يرجعون فنهم إلى أنه ثمرة لقبس من الإلهام ، و هدفهم من ذلك إثبات أصالة ذلك الفنان و بعدهم عن التقليد و محاكاة أعمال غيرهم ، فهذه النظرية إذن تؤكد على أصالة الفنان أصالة كلية ، و كأنما هو مخلوق إلهي هبط من السماء و مادام فنه غير متأثر بفن إنسان آخر ، و غير ناتج عن مجتمع أو تاريخ، و غير خاضع لقوانين ، و غير مرتبط بزمان أو مكان، فهو مخلوق من العدم، و هي هبة إلهية تحدث في ذهن الفنان فجأة دون سابق إنذار، مما يصعب تفسيرها أو تحديد خصائصها أو مقارنتها لأنها إلهية، و في هذا كله يكمن سر الأصالة. (1) ونتيجة لذلك كله توصل أنصار نظرية الإلهام أو العبقرية إلى خلاصة مفادها " أن الإبداع الفني يحدث فجأة دون تدخل من عقل أو إرادة ، فالفنان يشرق عليه الإلهام في ومضة، و هذه الومضة لا تكترث بفكر أو إرادة ." و إذا ما تعمقنا قليلا فإننا سنجد أصولا لنظرية الإلهام مند القدم عند الإغريق، و من بعدهم الرومان، فقد استقروا على وجود آلهة تتخصص بالفنون، و الأسطورة اليونانية تروي أنه كان للإله) زيوس( القابع على جبل الأولمب –و هو كبير الألهة- تسع بنات، و تسميتهن ربات الفنون، و كل ربه من هذه الربات تختص بفن، فكان the muses الأسطورة للشعر ربة، و للخطابة ربة، و كذلك الدراما و الكوميديا و هكذا، و كان أفلاطون وتلاميذه في الأكاديمية يحتفلون كل سنة بعيد هذه الربات ، فيقومون بطقوس شبه دينية موجهة إليها (2) إن إقرار الإغريق بوجود آلهة خاصة بالفنون كالشعر دفعهم إلى الاعتقاد بأنه الإله يهب للشاعر القدرة على قول الشعر و ذلك بإلهامه و الإيحاء إليه، كما اعتقدوا أيضا أن الآلهة إذا رضيت عن الشاعر أجاد و أبدع، و إذا حدث العكس شعر بالعجز و توقف، فيجعل من التوسل إليها و استعطافها وسيلة للاستعانة بها ، ومن الأدلة على ذلك افتتاح الإلياذة ب:" غني أيتها الآلهة غضب أخيل........" و الأوديسة ب: " أي ربة الشعر حدثيني عن الرجل الذي . رأى عادات أناس كثيرين و مدائنهم بعد أن سقطت أسوار طروادة" (3) و قد تشعر الموهبة و حالات الوحي عند الشاعر بالتميز، و بالمقابل قد تدفع ببعض المفكرين إلى اتخاذها ذريعة للحط من مترلته (أي مترلة الشاعر)، و هذا ما نستشعره عند أفلاطون عندما جرد الشعراء من الإرادة والعلم و التفكير منتهيا إلى أنهم يلهمون إلى قول ما تدفعهم ربات الشعر على قوله ، أي هم أناس موهوبون خصتهم الآلهة بنعمة الوحي و الإلهام، و هم اذا اتضح أن أفلاطون هو أول من أرسى أصول نظرية الإلهام أو العبقرية مقيما الحجج و مستندا إلى الأدلة، والنص التالي خير تعبير عن تلك النظرية و فيه يقول: " إن براعتك في الكلام عن هوميروس لا تعزى إلى فن كما قلت لك منذ لحظة، لكنها تأتيك من قوة إلهية تحركك، قوة كالتي في الحجر الذي سماه يوربيس)مغناطيس ( و سماه الآخر حجرا هيراكليا ...... و بنفس هذه تلهم ربة الشعر نفسها بعض الناس الذين يلهمون بدورهم غيرهم، و بذا تتصل الحلقات لأن شعراء الملاحم الممتازين جميعا لا ينطقون بكل شعرهم الغنائي ....لأن الشاعر كائن ذو جناحين لا يمكن أن يبتكر قبل أن يلهم فيفقد صوابه و عقله، و ما دام الإنسان يحتفظ بعقله فإنه لا يستطيع أن ينظم الشعر أو أن يتنبأ بالغيب، و مادام الشعراء لا ينظمون أو ينشدون القصائد العديدة الجميلة، عن فن ولكن عن موهبة إلهية كما تفعل أنت عند الكلام عن شعر هوميروس، لذلك فكل منهم لا يستطيع إلا إتقان ما تلهمه إياه ربة الشعر .....إنهم لا ينطقون بهذه الأشعار عن فن و لكن عن وحي إلهي.... إن هذا الشعر الجميل ليس من صنع الإنسان و لا من نظم البشر، لكنه سماوي من صنع الآلهة، و ما الشعراء إلا مترجمون عن الآلهة، كل عن الإله الذي يحل فيه، و لإثبات دلك تعمد الإله أن ينطق أتفه الشعراء بأروع الشعر الغنائي، ألا ترى الصدق فيما أقول يا أيون(4) فالشعر إذن عند أفلاطون يتم بملحمة إلهامية أشبه بالجنون أو الهوس أو المس الإلهي، و معنى ذلك أنه فعل إلهي غير إنساني لا صلة له بالواقع، و بالتالي تكون العلاقة بين الشاعر و ربات الشعر علاقة سلبية هي علاقة تلقي فقط، أي أنه يتلقى الشعر من قوة خارجية. ويشبه أفلاطون الشاعر بالنحل، فيصفه بأنه شيء خفيف و مجنح ومقدس، و أنه ليس أهل لابتكار جميل إلا في الطريق الذي دفعته فيه آلهة الشعر، و يؤكد أيضا أن الشعراء ليسوا هم الذين يقولون الأشياء ذات القيمة الكبيرة، و إنما هو الإله نفسه يسمعنا صوته بواسطتهم، و لا يتردد في الجزم بأنه ليس في الشعر الجميل شيء إنساني، بل هو إلهي أي من إبداع الآلهة، وإن الشعراء ليسوا سوى وسطاء فكرة آتيه من تلك الآلهة. (5) و يستند في أقواله هذه إلى ما أعلنه بعض الشعراء من أن أروع و أجود إبداعهم ليس سوى هدية من آلهة الفنون، و يدل هذا التأكيد المتواصل على أن أفلاطون كان يؤمن بنظريته إيمانا لا ريب فيه. و يرى في محاورته " إيون أو عن الإلياذة " أن شارح الشعر و ناقده مثل الشاعر لا يصدر في عمله عن عقل إنما يصدر عن ضرب من الإلهام، بحيث يتأثر و يحكي تأثره غير معتمد على منطق أو عقل. ،ان أفلاطون يعد أول فيلسوف أو مفكر تعرض للظاهرة الجمالية أو للفن، و كما توضح سابقا، فإن الفن أو الشعر ضرب من الإلهام صادر من ربات الفنون، و ليست هذه الربات في محاورات أفلاطون سوى إشارات أسطورية أو رمزية، و يبقى مصدر هذا الإلهام من الناحية الفلسفية أو الميتافيزيقية في الجمال بالذات " فربات الفنون الأسطوريات هن رموز تعبر عن فكرة الجمال بالذات، فمصدر الفن في نهاية الأمر هو المثال المعقول للجمال، تلك الوحدة المتعالية عن الحس، و التي تتربع في عالم وراء عالمنا، هو العالم المعقول، كأنما الأثر الفني جماله من مشاركته في مثال الجمال بالذات، و قيمته تتحدد بمقدار . تحقق هذه المشاركة و شمولها و عمقها . على هذا النحو فإن الفنان يصدر في فنه الجميل عن مصدر موضوعي معقول لا عن ذاتيته و فرديته. و ما يلاحظ على نظرية الإلهام أو العبقرية اتها أهملت و صف اللحظات التي تسبق الإلهام أو تليه، و اقتصرت على وصف لحظات الإلهام التي تفاجئ الفنان وصفا أسطوريا خرافيا. و تبقى الإشارة إلى أن الشاعر الحق عند أفلاطون هو الذي يستسلم لنشوة الوحي و الإلهام، و في هذا الشأن يقول: "غير أن هناك نوعا ثالثا من الجذب والإلهام مصدره ربات الشعر، إن صادفت نفسا طاهرة رقيقة أيقظها فاستسلمت لنوبات تلهمها بقصائد و شعر تحيي به العديد من بطولات الأقدمين، و تقدمها ثقافة يهتدي بها أبناء المستقبل، لكن من يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الإلهام الصادر عن ربات الشعر ظنا منه أن مهارته الإنسانية كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعرا، فلا شك أن مصيره الفشل، ذلك لأن شعر المهارة من الناس سرعان ما يخفت إزاء شعر الملهمين(6) إن استقراء آراء أفلاطون عن مراتب الشعراء لا ييسر فهم مواقفه، فتارة يجعل الملهمين من الكائنات المقدسة، و تارة يجعلهم في المرتبة السادسة بين الصناع و العرافين بعد أن قدم . عليهم الفلاسفة و الملوك والسياسيين و الرياضيين. و هكذا يمكن أن نستنتج من هذا التنويع في المراتب أن أفلاطون يميز الشاعر الملهم من الشاعر المحاكي، فيحبذ الملهم، و يزدري المحاكي لكونه يشبه التصوير السلبي للظلال و ليس للمثل، ويفهم من هذا أ نه يجعل ثلاث مستويات لوجود الشيء و تشكيله، أي أن حملته على الشعراء اقترنت بنظريته في المثل التي ترى في ولوع الشاعر بالمحاكاة ما يجعله أدنى مرتبة من الصانع. و يبدو أن الغموض له أسباب حملته على الشعر، فتارة يبعد الشاعر عن عالم المثل، ويجعل الصانع واسطة بينه و بين المثل، وتارة أخرى يعتبره ملهما تعتريه نشوة الإلهام الصادرة عن ربات الشعر، لكن كيف يبعده بعد ذلك عن عالم الإلهام و يقرر أنه يستلهم أنموذجه من الصانع؟ و لعل اعتقاده بأن الشعر محاكاة لظاهر الشيء المحسوس دون جوهره، و انصرافه عن الحقيقة من الأسباب الرئيسية لهذه الحملة، إضافة إلى خلطه بين الحقيقة الفلسفية و الحقيقة الشعرية، إلا أنه على الرغم من هجومه على الشعر، "فقد كان أقرب الفلاسفة إلى روحه، حتى لقد قيل إنه كان شاعرا تجريديا يتغنى بالماهيات، على أننا إذا لاحظنا أنه عندما حمل على الشعر ذي الطابع الحسي الظاهري الزاخر بالصور المتعددة الألوان أدركنا أن حملته تنطوي في حقيقتها على تمجيد خفي للشعر الروحي الذي يعلو على الظواهر و ينشد الحقيقة دون أن . يقتصر على محاكاة مظاهر جزئية بعيدا عن روح الإبداع(7) و من النقاد من ذهب إلى الاعتقاد بأن أثر العامل التربوي الثقافي كان من أسباب حملة أفلاطون على الشعراء، فهو رفض أن يدرس الأطفال في جمهوريته الفاضلة القصص الكاذبة الموجودة في الشعر، و التي لا تصور الحقيقة و لا تدعو إلى الفضيلة، لأنها كانت تخشى تأثرهم بما يعرض لهم من شعر يصور الآلهة و الأبطال تصويرا مشوها من خلال صراعاهم و أحقادهم، و يشعل نار الأهواء و العواطف، فهذا التصوير المشوه يراه أفلاطون أكبر خطإ للشاعر و مثال ذلك شعر هوميروس الذي رفضه بقوله:" يجب ألا تعطى الفرصة في المدينة لشعر هوميروس الذي يصور كل المعارك التي تدور بين الآلهة، بل يجب أن تبدل كل الإمكانيات حتى يقدم أولا للشباب القصص التي تهدف إلى خدمة الفضيلة(8) فالشعر إذن بالنسبة لأفلاطون لا يوافق الفضيلة، فالفضيلة عنده أهم من الشعر، و الفنان عنده مسؤول مسؤولية اجتماعية عن نشأة الأفراد في الجمهورية على أساس من الفضيلة التي يصورها من خلال قصص الأبطال و الآلهة في سلوكهم الحميد.
المصادر
1-ينظر"علم الجمال-قضايا تاريخية و معاصرة" د. وفاء محمد إبراهيم –ص 23 2-جماليات الفن-المناهج و المذاهب والنظريات " د. علي عبد المعطي محمد –ص72 3-الإبداع الفني و تذوق الفنون الجميلة" د.علي عبد المعطي محمد-ص57 4- المصدر نفسه –ص59 5- محاورة أيون أو عن الإلياذة "- أفلاطون –ص37 6- مقدمة في النقد الأدبي" - د . علي جواد الطاهر – ص 30 7- النقد المسرحي عند اليونان " د . عطية عامر – ص80 8- فايدروس " أفلاطون – ترجمة : أميرة حلمي مطر –ص
#عمار_الجنابي (هاشتاغ)
Amaar_Abed_Salman#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرية الأجناس الأدبية theory of literary genres
-
عناصر البناء الدرامي
-
التعبيرية (Expressionism) في الادب المسرحي
-
مفهوم الزمن في الدراما
-
نظرية الانعكاس في الادب والفن
-
ارسطو والشعر
-
التطهير (catharsis) والسايكودراما
-
الشعر والاخلاق في الجمهورية الافلاطونية
-
الخرافة (myth)
-
العلامة والسيرورة السيميائية
-
علم المثيولوجيا(الاسطورة)
-
المعنى الجمالي للوجود (نيتشه)
-
نظرية المثل عند افلاطون
-
وظيفة الشعر عند الفارابي
-
التراجيديا والكوميديا (tragedy-comedy)
-
المحاكاة imitation
-
الدكتورة وعلامة الكلبة النائمه
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|