|
الشعر في مواجهة الله
منى كريم
الحوار المتمدن-العدد: 1021 - 2004 / 11 / 18 - 11:02
المحور:
الادب والفن
إن أي حديث عن الله يواجه عقبات، حيث نصل إلى نقطة صعبة ومستعصية في تحديد ماهية الله وصفاته والرموز المتمثلة به. لقد رصد التاريخ الإنساني أول لحظة عبادة الإنسان للإله حين بدأ الرجل و المرأة يشعران بأنهم بشر . سأبتعد عن منطلق تحديد: “من” هو الله ؟ لأن هنالك من الكتب ما يبحث في هذا الصدد. ما يتم التسليط الضوء عليه هنا هو: كينونة الله في الشعر، و أركز على تجربة الشعر العربي الحديث . النقطة تنطلق من المتصوفة و تمر بعدة مراحل، البداية هنا مع تخيّل عالم سماوي أكبر يتسع أكثر من الواقع، يقول الفرنسي لويس ماسيغون: "الدعوة الصوفية كقاعدة هي نتيجة تمرد داخلي للوجدان على المظالم، و رغبة عارمة بتطهر داخلي للعثور على الله بأي ثمن". لقد تعامل الصوفيون المعروفون باسم " المخمورين " مع الله باسم العاشق (مثال : البسطامي) وكما فعلت أيضا رابعة العدوية والحلاج وغيرهم على خلاف طبقة أخرى من المتصوفة الذين اختاروا قدراً أقلّ من الروحانية. إن هؤلاء شعروا بضرورة تذوق اللوعة للاقتراب من تصور الله الشخصي، ومن نواته. حاول الحلاج الاقتراب من الله عبر التماهي مع صفاته ، الشعور به يتلبسه بكل نشوة : " أنا الحق " ، و هو ما تلاقى مع المسيح حين قال : " أنا الطريق و الحق والحياة " . لقد حاول الحلاج التدليل على وجود الله في العمق ، على أن هذا العشق الإلهي الذي يتلبسه ما هو إلا تمثيل للإنسان الذي يعتبر جزءاً من الله كما يؤمن المسيح في فكرة خلق آدم على صورته، لكن الحلاج يرى في العشق الخالص صورة الإنسان الإله: أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته و إذا أبصرته أبصرتنا
أو في قوله : ما رأيت شيئاً إلا ورأيتُ الله فيه.
هكذا كانت علاقة العشق بين شعر المتصوفة والله ، حيث من لم يكن جاذبه الله لم يصل إلى الله على حد تعبير النفري. أما في تجربة الشعر العربي الحديث فكانت هنالك أساسات تكوين لهذا التعاطي مع الله شعراُ ، و انقسمت هذه التجربة إلى تيارين: التيار الأكثر قدماً << و هو المتأثر بأيدلوجيا المجتمع و أفكارها حول الدين، تلك الأفكار التي تقودها المؤسسة الدينية و كهنتها. لقد كان المسيطر في هذه التجربة الخوف الذي هو أول أمهات الآلهة - كما قال لوكريشس- ، الخوف المسمى بالخشية كوجه ألطف للعلاقة بين الإنسان و الله . التيار الحديث << و هو الناشئ مع خروج الحركات اليسارية في الدول العربية ، و قد اعتمد بشكل كبير على كسر التابوات ، بعضه يمارس التهكم و المحاسبة لـذات الله ، و بعضه الآخر يتعامل مع الله باعتباره كينونة مخلوقة ، بمعنى الخروج عن إطار العلاقة المقدسة والتحدث مع الله باسمه باعتباره آخر عادياً وغير مختلف . ما أريده هنا هو استعراض بعض ما وصل إليه الشعر في حديثه مع الله في التجارب الحديثة ، التجارب التي تلت تجربة محمد الماغوط و نزيه أبو عفش ، لقد تأثرت التجربة الشعرية العربية الحديثة بشكل كبير على ما جلبته التجارب اليسارية من الأدب الآخر ( خاصة التجربة الروسية ) و هي غالبا ما حاولت إثبات خرافة الله ، و في الجانب الآخر و هو الجانب الأكثر أهمية و تماسكاً : التجربة السريالية . لقد كانت التجربة السريالية بمر التاريخ الحديث الأكثر بحثاً و تمحيصاً في فكرة الله، إنهم يرونها فكرة خرافية معيقة لهم و لاكتشاف الإنسان الأصلي و الحقيقي فيهم ، الإنسان الذي لم تشوهه وتقيده المؤسسة الدينية، و كان لذلك أن يخلق السريالي مفهوماً آخر للشعر، الشعر الذي يبحث عن نتيجة ما، كالسحر و الخيمياء والتشكيل و غيرها من مجالات حاول السريالي استخدامها للتوصل إلى ما يريده . من هنا نرى كيف يتعامل الشعر السريالي مع الله ، إنه يجده شيئاً قذراً، و سيئاً جداً، و قد درج الشاعر السريالي على تصويره بأقبح المشاهد، مثل ما قاله أرتو في ندائه الأخير لكي ننتهي من قضاء الله : " هل الله كائن ؟ إن كان فخـراء ، و إن ليس ، فليس "
أو ما قاله لوتريامون : " . . . ذات يوم ، اذاً، و قد تعبت من أن أتعقب بقدمي درب الرحلة الأرضية الوعر ، و أن أمضي و أنا كرجل سكران ، عبر دواميس الحياة المظلمة ، رفعت ببطء عيني السوداوين ، و قد أحدقت بهما دائرة كبيرة مزرقة ، نحو تجويف القبة الزرقاء ، و تجرأت على أن أخرق ، أنا الشاب اليافع ، أسرار السماء حين لم أعثر على ما كنت أبحث عنه ، رفعت جفني المرتاع إلى أعلى فأعلى إلى أن لمحت عرشا ، مكونا من غائط بشري و ذهب ، يتربع عليه ، بكبرياء أبله ، و جسده مغطى بكفن مصنوع من شراشف مستشفى غير مغسولة ، ذاك الذي يسمي نفسه الـ الله ! كان يمسك بيده جذعا عفنا لرجل ميت ، و ينقله ، بالتناوب ، من العينين إلى الأنف إلى الفم ، و حين يصل إلى الفم ، يمكنكم التنبؤ بما سيفعله به … " *
الشعر إذن في التجربة السريالية هو نقيض الدين كما عبر بنجاما بيريه ، في إحدى رسائله إلى أندريه بروتون .
و قريباً من التجربة السريالية أصل لإحدى التجارب العربية الحديثة ، ألا و هي تجربة صلاح حسن و المتمثلة بقصيدة حديثة له : " بريد الكتروني إلى الله " .
نص قصيدة " بريد إلكتروني إلى الله " – الشاعر العراقي صلاح حسن
عزيزي الله لست مضطرا لمخاطبتك على طريقة محمد الماغوط ولا بطريقة فاضل العزاوي فلدي إميل الآن . يمكنك أن تجيب على رسائلي بالضغط على ( Replay ) لدي أسئلة كثيرة أنت مجبر للإجابة عليها . لقد بلغت الخامسة والأربعين وأظن أنني عاقل بما فيه الكفاية كي أسألك عن واجباتك . ما الذي تفعله طوال اليوم ؟ هل تقرأ الصحف ؟ هل تستمع إلى الإذاعات ؟ ألم تسمع في خطب الجمعة شيئا عن العراق ؟ هذا البلد الذي رفع اسمك عاليا ... لماذا لا تحرك ساكنا ؟ هل أنت ميت ؟ وما نراه سوى تمثالك ؟ أريد أن اعرف فقط فقد بلغت الخامسة والأربعين وما زلت جاهلا وظيفتك في حياتي . لديك كل شيء هنا : الفاكس والتلفون والإيميل .. أرجو أن تقدم لي شرحا مفصلا فليس لدي وقت أضيعه مع أشخاص مثلك .
هذه القصيدة تنتمي إلى قصيدة النثر الخارجة عن المألوف و المتداول ، لكنها بنفس الوقت ذات عمق واضح و رؤية بسيطة . لربما يحاول الشاعر في قصيدته هذه استغلال عولمة الأشياء و التي مازالت غريبة في دخولها على الأدب ، بذلك يكون قد تناسخ صنف أدبي جديد . لقد كلّم موسى الله فوق الجبل ، و كلمه عيسى وهو في طريقه إلى أورشليم ، و كلمه محمد في قلبه ، كما كلمه الحلاج بكينونته الكاملة . الأحاديث البسيطة مع الله ، و التي تبدو كمسامرات بشرية درجنا عليها سابقا ً ، كما فعل محمد الماغوط ، و كما بحث هذا الشاعر نفسه في مسألة : أين تضيع دعواتنا ، هل هنالك من يسرقها في السماء السادسة ؟ .. و كذلك نزيه أبو عفش الذي جعل الله يبكي و يقف فوق سقف الخ .. ما يطرحه صلاح حسن هو برأيي إيضاح لإحداثيات الإنسان اليومية عبر مقارنة بين الرب المرفّه و الإنسان المُتعب، الأمر لا يقتصر فقط على الإحباط الذي نشعر به تجاه الله بعد قراءة النص، إنما هو في ذاته دعوة إنسانية، دعوة إنسانية من شاعر يحاول تخليص نفسه من الاكتراث بالإله بما أن هذا الإله بدوره لا يكترث له. قد يتهم الكثيرون صلاح حسن بأنه أراد إثارة إشكالية عبر هذه القصيدة ، كما اتهموا من قبل الشاعر الأردني موسى حوامدة في شتائمه لله و الحديث معه بشكل يتطرق للجنس و ما شابه ( قصيدة سبحاني – موسى حوامدة ) .. قصيدة صلاح حسن تحمل أسئلة كثيرة و صعبة ، هي شبيهة بأسئلة الأطفال ، كل طفل يتساءل : من هو الله ؟ أين هو ؟ لماذا لا يزورنا ؟ لماذا أخذ ذاك الشخص عنده ( كناية عن الموت ) ؟ إذا كان طيباً لماذا لم يمنحني لعبة ؟ الخ .. أسئلة صلاح حسن مشابهة لذلك ، أنا لا أنكر الاقتراب في أسلوبه إلى أسلوب التهكم السريالي ( وهنا التشابه بين الشاعر والتجربة السريالية تشابه في الأسلوب والظاهر لا في الغاية ) ، لكنه يسير نحو موجودات ما بعد النص ، موجودات لا يجب أن نحصرها في كون الشعر جُملاً و صوراً شعرية جميلة ، بل أنه يتم عبر ملامسته للبعد الإنساني و علاقته مع هذا القاطن فوق سطح الأرض !! و كأنني بكل صراحة أشعر بصوت هذا الشاعر يحاول إلغاء كل تصوراتنا التقليدية عن الشعر ، لم يطرح صورة جميلة في نصه أبداً ، لكنه أبرز صورة "إنسان" ، الأمر يجب أن لا يقتصر على فكرة ( نص إشكالي ) ..
النموذج الثاني : بارانويا الله – للشاعر السوري فراس سليمان محمد
1 الله الآن خائف .. خائف في قبوه كما أحد لن يتخيل عجوز دون أن يمسّه زمن لا يستطيع أن يستند إلى الكتف المتعبة لذكرياته لا يستدعي التشابيه ليبرهن .. كم يرتجف .. لا يقول كلاما بطزاجة يترهّل في الخانات العتيقة للجوهر في اللحظة الضيقة المشدودة بين ما يحدث وما لم يحدث الله الذي يخيفه كل شيء خائف .. خائف
2
أنا الله الذي ضيّعوه عندما وجدوه ، حان لي أن أتكئ إلى نفسي وأبكي أنا الله ولا أحد ليساعدني لأكشّ هذا البرغش الكوني الذي يحطّ على أحلامي سبحاني كيف رضيت بالخديعة حتى تقطّن قلبي كيف رضيت بالاسم وأنا أعرف أنه سيصبح جسدا سبحاني كيف وهبتهم متاهتي سؤالا ليخلقوني من طين وخوف أنا الله حان لي أن أحيل ملائكتي وجندي إلى التقاعد أن أحوّل الجنّة والنار إلى أرجوحة حان لي أن أترك هذا العرش للفراغ أو على الأقل لرطوبة ندمي
3
يرغب الله أن يعرق أن يتعب أن ينام أن يذهب إلى السوق .. أن يتلمّس قطعة الحلوى تذوب في بنطاله لأنه يخفيها عن أصدقائه النهمين أن يقامر أن يخاف ... أن يشتهي كل الجميلات ثم ينزوي وحيدا في غرفته أن يصبح كالعاديين أو كالعباقرة الفاشلين أن يعتزل كي يختلف أن يسهر كعاشق ... كحارس ... كمريض ، أن يكون أبا لفتى طيب أو شرير يرغب أن يشارك في مظاهرة ضده .. أن يجادل الذين استبدلوه بما هو أسوأ يرغب أن يساء فهمه بطريقة أخرى .. أن يؤلف كتابا قابلا للنسيان أن يبكي فيشفق عليه أحد أن يحب الطبيعة .. أن يكره الحياة التي يصنعها الرجال الذين صورهم تملأ الشاشات يرغب أن يكون بسيطا وساذجا كالمؤمنين به مدعيا كالذين يكفرون به ، خائبا وحساسا كالذين مازالوا يفكرون فيه يرغب الله أن يحب امرأة يأوي إليها ثم يسأم منها ، يرغب الله أن يكون امرأة أن يعرف لماذا الموسيقى تحيله إلى لحظة واسعة ومحبوسة في شكل يرغب الله أن يشقّ قميص الكلمة الضيق الفضفاض .. أن يذعن لنداءات جسده يرغب الله أن يحلم .. يرغب الله أن يحيا ... يحيا حينها لا بأس غدا أو بعد غد أن يموت يرغب الله أن يكون .
في المقاطع السابقة هنالك ثلاث قفزات : الله ، أنا ، الله . المقطع الأول يتعامل مع الله باعتباره شخصاً عادياً بعيداً عما يلفه من قداسة، و يصفه من الجانب السيكولوجي حين يشعر الله بما خسره على الصعيدين : ذاته ، و خليفته (الإنسان). إن الشاعر هنا يجرد الله من الأسماء الـ 99 التي امتلكها في مقابل تشبيهه بالإنسان ، بل و منحه فرصة لكي يكون ببساطة الإنسان وهذا ما سيحصل أيضا في المقطع الثالث . لا يوجد في النص أية دلالة على أن الله هذا هو الإله سوى مسمى " الله " ، فالصفات المذكورة في المقطع الأول على الأقل تمنح الله عمراً محدداً و ذكريات ، و تحسراً ، و ندماً ، و غيرها من حالات يختص بها الإنسان من الجانب السيكولوجي. الشاعر هنا يتكلم عن إنسان أصبح إلهاً ، عن خرافة أصبحت إلهاً ، إنه يجرد الرب من صفة الكمال و بنفس الوقت يمنح الإنسان الاقتراب الشديد من الله العادي في جوهره وغير العادي في مظهره أو على الأقل فيما وصلت له العقائدية الدينية و الفكرة الدارجة الهشة . لا أعلم إن كان بامكاني أن أربط بين فكرة فراس سليمان التي بنى عليها المقطع الثاني من هذه القصيدة في أنها تضاد لجملة النفري : " وقال لي أنا الله لا يدخل إلي بالأجسام، ولا تدرك معرفتي بالأوهام " . إنه في المقطع الثاني يدخل إلى الله بشكل جسماني ، و نلاحظ هنا أنه تحول من النفساني في المقطع الأول إلى الجسماني في المقطع الثاني ، و يحدده بجسد الإنسان و التي بلا شك تعتمد على أسطورة خلق الله لآدم على صورته ، لكنني بنفس الوقت لا أعتقد أن فراس سليمان أراد ممارستها هنا ، فهذا الجيل الشعري الجديد ، يبتعد قليلاً عن الاعتماد بشكل كلي على النصوص التأسيسية و المعرفية ، و يحاول خلق نفسه خالصاً .. إن فراس يشفق على الله ، يحاول أن يعوض خسارات الإنسان الذي إذا ما قمنا بمقارنته مع الإله سنجد محدودية قدراته ، فهو حسب المفهوم الديني لا يتصف بالكمال و صاحب خطيئة منذ ولادته إلى موته ، و أنه لا يستطيع أن يعرف كل شيء خاصة أن هذا بحد ذاته مؤذي له – أقصد الإنسان - ، دمج الله في الإنسان هنا لا يقف عند الفكرة الحلاجية العاشقة ، بل أنه يتعدى بحيث يصبح علاقة مودة بين الله المنكسر و صديقه الإنسان المنكسر هو الآخر، يحاول أيضا أن يهمش قداسة الله و وجوده و ما قام الإنسان بتحميله من تابو و مهمات إلى الله . المقطع الثالث ، تعدى الشاعر الجانب النفسي و الجسماني للرب ، و دمجه بحيث يكون نفسجسماني ، فيقوم باستعراض عضلات الشهوة الإنسانية و المتعة المتلونة بعدة أشكال ، عبر مرور متقن بمحطات الإنسان الحياتية في عمره و وصولاً إلى موته ، حيث مظاهر الحياة المختلفة التي ذكرها الشاعر كرغبات يريدها الله و يتحسر عليها تُمثل الطفولة و الشباب و من ثمّ تتمثل في جزئية وحدة الإنسان و عزلته تلك المرحلة الفاصلة ما بين الموت و الحياة ، و أخيراً مواجهة شبح الموت بكل حب بعد هذا القسط المتواضع مع الجمال ، الجمال في أن تمارس أبسط مظاهر الإنسانية . ليس بامكاننا أن ننكر مسألة الرمزية التي يستخدمها بعض الشعراء في حديثهم مع السلطة باعتبارها إلهاً . الشاعر هنا لا يتحدث مع الله ، لا يكترث له أبداً ، صحيح أنه يغيظه بحياته الجميلة ، و يشفق عليه أحياناً ، و يصاحبه أحياناً أخرى ، لكنه أيضا ً يحكي عن روعة أن تكون إنساناً تمارس كل هذه الأشياء التي حُرمت منها الذات العليا التي يتصورها الإنسان أكثر حظاً منه ..
النموذج الثالث : بسم الله – للشاعر العراقي أحمد عبد الحسين
أنتَ يا بئرَ العطش يا كنزاً أسودَ في فم الذئب دعْ قنديلكَ الناطقَ بالأعاجيبِ يضيء اسمَ العراق، ارفعْ خرقتَكَ التي عصبتَ بها وجهَ بغدادَ، اجمعْ زينةَ الحربِ من عتباتِ البيوتِ، أجعلْ بنادقَهم مكانسَ لئلا يقتِلوا أو يقتَلوا، انفخْ سراجَك الذي يشعّ ظلمةً في ليل أمّي، ولا تتركْ حبيبتي تخرج خائفة من البيتِ إلى الجامعة ومن الجامعة إلى البيت، بل أختمْ على قلبِها بأبعدِ نجومِكَ حتى تعرفَ ـ وهي تشدُّ لك حجابَها ـ أنك العاصفةُ وقد ابتسمتْ أخيراً بعدَ طولِ خراب. أنت أرعبتَ قلبَ صغيرتي وقد آنَ لها أنْ تلمسَ قلبَك. أما ملائكتُك الجوّابون من زاخو إلى الفاو، الملائكةُ الملثّمون ذوو البراثن والأنياب، فأرجعْهم بأحزمتهم الناسفةِ إلى الصحراء، واجعلْ لهم بئرَ عطشٍ يستقون منها إلى أبد الآبدين. وإذا جاءتك نساؤنا بسلالهنّ ملأى بثمرات أرحامهنّ فلا تملأها بحصتك التموينيّة حَسَكاً وخبزَ مذلّة، ولكنْ بالقليلِ القليلِ مما في خزائن غيبِك المكنونِ، بنكهةِ الفجرِ املأْها ورفرفةِ طيورٍ بيضٍ يضربْنَ بأجنحتِهنّ في صلاة العشاء، أغرِقْ عيونَهنّ كُحلاً وقلوبَهنّ كركرةَ أطفالٍ لئلا ينشغلنَ عن الصلاة إليك بأسماءِ أبنائهنّ، من مات منهم ومن هربَ. يا بئر العطش دُلَّ الهدهدَ ، هدهدَ آبائنا المعدانِ، على ينبوعِ الهواءِ السريِّ فقد تكسّرتْ أقدامُ أرواحِهم حزناً عليه، اجعلْ جبالَ الأكراد ذهباً وشلالاتهم فضةً لأنهم منذ 1988 لم يختموا قرآنك ياربّ، كلّما وصلوا سورةَ الأنفال ماتوا وبيعتْ نساؤهم في الأنبار. وبعدُ فأنتَ أمرتَنا أن نبذرَ عظامَ أطفالنا وقلتَ انتظروا الحصاد، انتظرنا ولم يأتِ، أتى أعرابٌ بلحىً وقرآنٍ عربيّ كلّه أمراضُ دوابٍّ، وها أنتَ ترى إلى الآشوريِّ منتحباً على أنقاض كنيسته، الرافضيّ مدمّىً في كربلاء، والمندائيّ يستغيث بماءٍ سوف تجفّفه شمسُ الغرباء. انظرْ نحن نكادُ ننقرض. فيا كنزَنا الأسْوَدَ يابئرَ العطشِ أنتَ أرعبتَ قلوبَنا وقد آن لنا أن نلمسَ قلبَكَ قلبَك القديمَ الذي قرأناه في الكتب.
يقول أحمد عبد الحسين في حوار أجريته معه سابقاً : " يقيناً إن اندهاش الصوفيّ (وهو اندهاش لاهوتي) لم يكن نتاج انكبابه على الوجود الخارجيّ، بل نتاج تأمّل عميق بما في الذات (أنا الحقّ، ليس في الجبة إلا الله)، وهكذا فان منطلق الصوفيّ والشاعر واحد كما أرى، كلاهما ساعٍ إلى استنطاق الغريب الذي يسكنه، الغيب الذي يحمله في داخله، والذي هو ليس شيئاً طارئاً عليه " . إن أحمد عبد الحسين / النموذج الثالث ، هو النموذج المختلف ، هو النموذج المتصوف العاشق بلغة حديثة ، إنه بعيد عن الطرق التقليدية في كتابة القصيدة ، احمد يضع نفسه في دائرة معينة ، دائرة ثقافته التي تتضمن الإنسان ومعاناته وبساطته / التصوف أو عشق الإله، و هو يصوغ هذه الإحداثيات بشكل مغاير ، يستخدم السرد و الدراما و يحمل بلاغة في نصه عبر المعنى أو فلنقل عبر صدى النص داخل متلقيه بعيداً عن البلاغة اللغوية التي تقوم بنحر القصيدة على عكس من المنحى الذي اختاره أحمد لها . أحمد عبد الحسين يعتمد في نصوصه على رؤية الأشياء بشكل بسيط، و عبر هذه البساطة يطرح عمق أفكاره ، حين نطلع على تجربة أحمد عبد الحسين بكل جوانبها (الشاعر و الكاتب و المحاور المثقف) نعرف ما اكتسبه أحمد من إرث صوفي وقدرة على اكتشاف الباطني من الملامح الخارجية . كما أجد المكان و الذي كثيرا ما يُذكر في نصوص عبد الحسين باعتباره المكان الذي يحمل المعاناة ، المكان الذي يرمز لانسحاقات أحمد عبد الحسين الإنسان. إنه بلا شك يستحضر هذا المكان ليختصر طريق إيصال ثيمة النص إلى المتلقي . في نص " بسم الله " و الذي يحمل هذه المرة خطاباً أكثر وضوحاً، من كل خطابات أحمد عبد الحسين في نصوصه السابقة ( ارجع مثلاً لكل من نصي الشاعر : قربان و كربلاء الوقت) . إنه في هذه المرة لا يخاطب الله باعتباره حسب الجملة الصوفية الشهيرة: يا من لا هو إلا هو .. بل بضمير (أنت) المخاطب . إنني حين اقرأ هذا النص ، لا أنسى اقتراب أحمد من قلب الله ، إنه يريد ملامسة قميص الله ، و من ثمّ القبض على قلبه ذاك الذي يعيش في عبده بحسب الحديث القدسي : " لا تسعني سمائي و لا أرضي ، و لكن يسعني قلب عبدي " . الملامسة هنا و التعرف على الله ليس بجديدٍ على التجربة الشعرية فخذ مثلاً تجربة الشيرازي : " يا قلب تعالَ وخذ نحو الله سبيلك حتى لا يحجب عنك خبر مجروح " فهنا يلاصق الشيرازي قلبه بقلب الله ، و بحكمة و معرفة الله و حقيقته . هكذا تتكون قصيدة أحمد " بسم الله " : 1. مخاطبة الله ، كونه منادى ، بصفات يمنحها الشاعر للرب . 2. من ثم يطلب بصيغة الأمر ( و هي في دلالتها التماس من الرب ) أن يتدخل في معاناة الإنسان تحت مسميات عديدة ، منها ما يقدمه الإنسان لهذا الرب : ( جزئية الحجاب الذي تشده حبيبة الشاعر من أجل الله ) . 3. مرة أخرى تقريب قلب الله من قلب العبد ، استناداً على الفكرة الدينية حول هذا الارتباط و المحبة بين الرب و العبد . 4. الحديث عما يحيط الله ، و بذلك استعراض لحياة الله ، و التخاطب مع أشيائه. 5. الحديث عما يحيط الإنسان ، عن الإنسان و عالمه البسيط و المليء بالحسرة مثال : النساء / الطيور / الأطفال . 6. و 7 و 8 الخ .. استحضار معاناة الإنسان أمام الرب ، محاسبة باطنية لضمير الرب ، لرحمته التي يتصف بها ، كونه الرب الخالق ، و الرب المُحب .
أليس في كل ذلك محاسبة للحق الذي يتصف به الله ؟ يوجد في النص عمق وجداني قابل للتفسيرات العديدة ، إن النص واضح و قد يراه البعض على خلاف وصف : " حمال أوجه " .. لكن على العكس فرؤية و شعور أحمد عبد الحسين التصوفية قابلة للدلالات والتطور . خاصة في تعاملها مع الحق ، الوجود ، و أعمدة الرب / مثال الجنة ، العدم ، الجحيم ، و ذلك ظاهر في نصوص الشاعر بشكل عام . إنني أرى في مخاطبة أحمد لله خطاباً جديداً ، خطاباً وسطياً يحاسب الله من منطلق إنساني ، إنه لا يفتعل ، لا يريد أن يخلق نصاً إشكالياً ، بل يحمل نوراً روحانياً و طرحاً إنسانياً شمولياً لتفسير كل ما يلوح في الأفق ، تفسير بعيد عمن يرغب في الكشف عما يدور في اللا وعي أو في الما بعد ..
المراجع : 1. القصائد السريالية من كتاب " رسالة إلى أدونيس " – عبد القادر الجنابي . 2. المواقف و المخاطبات – النفري . 3. الحلاج – سمير السعيدي . 4. قصة الحضارة – ول ديورانت . 5. الإنسان و المقدس – نص لندوة كتاب من تونس .
http://mona0.jeeran.com [email protected]
#منى_كريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ملف الشعر العراقي المغترب
المزيد.....
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|