رحمن خضير عباس
الحوار المتمدن-العدد: 3426 - 2011 / 7 / 14 - 20:49
المحور:
الادب والفن
قبيل أن ينطفيء العقد السادس من القرن الماضي , وفي اطاراحدى المهرجانات الشعرية المقامة في كلية الآداب / جامعة بغداد .انبرى شاب نحيل , فارع الطول , من بين زحام الحاضرين . وتقدم بخطوات غير مرتبكة , معتليا المنصة الشعرية لقاعة الحصري , والتي كانت تضج بمتذوقي الأدب من اساتذة الجامعة والطلاب والزوار .وبعد صمت قرأ قصيدة رومانسية عاشقة , ابهرت الجميع , واشاعت جوا من الحبور لأسلوبها وطريقتها الغنائية الراقصة , مما حدى بالدكتور عناد غزوان وكان استاذا للأدب آنذاك ,ان يطري على القصيدة وشاعرها , بعد ان عقد مقارنة بين موسيقى الشعر وايقاع الرقص . كما استعرض بعجالة العلاقة بين الموسيقى والعروض عند الخليل بن احمد الفراهيدي..وكان مطلع القصيدة
(يا للحلوة ما احلاها سكرى بجمال محياها
تترنح تيها يفرحها في الدرب مدامع قتلاها..)
اما الشاعر فهو عبد الآله الياسري , شاب من مدينة النجف : مدينة الأدب والشعر , حيث ضريح الأمام علي بن ابي طالب , وبيت الجواهري , تجاوره بيوتات العلم والأدب والحكمة . اتى للدراسة في جامعة بغداد , يحمل عنفوان الفرات وحياء دجلة . في ذالك الوقت , كانت بغداد تشع شعرا وجمالا . وكلية الآداب حاضنة لشباب قادرين على العطاء , من خلال وعي يتجاوز ما مسموح به , متخطين الواقع , وهم يعتلون صهوات قوافيهم , عابرين الممنوع والمسموح . تلك المرحلة افرزت اسماءا شابة تركت بصماتها على الساحة الشعرية , بل اصبح بعضهم علامة بارزة للشعر السبعيني .
بين تلك الأيام وبين اللحظة الراهنة سنون ثقيلات , مشبعة بالتقادم , حيث "جرت مياه كثيرة في النهر " وترسب غبار كثيف . سقطت انظمة , وحدثت حروب وانتكاسات وانتصارات, ومرت على الوطن محن وتغيرات دراماتيكية , واكتسحتنا رياح التغيير , بعد ان هاجرنا مرغمين عبر ارض الله الواسعة , وترسب في الوجدان اوحال الماضي ..وبعد هذه المفازة الزمنية يصدر الشاعر غبد الأله الياسري مجموعته البكر (جرح ومنفى ) والتي لاتحتوي على قصائده ألأولى . واعتقد انه انتظر طويلا , وربما منعته ظروف قاهرة على طبع اشعاره . ( مع العلم ان لديه اشعار كثيرة مخطوطة لم يطبعها لتكون ديوانه الأول ) وقد ترك طباعتها لظروف مواتية ! . والمجموعة تضم 14 قصيدة كُتبت ما بين 1983 و 2003 وهي تشكل عمرا زمنيا يقل عن عمر اغترابه . فقد هاجر الى المغرب ثم الى كندا , منذ 1979 والى اللحظة الراهنة .
لاشك بان عنوان المجموعة خير مفتاح لقراءتها ومحاولة فهمها . وهذا يقودنا الى التأمل في مفردتي جرح ومنفى , وكيف جعل منهما توأمين متجانسين . يكمل احداهما الأخرى ,وكأنهما وجهان لحالة واحدة , رغم الهوة الكبيرة التي تفصل بينهما . فاما المنفى فقد جُرّبَ بما يكفي من وريقات العمر التي تساقطت , واحدة إثر اخرى في إنتظار الخلاص الذي لن يأتي . وتكمن صعوبة المنفى في كونه الخيار الوحيد ! وما علينا سوى الصبر الجميل . ثم التكيف والأستكانة في انتظار المجهول . اما الجرح فهو قديم ومتأ صل يأتي نتيجة طبيعية للخيبات المتلاحقة لوطن يحترق . وليس في اليد حيلة لأطفاء هذا الحريق . انه جرح مغروس في خاصرة الوعي لإنسان أُجتث من الجذور وبقي دون روح , فرغم ما تقدمه بلدان المنافي من مظلة انسانية لعيش آمن وكريم , لكن هذا العيش لايقيك من الأستلاب والشعور بالعزلة , والتي تقود بدورها الى قمة الأغتراب روحيا وجسديا وتتكرس الغربة عند الشاعر الذي لايتنفس غير هواء الوطن . ان ثمة حقيقة مرة وهي ان تعيش في ماضيك المثخن بالجراح , والذي يؤدي الى عزلة كبيرة بمعناها المادي , لاسيما حينما يعيش الشاعر في بلد لغته تختلف وكذالك ثقافته ومجموعة قيمه وعاداته .لذالك فانت –كشاعر- تكتب دون ان يكون لك قاريء , سوى بعض ابناء جلدتك الذين مسختهم ظروف الهجرة فأصبحواهجناء في هويتهم , غير قادرين على رفد ثقافتهم ولو بالتواصل. وعليه فالشاعر يكتب لقاريء آخر , لاينتمي الى جغرافية المنفى. ومن هنا تأتي اشكالية المضامين التي تهاجر من المنفى لتعانق جرحا نازفا , فرت منه وبقيت هائمة في فضائه
( عبثا تهرب من عمق الجذور
عبثا تدفع في الثلج وحيدا , عجلات لاتدور ..)
اصبح النص الشعري صخرة سيزيف . ينوء بحملها المبدع وهو يبحث عن هويته التي ضاعت على قارعة الأنتظار.
( آه , من بلادين :بلاد لم تعد لي
وبلاد لست منها ...)
انه نص يتمرد على جغرافيته , ويلتقط منها اشارات باهتة , تعلن عن المكان ولاتنتمي اليه . ويظل الشاعر مهاجرا , يحاصره الثلج والعواصف الباردة . وحيث يشح الصحاب , وتنأى الوشائج والتواصل. لذا فالأختباء في هوس الذاكرة . وهذا يحجب جمال الرؤية لبعض مباهج المنفى , بحيث تصبح المهرجانات الجليدية في كندا صورا مجردة لاروح فيها:
( يصنع الغرب من الثلج تماثيل
خيولا, عربات , امرأة
ثم يأتي الساحة السياحُ ساعات ..)
فتضيع بهجة المكان وزمانه , تحت وهج المكان المتخيل , اي اطلال الوطن وصورته الأولى .
القصيدة اليتيمة التي ضمتها المجموعة كتبت في المغرب / ورزازات . وكان الشاعر في بداية طريق الغربة , وتحكي القصيدة قصة الحنين الى الوطن وخيبة الأمل من ألأقامة هناك وبعض الأشكالات التي ترافق حالة الترحال . ورغم أن مدينة ورزازات واحة عامرة بالنخيل , ولكن الشاعر يرى فيه سرابا.
( لماذا النخيل يصير سرابا
وينأى ,وننأى ..)
ويبدوا أن البحث عن الخلاص يصطدم بخيبات متعددة
(يقول رفيقي القديم ,نضجنا بهذي المنافي
اقول " مسخنا بهذي المنافي ..)
أما بقية القصائد الأخرى , فترتبط – رغم التباين الزمني في كتابتها – بخيط دقيق يشكل نسيج الفكرة التي تتمحور عن حالة صراع مع الذات , وصراع مع الغربة التي تجذرت مع مرور الوقت :
( كنا بعيدين الآ من الحزن
نحن الطيور التي شُرّدت
ما يزال المساء يشردنا
واحدا واحدا , لاجئا لاجئا )
لقد كان في أوج حرقته يحمّل مسؤلية ما يحدث على الجميع – احزابا وافراد- كما يدين الصمت إزاء وطن يحترق وينزف ابناءه تحت انظار كل العالم . لقد ادان الصمت معتبرا اياه جريمة , أدت الى اغتيال القيم النبيلة , واعتبر السكوت مشاركة فعلية في ما حدث
(انت من أدخلني حيّا لقبري
انت من علمني كيف اموت
السكوت . السكوت , السكوت ...)
ولاشك أنك كقاريء لابد ان تؤدلج القصيدة وان تذهب بتفسيراتك مذاهب شتى . ينبيء بعضها عن احداث سياسية معينة ضمن سياقاتها التأريخية . وليس بوسع النص الشعري الا أن يبوح ببعض الهواجس , وان ينحاز الى من احترقوا ظلما دون ان ينتصر لهم احد . حيث أنهم يموتون بصمت . لقد حارب السلطة في العراق, وربما هجس اكذوبة ما تدعيه من قوة , وتنبأ بزوالها
(فرعون من ورق , على ورق بنى عرشا
الى ورق يطير ...)
وفي قصيدته (مقتل زرياب ) يجعل من الغناء قاعدة للتحدي , ومواجهة لكل اشكال الألم . فحينما ينصهر الحزن والفرح في اغنية واحدة فأنه يصنع نشيدا للحياة , قادرا ان يحمل راية المواجهة امام كل القوى التي تريد ابادة الأنسان , وتكبيل حريته . لقد جعل من مقتل زرياب قربانا للخلود ( ايحسبون قتل عازف نهاية الغناء ) . المغني ينتصر ما دام يعزف باضلاعه , جاعلا من اغانيه قوة قاهرة فهي تمتلك الأمل والصدق والبراءة في وجه اعداء لايمتلكون سوى احقادهم
( كنا امام المنحنين في الظلام
نغزل النجوم وننسج الشرر
وكان زرياب المغني واقفا
يرتقب الحريق ليبدأ الغناء ..)
ولاشك أن شاعرنا قد استلهم من شهادة لوركا الذي جابه الفاشية بأغانيه واشعاره . إنه حفيد لزرياب فكلهما اصبحا رمزين للتحدي فالحياة تنتصر رغم مقتل المغني .
لقد افرد الشاعر عبد الاله الياسري في مجموعته هذه اهتماما كبيرا بالنخلة , حتى أنه ذكرها اكثر من ستين مرة , سواءبشكل مباشر او بالأيحاء . كما ذكر ما يمت لها بصلة " كالعذق والطلع والجذع والسعف .. وغيرها من مفردات النخل . فهي بالنسبة اليه رمز للحياة والوطن والشموخ والنبل , كما انها ترمز للمدينة الأولى والطين الأول ورشفة الماء الأولى . لذا نستطيع القول أنه كان مولّها بالنخلة, عاشقا لها , واعتقد أن هذا الفيض اللفضي الذي تبناه ينمّ عن تجربة روحية إزاء النخلة ما با رحته منذ الطفولة. وكيف لا ومخزون الذاكرة حافل بفسائل النخيل
(جاءني النخل
والقى رطبا في سلة الروح
وارخى ظله فوق جبيني
لا يواسيك بما انت مصاب نهر لورنس
ولا السرو ولا سرب النوارس ..)
فكل جمال المهجر الكندي , بسروه وانهاره , واسراب طيوره, وجنائنه . غيرقادرعلى ملىء الفراغ الروحي . وها هو يستنطق النخلة , ويشكوا اليها همومه , ويعبأها بين اضلاع قصائده .
(بكيت بين نخلتين :
نخلة واقفة في خندق النخيل
ونخلة ساقطة قد انكرت ملامح النخيل ..)
وللنخل في موروثنا العربي منزلة كبرى جسدها قول ابي العلاء المعري
( شربنا ماء دجلة خير ماء وزرنا اشرف الشجر النخيلا )
ومما يلفت النظر في النص الذي يسفح نفسه للقارىء بشفافية وصدق . اجد مفردات شرسة , حادة كالسكين . تتميز بالعنف , وكأنها تميز بين عالمين : عالم وديع . تمثله النخلة والشجر والسرو والنهر , وغيرها . اما العالم الأخر فهو عالم من المفردات الوحشية والتي تتميز بالعنف وكأنها تعكس خلفيتها الشريرة لرسم عالم مدان لأنه غير انساني , حيث القتل والموت والحقد واختلال المعايير
( اصبح السعف بنادق
والعصافير رصاص ..)
لقد رسم صورة لعالم مرفوض , مبينا بشاعته
(تمتد لي مائدة. وفوقها عباءة سوداء
ارفعها عن جثة مسلوبة
يختلط الطعام بالأشلاء, والماء بالدماء)
ورغم سادية الصورة لكنها تعبر عن بشاعة الواقع .
لقد كانت نصوص الشاعر عبد الأله الياسري في مجموعته الشعرية (جرح ومنفى ) شهادة على عصر عشناه , بكثافة وبوعي وبألم . استطاع ان يكشف فداحة المنفى , والأماني المعلقة على حبل الأنتظار .إن شعره ماهو الا نزف صامت . ولكن الأمل بعراق جميل هو الهاجس الكبير للشاعر وقصائده .
#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟