|
اليسار بين الوحده والتشتت
محمد البدري
الحوار المتمدن-العدد: 3423 - 2011 / 7 / 11 - 09:16
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
عندما يلقي بالسؤال يفتح علي التو باب لانتاج المعرفة أما لو اجبت باطمئنان تنغلق وربما تنعدم فرصا كانت متاحة لمستقبل افضل-. ينتمي الفكر اليساري في لحظته الراهنة الي مجتمع الحداثة. فما اكثر الذين وصفوا بانهم ثوار ومتمردين وصنفوا باعتبارهم جذورا تاريخية لحركات التحرر والعدل الاجتماعي لكنهم الان مصنفون داخل انماط يعاقب عليها القانون حتي في المجتمعات التي اخذت فيها قوي الثورة واليسار زمام السلطة والحكم.
مجتمع الحداثة يقوم علي العقل والعلم ولا شئ آخر كالعنصر والجنس ومخلفات الثقافات القديمة أو الدينية التي اصبحت مجرد اهازيج فلكلورية. مجتمع العقل والعلم هو مجتمع ضد النظم الزراعية التقليدية ومؤسساساتها الاقطاعية بشقيها الغربي والشرقي طبقا لتصنيفات كارل ماركس او كارل فوتفوجل. إذن فان عقل الحداثة ليس عقلا ارستقراطيا ولا هو عقل لاهوتي، انما عقل أداتي يستطيع صاحبه تغيير واقعه والسيطرة عليه وتطويره لمزيد من الارتقاء بالواقع والعقل ومزيد من الاشباع للحاجات المستجده. عقل الحداثة خرج من رحم النظام البرجوازي التقليدي اي انه خرج من رحم ايديلوجية راس المال وفلسفة المنفعة. وخرجت ايضا فلسفة اليسار العلمية من رحم فلسفة الراسمال بوصفها سلاحا نقديا لاعادة هيكلة المجتمع لصالح طبقات كانت محرومة، بسبب طبيعة هيكل الانتاج، من حقوق واستحقاقات وخصما من حقوق غير شرعية لم تكن واضحة عدم شرعيتها سابقا. لم يمر كل مجتمع بذات التحول، وهنا تكمن اشكالية وحدة اليسار مع الحداثة، بعكس وحدة اليمين الراسمالي الذي جعل من كل مركز رأسمالي ضلعا في منظومة العمل الحداثي. فتطور العلاقات الانتاجية والمجتمعية بطول العالم وعرضه لم يكن متزامنا علي طريقة الاواني المستطرقة، فالضغط الاسموزي الراسب في كل مجتمع لم تصله الراسمالية – علي قاعدة من التنوير- بشكلها الانتاجي وتشكيلها لطبقات متبلورة بشكل ناضج وبها تكتلات سياسية طبقا لتقسيم العمل مع اسس عقلانية للتغلب علي خرافات الاساطير والاديان، يجعل منسوب الوعي اليساري في كل انبوب من انابيب دول العالم غير متساوق وغير متفق في مستواه المعرفي والثقافي بل وفي وعيه بما يمكن عمله لو آلت اليه الثروة وملكية هياكل الانتاج. فما اكثر الذين سلمت لهم او استولوا علي مقدرات الانتاج ثم بددوها مجانا واصبحوا بمجتمعهم برمته أكثر رثاثة عما قبل.
أسوأ مثال للحالة اليسارية هو ما ينمو منها علي قاعدة من الرأسمالية الطفيلية التي لا تخدم أحدا سوي الاعمال الغير انتاجية ومثالها جميع البلاد العربية في الشرق الاوسط. وما جعل مثل هذه التنظيمات اليسارية تضل الطريق في مسار انعتاقها الوقوع في اسر قضايا أخري كثيرة ضمنها عملية التحرر كما في فلسطين او مصر والجزائر وقت احتلالها، فرغم تشابه هذا الوضع مع الصين الا ان المجتمع الصيني تمكن عبر كوادر ثقافية وايديلوجية من العبور وحكم بالحديد والنار بدرجات لا تقل عن نفس النظم التي لازالت تتخبط ولا تعرف طريقا الي رأسمالية منتجة او اشتراكية عادلة. يفترض البعض في تحليلهم السياسي ان الارث الثقافي الصيني والمختلف عن ارث العرب او الزنوج كان عونا للصينيين مثلما كان الارث البروتستنتي عونا لظهور البرجوازية الصناعية الراسمالية علي انقاض الكنيسة والاقطاع حسب ما كتبه فيبر في كتابه عن الاصل المسيحي الاصلاحي في نشأة الراسمالية. وضربوا المثل بحالة هونج كونج وتايوان المقتطعين من الصين. الجزيرتين كانتا ارضا للراسمالية الامريكية والاوربية بينما كانت القارة الصينية برمتها علي قاعدة من اشتراكية من النوع الراديكالي المتقشف بصرامة. تزامن صراع جنوب وشرق آسيا مع نفس الفترة مع هونج كونج العرب (فلسطين) التي لم تتصالح او تتحول او تعود الي اهلها مثلما حدث في اقصي شرق العالم.
يؤسس جورج لارين في كتابه المعنون "الايديولوجيا والهوية الثقافية" فكرة إعادة الاعتبار للايديلوجيا ويخلع عنها وشاح اللاعقلانية والتفتيت عند من ادعوا نهاية الايديولوجيا رغم قبوله بكثر من افكار مدرسة فرانكفورت، فكل هذه الايديولجيات والمدارس تاسست علي قاعدة من تفكيك الثقافة القابعة في عقل المجتمع او علي الاقل التخلي عن كل ما ليس عقلانيا ومخالفا للواقع الموضوعي. فمهما كانت الحتميات الاقتصادية التي سينجرف اليها المجتمع جراء ايديلوجية ما تبقي من الثقافة الموروثة كعائق او كعامل مساعد للتقدم والتحول والوصول الي مرافئ اكثر رفاهية وحقوقية وثراءا. فإذا كانت هناك رغبة في العيش في العالم الذي هو متطور بكل الوسائل فإن المعلومات والمعرفة تبدو كضرورة الماء والهواء بالنسبة لمستقبل البشرية ، مع الحفاظ علي نظرة نقدية للأيديولوجيات وأفعال الايديلوجيين. لقد ربط الرجل وحدد اسس العلاقة بين الراسب الثقافي وبين ايدلوجيا الخلاص.
وبغض النظر عن صحة كلا الحالتين فان الانطلاق الي افاق العملية الانتاجية بغزارة قام بتحويل مجتمعات يسارية راديكالية الي الراسمالية كالصين او الانهيار ليكون جوهر التشكيل الاجتماعي متفقا وطريقة الانتاج التي تم تهويمها بضبابية كما في الحالة السوفيتية. ورغم التحولات العميقة في بنية كل مجتمع راسمالي او اشتراكي فقد ظل المترددون عن حسم امورهم كدول التجمع الشرق اوسطي او ما سقط من انهيار حلف وارسو كمن يقف علي محطة القطار يشاهدا ولا يقفز في ايا منها إما خوفا علي ارثه الثقيل الذي يكبله واما لضعف قوي الانتاج بسبب الانشغال في قضايا أخري كاستعادة ارض او حقوق استقلال أو استعادة ارث تآكل أو النهب بالطرق الطفيلية السهلة استثمارا لارث ديني ذو مردود عالي بشرط غياب التنوير وعدم زرع فكر الحداثة. أخطر ما في هذه الامور هو التحول من العقلانية الي اللاعقلانية ومن التنوير والحداثة الي الدين والظلامية مثلما حدث لقوي كثيرة وكوادر يسارية واخيرا العودة لاستعادة نظام الخلافة التي يشارك في تسويقها يساريون كانوا كوادر براقة زمن التوازن الدولي في القرن الماضي. مثل هذه المشاريع الكارثية ستجد من يدعمها في عالم المنفعة الراسمالي باظهار اقبح ما في الراسمالية طالما الطرف الاخ يتعامل باللامنطق واللاعقل. انها الداروينية الموجهه هذه المرة. ويبقي السؤال كيف يمكن التوفيق بين كل هذه التنويعات المتضادة والتي لم تعد صفة اليسار منطبقة عليهم. فمن يسعي للتمرد لم يعد بالضرورة يسارا او كحالة يسارية او مصنفة كيسار؟ أما السؤال الاكثر ايلاما: هل التلكؤ وعجز قوي اليسار عن اتخاذ مواقف حاسمة وعقلانية يجعل للافعال اللاعقلانية اولوية؟ تفعيلا لمبدأ ساد بالخطأ في فترات كثيرة يقتضي بفصل الحقيقة عن المنفعة الاجتماعية مبررين إياه بان ما هو صحيح ليس بالضرورة مفيدا بشكل اجتماعي. فالحقيقة والعقل والتقدم عند هذا الاتجاه مثل كل الاشياء الاخري طبقية في طبيعتها.
#محمد_البدري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السلفيون والعفو عن قتلة الشهداء
-
الشريعة الاسلامية في خدمة اسرائيل والفساد
-
السلفية والوهابية واسرائيل
-
حتي لا تتكرر كارثة يوليو
-
أضغاث احلام بالخلافة القديمة
-
دستور آل سعود المطبق عمليا على بلاد نجد والحجاز
-
رسالة الي المصريين
-
الوصايا العشر للسلطة الفاسدة
-
حديث الذكريات المبكر
-
إحذروا هؤلاء
-
الوكر
-
وسقطت الابوه السياسية
-
عندما يصاب المفتي بالهلع
-
جلد الحية... وقبل ان يرحل الدكتاتور
-
تونس وخرائط النوايا والاولويات
-
الفتنة الطائفية صناعة محلية
-
علي ماذا اقسم البشير؟
-
العمرانية ونهاية عصر الشهداء
-
كيف نفهم الجرائم الاصولية الاخيرة
-
اغلاق مؤقت باذن الله وباذن السلطة
المزيد.....
-
التخطيط لمظاهرات في ألمانيا لمناهضة التعاون مع اليمين المتطر
...
-
Al-Sudani and Keir Starmer’s meeting – and male hypocrisy!
-
هيئة الدفاع في ملف الشهيدين شكرى بلعيد ومحمد البراهمي تعلق ح
...
-
مقترح ترامب للتطهير العرقي
-
برلماني روسي يستنكر تصريحات سيناتورة تشيكية حول حصار لينينغر
...
-
غزة: لماذا تختار الفصائل الفلسطينية أماكن مختلفة لتسليم الره
...
-
نبيل بنعبد الله يعزي في وفاة شقيق الرفيق السعودي لعمالكي عضو
...
-
الحزب الشيوعي العراقي: تضامنا مع الشيوعيين السوريين ضد القر
...
-
موسكو: ألمانيا تحاول التملّص من الاعتراف بحصار لينينغراد إبا
...
-
مظاهرات بألمانيا السبت وغدا ضد اليمين المتطرف
المزيد.....
-
الذكرى 106 لاغتيال روزا لوكسمبورغ روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثور
...
/ فرانسوا فيركامن
-
التحولات التكتونية في العلاقات العالمية تثير انفجارات بركاني
...
/ خورخي مارتن
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
المزيد.....
|