توفيق الشيخ حسين
الحوار المتمدن-العدد: 3421 - 2011 / 7 / 9 - 21:02
المحور:
الادب والفن
عالما ً كنعانيا ً تخلقه الآلهة
الحضارة الكنعانية إحدى أهم الحضارات التي تواجدت في منطقة الشام وفلسطين .. الكنعانيين هم أقدم الأقوام الذين استقروا في فلسطين واليهم يعود تأسيس حضارة فلسطين القديمة .. أن كتبا ً تاريخية كثيرة تحدثت عن التأريخ القديم لفلسطين .. وقد غيبوا الزمن الفلسطيني والمكان الفلسطيني وكأنما وجوده ثانوي لا قيمة له ...
ترتبط الأسطورة ارتباطا ً وثيقا ً بالأدب .. وتسهم في تحرير العقل من سطوة الواقع وكان الفيلسوف أفلاطون أول من أستعمل تعبير Muthologia " " وعنى به فن ّ رواية القصص , وبشكل خاص تلك القصص التي ندعوها اليوم بالأساطير ..
يقول " د . محمد عبدا لرحمن يونس " :
" بقدر ما نكتشف في الأسطورة جوهرها الحي والإنساني وقيمتها الدلالية , بقدر ما تساعدنا على تكوين الحـسّ الاجتماعي والتاريخي وتدفعنا لاتخاذ مواقف تجاه المشكلات الاجتماعية الخانقة التي نعايشها في عالم الاستلاب والسلعة "
وعلى مدى الآف السنين قدمت الأساطير المادة اللازمة لكثير من الفنون العالمية .. كما ألهمت الأساطير والشخصيات الأسطورية الأدباء والشعراء والفنانين .. ويعتبر هوميروس أول عالم يقول إن الأساطير تستند إلى حقائق تاريخية ...
تمثل الرواية التقابل الحقيقي بين الحياة والموت وكما عبر عنها " ميرسيا ايلياد " :
" استطالات للسرد الميثولوجي " تتحدث الأسطورة عن تكوين الكون وعن ظهور ذلك الواقع الكلي وعن نظامه الأنطولوجي .. وان التجربة الدينية تسخـّر طاقات الإنسان بمجموعها ...
استطاع الروائي صبحي فحماوي إن يستغل الأسطورة بوعي تام وإضفاء الطبيعة الأسطورية على أحداث روايته " قصة عشق كنعانية " .. هي صراع بين الخير والشر .. الموت والحياة .. صراعات تقوم بين الآلهة .. نهايتها ينتصر الخير على الشر .. عالم تخلقه الآلهة حسب الأساطير الكنعانية مسطرة في خمسة وعشرين مشهدا ً متنوع المساحة .. يؤرخ لحقبة التأسيس الكنعاني الفلسطيني في أرض فلسطين .. وفي صورة العلاقة بين الفلسطيني ومكانه ...
إذا كانت الأسطورة على حد قول " مالينوسكي " :
" هي الرحم الذي يخرج الأدب منه " ...
فأن الروائي صبحي فحماوي يرى في استخدام الأسطورة مظهرا ً ايجابيا ً لأنها دفعته لأن يتبنى الفانتازيا التاريخية باتكائه على التاريخ والرمز والأسطورة ...
يتحدث عمر مكتشف المخطوطات ودارس التأريخ بأن السر لا يبقى سرا ً , وان هذه المخطوطات الكنعانية المذهلة هي كنز من عبق التاريخ .. التاريخ المـُسكت والمعمىّ والذي يضيف السبعة الآف سنة منذ أن نشأت الحضارة الكنعانية لما تقدمه الأرض من رموز ونقوش وفنون وبقايا حياة حضارية .. عالم سحري يتجسد أمامه حقيقة .. عند مغارة كرملية عفا عليها الزمن .. يعيش كل عمره خيالا ً .. خيالا ً حقيقيا ً .. وحقيقته خيال .. تائها ً بين عناة الماضي , وعنة الحاضر , وعناء المستقبل ..
الأسطورة مصدر وحي للكاتب .. تتعلق بكائنات مقدسة هي الآلهة .. نعم هي عناة , ابنة الإله إل , وابنة الإلهة عشيرة , وأخت الرب بعل .. تقف عالية مرموقة مجملة , مبجلة في مدى ناظره ..
الروائي صبحي فحماوي ينبش في أجزاء خفية من التأريخ ليعطينا ويحركنا مع كل كلمة يكتبها .. يتجسد الماضي بعبقه التاريخي الذي يعطيه بـُعدا ً أسطوريا ً ودلالات سحرية في عالم ضبابي غير واضح المعالم .. الحياة متاهة بلا حدود فأنت تمسكها
بيدك مثلما تمسك الغيوم .. ولكنها تخرج من يديك القابضتين عليها .. والمتشبثتين بها , فتختفي مثلما برزت حقيقة واقعة ! من بين ضباب وعدم وضوح , وتوهان في التفكير وتشابك ضعف الرؤية والرؤيا ..
ملحمة تصور كفاح " بعل " أهم أله لدى الكنعانيين وكانوا يعتبرونه الإله المحارب اله الزوابع والأمطار والخصب مع " موت " اله القحط والجفاف ..
تربى بعل مع حيوانات البرية .. كان ذا بأس شديد متكامل القوة والحكمة .. أتى من جبال الكرمل وانحدر من التلال .. انجذب بعل إلى عشتار " البغي المقدسة " فألهبت مشاعره ثم راودته عن نفسه .. وقامت بدور المرأة اللعوب .. وانتقل مع عشتار إلى أورسالم ...
لقد جسد ّ الروائي صبحي فحماوي الصراع التي كانت قائمة بين مكونات الزمان والمكان في أرض كنعان .. الشعوب الكنعانية عملت بالزراعة وتربية الأغنام والمواشي .. وعملها بالزراعة كان من أهم أسباب تمسكها بالأرض واستقرارهم بها وهم شعب موحد ومسالم ومتسامح وهو على قدر كبير من التطور والحضارة ..
بقيت عناة تحب أخاها بعل , وراقبت فحولته الرعناء مع عشتار والتي أدت إلى إضعافه أمام موت .. فراحت تؤنبه وتشده نحو الأخلاق المحافظة والتهيب في حضرة ال , ولكنه تمرد فحطمته اللعنة .. وكان الرب موت له بالمرصاد .. ويحاول قتله وإرساله إلى سابع طبقة جحيم تحت الأرض ... فيدخل بعل في صراع طويل مع موت .. ولحسن حظه فان عناة لن تتركه وحيدا ً يتلوّ ى أمام موت .. بل تسعى لدى " يم " اله البحر في خضم أمواج البحار, وتركض وسط مجرى المياه العظمى , وفي قمم الجبال تصل إلى مقام ال صاحب الدهور .. لن يسمح الأب بموت أبنه حتى ولو شق عصا الطاعة على أبيه .. تقول عناة " إذا مات بعل , فما مصير شعوب بني كنعان " وها هي " بدرية " تقوم من عتمة فجرها فتصل إلى مرتفعات غار الكرمل تطالب بعودة الرب " بعل " بعد الاختفاء ...
الشعب الكنعاني دافع عن أرضه بكل ما يستطيع من قوة .. ولم يستسلم أبدا ً .. لذا نجد أن اليهود اقتبسوا منه الكثير من العادات والتقاليد وتعلموا منه الزراعة والحرف المختلفة حتى اللغة علمهم إياها فما اللغة العبرية إلا الآرامية نفسها والتي كانت لغة الكنعانيين .. أبناء هذا الجيل يعاني من مسألة الجهل بتاريخ فلسطين القديم ..
لماذا أراد صبحي فحماوي أن يعيد كتابة التأريخ بهذا الأسلوب باعتماده على الأسطورة ؟ ..
الرواية هي اكتشاف في الواقع .. هو يخلق عالما ً من شخصيات ٍ وأحداث ْ .. التأريخ جزء ٌ لا يتجزأ عن حياة البشر , فهو المسجل الرئيسي لكل الأحداث التي تمر بهذا الكوكب .. وعليه كتب المؤرخون كتبهم وأنشغل الرواة والقصصيون وحتى الفلاسفة بأحداثه .. وحاول الصهاينة طمس الحقائق التاريخية والتي أكدت أسبقية الوجود الفلسطيني على هذه الأرض ..
ما زال شعب غزة ينزف دما ً .. ننسى التأريخ وهو لنا بالمرصاد .. يشعر شعب غزة المكلوم بحزن كئيب لغياب الرب بعل ويتمنى الملك عال ذو الستين عاما ً أن يُكـّـلل بعل بالنصر على موت ..
وادي النطـّوف هو منبت أول إنسان فلسطيني متكامل عرف الحياة قبل ألف ألف سنة .. وتعتبر الحضارة النطوفية الحضارة الأولى عن طريق تقدم الإنسان وارتقائه .. ومما قاله " ان الفلسطينيين أنسنوا هذه الكهوف قبل ألف ألف سنة , وانتقلوا من أغصان الأشجار ليسكنوا فيها , ومنها خرجوا ليحفروا آبار النطـّوف لتخزين مياه الأمطار وليبدأوا الزراعة ويقتنوا الماعز ويحسـّنوا أدواتهم الحجرية ... فمن خلالها وصلت التحولات الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين قمتها ..
يشرق نور الصباح .. الأشجار ترتعش خوفا ً من فحيح الخريف فتسقط أوراقها .. تقترب السيدة العذراء عناة من ولدها بعل .. تقترب منه قادمة من فوق أشجار الزيتون والصنوبر والبلوط .. لقد جاءت لتأخذه للتعبد عند أقدام ال .. فيرفض .. يبتعد راكضا ً بين وعر الغاب بينما تقف السيدة العذراء أمام هيكل ال وتبتهل ...
تغضب شمس من " موت " وتسلط عليه نورها الحارق , فينكسر بصره , ويضطرب قلبه ويرتعد بين ضلوعه ويتهاوى أمام الأميرالأعلى بعل .. وتظفر به فتشده بطرف ثوبه وبحربة نيرانها تطعنه .. وعلى وجه الأرض ترميه لتأكل الطيور لحمه , وتنهش جوارح السماء بقايا جثته .. بينما هي تقول له :
" ان تـَقتـُل تـُقتـل يا موت "
الشعب طالت آلامه وعلى بعل ان يفكر بإطعامه .. شعب كنعان يطلب الرحمة .. أرض كنعان تضرعت إلى بعل مستعطفة : أنت تحب الشعب الذي كونته وغذيته يريدك ان تعود خاضعا ً لرعاية ال . رب الأرباب ...
ينشط بعل من جديد ويقف بين أبناء عشيرته الكنعانيين .. يهوي بسيفه فتتناثر الأمطار .. يضرب بعصاه فتجري الأنهار .. يضرب برمحه فتخضر الأشجار .. يضرب بقضيبه فتتلاقح الأبقار .. يفتح حضنه فتلد الخراف الصغار .. يضرب بخنجره فيقضي على حرارة موت .. يضرب بقبضته يده فيستعيد سلطانه .. يضرب في الهواء , فيؤلل البشر أجمعين .. بينما يظهر ولي العهد نقمد .. ملكا ً جديدا ً للكنعانيين .. فيعاملهم بالمساواة ويبشرهم بالخير العميم والسعادة ...
هكذا جعلنا الروائي صبحي فحماوي نعيش عالما ً كنعانيا ً مذهلا ً وكما يقول عالم تخلقه الآلهة يم – حسب الأساطير الكنعانية – ثم تورثه إلى ابنها ال , اله الكون الأوحد والذي أكد أن الكنعانيين هم أول من آمن باله واحد احد يحكم الكون كله وليس اله جماعة محدودة من البشر .. انه عالم من الزراعة والصناعة والتجارة , جعل البحر المتوسط بحيرة كنعانية .. انه عالم عشق بعل وخراب موت اللذان ينتهي صراعهما بتغلب بعل الخصب والنماء والعشق والمحبة والحياة السعيدة ..
*علينا مراجعة التأريخ في مواد تراثنا ومعاودة التأمل واستخلاص العبر والتعرف على أساطير الأولين بما تحتويه من مضامين رفيعة وعلوم راقية .. مراجعة شاملة لتراثنا لأجل أن نستعيد وعينا لهويتنا , ونتقوّى للرد ّ على كل ّ من يعتبر أمتنا العربية طارئة على حركة التأريخ , وكل من يحاول طمس ّ الحقيقة التي سجـّلها التأريخ وحفظتها مد ّونات الأولين في مدنهم وقصورهم ...
*صبحي فحماوي / رواية قصة عشق كنعانية / دار الفارابي / بيروت / 2009
* الأسطورة توثيق حضاري / جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية / مملكة البحرين
#توفيق_الشيخ_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟