|
الرحلة الأخيرة للسيدة شيلان
عماد البابلي
الحوار المتمدن-العدد: 3416 - 2011 / 7 / 4 - 23:20
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
كل شيء بدأ بمكالمة هاتفية جاءت لسيدة أسمها ( شيلان ) ، مكالمة جاء فيها ( تعالي أرجوك ، أخوك في الطواريء ) ، ركضت شيلان للغرفة ، لم ترى سوى جثة دامية تساق بلطف لثلاجة الطب العدلي ، الأنسياق اللطيف لعربة الجثث قد يكون هو الثمن الوحيد الذي يقبضه الإنسان في حياته هنا ، كل شيء قاس في هذا العالم إلا حركة الجثة الهادئة نحو الثلاجة ، ( شيلان ) وقعت في غيبوبة كاملة من المشهد ، غيبوبة جعلها تعرج في عوالم لم تكن تعرفها من قبل ، لم يكن حلما أو حلم يقضة ، بل سفرة حقيقية أكتشفت أشد معاني الوجود قساوة وروعة في كل حياتها .. بعيدا ، حيث أرض الخراب ، أرض الأزمنة الملعونة والموتى الذي فقدا كل ذكرياتهم ، موتى كانوا دون أسماء أو عنواين محددة لهم .. في تلك الأرض الشاحبة ، يرتفع عاليا متحفا من الثلج ، رغم الحر الشديد ، كانت جدران الجليد لا تهتم كثيرا ، متحف الثلج العتيق من الأزل ، يسكنه رجل عجوز يرتدي ثيابا بيضاء ناصعة ، وزوجته التي ترتدي ثوبا أسودا بلون الفحم ، كان المتحف لقوارير صغيرة من الماء ، الأف القوارير التي الموضوعة بشكل فني على رفوف من مادة عاجية صنعت من العظام .. المتحف كان تزوره الأرواح المفارقة لجسدها توا ، تزوره مرة واحدة فقط في رحلتها الطويلة نحو اللامنتهى ، القوارير وحسب ما أخبرها به الرجل العجوز أنها تحوي الدموع .. دموع لتاريخ الحزن الطويل جدا لهذه الأرواح ، لا شيء سوى الصراخ والنحيب عند بوابة المتحف ذات الشكل القوطي ، وعند البوابة الأخرى تخرج الروح بملامح غير مبالية ، كانت عملية غسل مخ بالكامل حين تضع تلك الروح دموعها في أحد القوارير .. كانت القوارير تحمل حكايات الوجع لصاحبها ، أماني غير متحققة وخوف دائم من مجهول يسكن الغد ، مجهول يحمل أنزياحا لحالة اللا معنى والخيانة والوحدة وعدم الوصول والنهايات المغلقة والصخور والفراغ وأنها كانت تمثيلية ليس إلا ، أكتشاف متأخر لعناقيد العنب التي ذبلت دون أن يمسها أحد ، عناقيد أكتشفت للتو أنها مشاريع لملاك مرعب أسمه ملاك الموت .. كل تلك الصور للوعي الممتد ، هي مافهمته من زيارة السيدة ( شيلان ) لمتحف الثلج ، كانت أولى زياراتها ليست كميته ولكن كمستكشفه فقط تحاول عبثا فهم طبيعة الحزن البشري على هذا الكوكب المملؤ بالصعاليك والقادة والمناضلون وحيتان السياسة المتخمون بالكذب والأنبياء والقتلة ومتسولوا الجنس والخونة .. كوكب عصور الجاهلية التي لم تنمحي أبدا ... من تلك القوارير ، كانت قارورة أخوها ، شاب كردي أســمه ( حسين ) ، هذا الشاب فارق الحياة بفعل أطلاقة طائشة تعاني من الفصام العقلي في شارع أطلس في كركوك ، الشــاب في لحظة توقف قلبه وفي لحظة صافية كالدمع كان قد وعد زوجته بأن يشتري لها بعض الملابس ، وحين يستلم راتبه الشهري يأخذ أمه المريضة لزيارة الطبيب ، كان كل مايفكر به هذا الشاب هو هذين الشيئين ، وبدلا من أن يشتري لزوجته ملابس ، جعلها تشتري ثياب سوداء دائمة ، وأمه فقدت بصرها بشكل كامل .. الموت ليس قضية شخصية خاصة بالجسد ، لكنه حالة تتعلق بعائلة وبمحبين بأصدقاء تسبب لهم هجرة الروح حالة نصف موت كاملة ، نصف موت تمنع الشمس من مشرقها الدائم ، وتصبغ الشفاه بلون رمادي مقيت ... ذاك ماتعلمته شيلان من قارورة السيد حسين ، الذي تراه الأن يرقص في دبكة كردية لأغنية طالما رددها أمامها ( أغنية شهيرة للمطرب الفارسي معين أصفهاني ) ، وبرفقة بعض الزهور التي عرف للتو جمالها الحقيقي ، كان جمال طالما قد خفي عنه .. الزهور كانت تتجمع في باقة أسـمها ( جيمن ) كان أسم زوجته التي عقد قرانه عليها قبل شهرين من مماته ، ( جيمن ) الأن لم تعد تميز بين النهار والليل ولا يهمها كثيرا بعد هذا .. أرجعت شيلان السدادة لفوهة القاروة حتى أختفت الأغنية بشكل كامل وبدأت الصور تتحول لماء من دمع حسين الذي جمعه لأجل أمه وزوجته التي أنتظرته على الغداء في يوم 25 نيسان من عام 2011، يوم لقائه مع الأطلاقة الغادرة ، كان ( حسين ) كثير المزاح ، كان يتصل بإصدقائه وبشيلان دائما ليبدأ أتصاله بـ ( يوزرسيف يحجي وياكم ) ، بعد موته لم تعد تؤمن كثيرا بالســـــيد يوزرسيف أو قضيته السماوية ، كل ما يمزقها ونزع في صدرها الأيمان هو قضية الموت والحياة ولا قيمتها في هذا البلد ، ( حسين ) مات الأن وبقى المكانا خاليا ، من يشغله غيره ؟؟!! .. في أرض الخراب تلك التي ألتقت بها شيلان مع اخوها ، تبدأ الأن شيلان بالعودة لأرض الواقع بفعل حقنة ( أتروبين ) ، أخر ماشاهدته لحسين أنه حضر عدة التزلج لـ ( محسن ) – أبن خالته - ذاك الشــاب المقعد على كرسي متحرك ، حسين كان سعيدا جدا بأن ( محسن ) لم يعد يحتاج للكرسي هناك في ذاك العالم ... موت ( حسين ) هو مشهد قســري يعلن نوع مميزا للحداد الذي لم تعهده البشرية من قبل ، مشهد لروح قد تركت جسدها بفعل أطلاقة بندقية ، اطلاقة تحول الجبان في لحظة صمت لفارس من خشب .. المشهد الحزين يحمل ثيمة أن أرخص الأشياء هي روح البشر ، تلك ثيمة الفضاء الشرقي المملؤ بالأثم المقدس وكهوف العزلة ، فضاء غير متداخل يحمل أنتقالات خطّية لمجرى دمع هادر يريد أن يكون بحرا كبيرا ..
#عماد_البابلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لن أعمل أميرا للمؤمنين
-
نيتشه .. سيدا للنسور
-
الدوبامين وشيء أخر بعضه رائع
-
سوريالية نسر أعمى
-
عن المايتكوندريا وأشياء أخرى ...
-
كتابات أولى لملاك أبكم .. قصائد
-
الزمن الغير المحدب .. الزمن العراقي
-
معراجه الأخير ... قصائد
-
أنفلونزا فلسفية
-
عن حادس وعني وعنكم
-
الجين الأناني بطبعة عربية !!
-
الغراب شاعرا وضائعا
-
بشار الأسد بين ريتشارد الثالث والنرجسية الاقتصادية
-
مصطلح أل SHIN في الباراسيكولوجي
-
باراسيكولوجي الأقامة في نقطة الخطأ
-
شيزوفيرينا الجوع .. قصة قصيرة
-
القذافي .. تحليل نفسي متواضع
-
كوكب أسمه اللاشعور البشري
-
ترانيم شعرية بحبر بعضه أزرق
-
الزمن المكور في قصة اشياء أخرى للقاص عيسى ملسم
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|