سمر يزبك في روايتها ( طفلة السماء )
هذا صوت آخر من الأصوات الجديدة في سورية, يسرع الى الرواية. فبعد المجموعتين القصصيتين (باقة خريف) و(مفردات امرأة), تأتي رواية سمر يزبك (طفلة السماء) بعدما منعت الرقابة طباعتها في سورية - كما أفادتني الكاتبة - فأفسحت لها بيروت. وكما هو متوقع من ذكر الرقابة هنا, تتجرأ الرواية على أكثر من ممنوع عبر سرد سيرة راويتها نور, التي تفتح القول على سيرة المجتمع, من جيل الآباء الى جيل الأبناء (والبنات) خلال ثمانينات القرن الماضي بخاصة, وانتهاء بحرب الخليج الثانية.
وكما هو متوقع أيضاً من ذكر السيرية هنا, تروي نور الرواية معولة على ضمير المتكلم, وعلى فعل التذكر, بلغة بالغة الدقة والشفافية, وبخاصة في الفصلين الأول والثاني, قبل ان تجنح المبالغة في الجرأة على المحرم الجنسي, في الفصلين الثالث والرابع.
تطلع نور في مستهل الرواية هاربة من البيت ومن القرية المتاخمة للاذقية, متأبطة حقيبتها وذكرياتها, ومفعمة بالإحساس بأنها حرة في أن تضع قدمها حيث تشاء, وهو ما أشعرها بثقل وجودها: (سوف أمشي وحيدة من دون محظورات المحيطين بي).
الى مفاصل حاسمة مما سبق الهروب, تعود نور طوال الفصلين الأول والثاني. ويأتي ذلك كما يليق بفعل التذكر ومهارة البناء, والزمن يتكسّر, من اكتشاف الأب لغياب ابنته ليلاً مع سالم, الى العقاب الوحشي والسجن في البيت وفرار سالم من القرية, الى اعتزال الأب بعد الفضيحة, الى موت الأم المسيحية التي خالف من أجلها الأب أباه الاقطاعي, فتزوجها وهرب بها الى أوروبا شهوراً, ثم عاد والمرأة حامل بنور... ويتسربل ذلك بالقول الجارح في الأنوثة, فنور تسأل: (أي لعنة حلت بي عندما خلقت أنثى?), ومن التعاليم السرية في طائفة الأب, الى تربية الأم المسيحية, يتواصل الجرح (أن تكوني أنثى يعني أن تكوني غير موجودة), وتفتق التعاليم المتوارثة في الجرح: الأنوثة المتجسدة على الأرض هي أرواح مذكرة عوقبت بمسخها الى أنثى, وعندما تتحول الروح المذكرة الى أنثى فمن الصعب عليها العودة الى الذكورة, هي فقط تستمر عبر تجلي كونها امرأة, وذلك أقصى ما تستطيع فعله. وإذا حدث وأذنبت هذه الروح, فهي تتحول الى حيوان, وربما الى حشرة, وربما الى أشياء أكثر دقة).
هذه الأنوثة - تقول نور - دمرت عفويتها. وهي إذ ترسم فظاعة التأكد من عذريتها على يد الطبيب, إثر الفضيحة, بدت تشعر ان كل ما عليها فعله هو تحويل جسدها الى كتلة من الجليد, فتغرق في قراءة كتب خالها السجين السياسي السابق الذي عاش في باريس عشر سنوات, واعتقل بعد عودته وتوفي إثر خروجه من المعتقل, فغادرت زوجته الفرنسية, تاركة لنور إرثه من الكتب واللوحات.
وتجد نور في طاغور ملاذاً, لكن اكتشاف كتب كولن ويلسون يدفع الأب الى حرقها, فترتمي الكتب في النار, وتتبارى الألسن في حديث التقمص والمسخ الذي يترجع في روايات محمد عزام وأحمد يوسف داوود وحيدر حيدر وهاني الراهب وأنيسة عبود وكاتب هذه السطور, ونقرأ ان (هذه البنت ملعونة ومغضوبة, الله وحده يعلم ما الذي فعلته في جيلها الماضي حتى يحدث لها ما يحدث, والله وحده يعلم إن كانت ستبقى على هيئتها في الحياة المقبلة).
من قبل كانت دولة الأب دالت. فأسرته فقدت تميزها بعد ظهور طبقة جديدة من الأسر المختلطة المنتشرة كالأخطبوط في جسم الدولة, كما تقول نور في الفصل الثالث. وإذا كان الأب صعد في السلم الجديد, فهو سيخسر أحلامه بتكوين امبراطورية شبيهة بالتي كوّنها رفاقه في الحزب الذي لا تسميه الرواية, ولكن من الجليّ أنه الحزب الحاكم. فخلاف الأب مع ضابط كبير سيؤدي به الى السجن, وستصادر أملاكه, وتعود أسرته الى القرية والبيت المهجور, والشائعات تلاحقها حول رجلها المتورط في قضية أسلحة, والسارق للدولة. تحرّم الأم جسدها على الأب, وهي المثقفة التي تنتمي الى واحدة من الأسر التي حكمت المنطقة, والأم الضعيفة عادة أمام زوجها تنسحب من حياته إبان صعوده, وتقضي إثر نقضه لتحريمها جسدها عليه.
وترسم الرواية بحذق في شخصية الأب ذلك الأنموذج الصارخ في الحياة السورية طوال العقود الثلاثة الماضية. وبالحذق نفسه ترسم الرواية شخصية الأم وشخصية جدتها لأمها التي كانت صديقتها الوحيدة, لأنها عاملتها كإنسان له الحق في أن يفعل ما يريد, بينما كانت أمها تفرض عليها وعلى شقيقها علي الممنوعات, خوفاً عليهما من العالم الخارجي, وكان الأب يبدو مارداً سيبتلع الجميع, ووحشاً كرتونياً ستفرح نور لسجنه, وسيجعله موت زوجته أرق مع ولديه, لكنه إثر الفضيحة يقرر تزويج نور من ابن عمها.
نشأت نور مندفعة ومتطرفة, ما جعل حياتها (دوامة فوران وقلق ولعنة على عائلتي). ولذلك تحمّلها الألسن وزر موت أبيها, بعدما استعان بشيخ ليبرئها من جنونها, وهوّن من عقابها. ومثل اغتصاب الطبيب مما عدته نور الانتهاك الأول لروحها وحياتها, يحاول ابن عمها اغتصابها عشية هربها الى دمشق, محملة بالسجال المتواصل بين (نور طفلة الأرض ونور طفلة السماء) والذي تنتأ فيه الازدواجية والفصام المصطنع, فهل تقوم خلف ذلك غواية العنوان?
كانت دمشق حلم نور منذ الطفولة. وها هي المراهقة - الشابة التي تتهيأ للبكالوريا تفر الى الحلم, يلحقها اتهام الجد للأب بقتل الأم, فلنقرأ: (كتبت في روحي. أبي قاتل, سأعاقبه بقسوة. وتلحق نور أيضاً في الفرار الى الحلم الدمشقي ثنائية الروح والجسد التي طوقتها بها شخصية أمها, فتفجر تساؤلها عن انفصال الحب الروحي عن الحب الجسدي.
قبل سفر سالم خارج البلاد كان أحسّ بخواء انتمائه اليساري, وترك لنور عنوان رفيق ملاحق له في الحزب السرّي المعارض الذي فقد إيمانه به, ويؤوي نور ذلك الرفيق الأربعيني الصوفي الذي يعلق صورة غيفارا, والمنتمي الى أسرة دمشقية ثرية, لكنه تخفّى في سنته الجامعية الأخيرة, وفر الى بيروت, وشارك في المقاومة إبان حرب 1982, ثم قفل متخفياً وملاحقاً ومهزوماً, وبدا سعيداً بخرابه الفردي, وقد تبدد الحزب.
تساكنُ نور الرجل في غرفته. ومن كوابيس الحمى الى تدبير عادل عملاً لها في معمل البسكويت, الى تدريسه لها دروس البكالوريا, تتشكل من جديد, وترى رجولة عادل المرة مستعدة للتشكل داخل الأنوثة, ولتشكيل الأنوثة, وتلك هي الفلسفة التي تحلم نور بها: (الرجولة التي تتداخل في الأنوثة, وتجعل منها, ورغماً عنها, مكملاً حيوياً للوجود). بالعيش مع عادل تحس نور بحاجتها الى الرجل, وتلتف مثله على نداء جسدها حتى تكون بينهما المواجهة غير المقنعة, مثلها مثل ما في سيرة الجارة العاهرة أميرة من المبالغة كلما اتصل الأمر بالجنس, وحيث يأتي اغتصاب الجارة السحاقية لنور, مثلّثاً انتهاك الطبيب وابن العم لها.
يكلف عادل نوراً بعض المهمات الحربية السرية, وبعد نوالها البكالوريا تتابع الدراسة الجامعية والعمل في المعمل حتى يفض عادل بكارتها, فتبرأ من الخوف من ملاحقة شقيقها علي الذي تطوع في قوى الأمن, كما تبرأ من ازدواجيتها وفصامها. إلا ان حرب الخليج تندلع, وجراء الحرب يذوي عادل الى أن يترك لنور مثل رسالة سالم, ويرحل, فتذهب الى بيت أسرته, وتكتشف انتحاره, وتساق الى المحقق الذي رأت صورته لدى الجارة العاهرة: إنه زبونها وحاميها, وهذا مجلى آخر للفساد المطبق على الأعناق.
لا يبدو رحيل عادل ولا انتحاره مسوغين, على رغم قتامة ظروفه وعطبه. وإذا صح ذلك, وصح القول السابق بأن المبالغة في الجرأة على المحرم الجنسي تجنح بالرواية, أو القول بنتوء الازدواجية واصطناع الفصام بين طفلة الأرض وطفلة السماء, فما هو أكثر صحة أن سمر يزبك في روايتها (طفلة السماء) حفرت عميقاً, وبجرأة تحسب لها وتحسد عليها, في المؤسسة الدينية الطائفية, وفي مؤسسة الأسرة, وفي الجسد الاجتماعي السياسي المنخور, كما حفرت عميقاً في المكابدة الروحية والجسدية للأنوثة, لتكون الرواية اضافة مميزة لما تقدمه الأصوات الجديدة في سورية, مهما يكن الترجّح بين امتياز الفصلين الأول والثاني, والارتباك في بعض مواطن الفصلين الثالث والرابع.
الحياة (22/8/2002 )