|
حياة قصيرة جداً
فريد الحبوب
الحوار المتمدن-العدد: 3411 - 2011 / 6 / 29 - 13:07
المحور:
الادب والفن
آنذاك في السنوات الحلوة الممزوجة بالشراسة والتأمل والعبث لم يكن يخلو يوم من أيامي من الغناء والهذيان وصخب القراءات الملغزة بمفاهيم تقرب الله وتبعده أما شمال الحياة وجنوبه فتركع مع أحاسيسي وتضرم بي ألآلام والأفراح، كنت مشغول بما أقراء بتوق مطلق وفي كل مخاض تهبط موجات جموحي وترتفع حتى لم يرسو لي صاريا أو شراع بل كنت مشتت يخالجني الارتياب والحيرة تنهم عقلي دون رحمة، فتشردت تركت منزل عائلتي وهربت مثل مجنون صوب الشارع احمل بعض ملابسي وثلاثة كتب أتذكرهما جيدا لاني قرأتهما أكثر من مرة فالأول لجورج ارمادو (أرض ثمارها الذهب ) والثاني (رحلات هان يرش هاينه) والثالث كان يتحدث عن حياة فنسنت ( فان كوخ) وألا خير هو الذي أتعبني وجعلني أأول كل شي ولم يكن لي سبيل سوى التسكع طوال الليل. قضيت احد عشر يوما في غرفة صغيرة في إحدى الفنادق البائسة والهرمة وسط بغداد في منطقة الميدان كانت الغرفة متربة وغاصة بالقدم، ولم يكن هناك (دولاب) ملابس أو مصباح إما السقف فكان يهددني بكل الأوقات والجدران متهرئة شاحبة يتكأ على أحداها باب مخلوع لم يتبقى منه سوى أطار قرضته الجرذان وبكاء السكارى وهموم من يرتطم به دون قصد وباب للدخول والخروج ذو لون مزرق يبدو انه صبغ عشرات المرات ورغم هذا لم تختفي عيوبه يفضي إلى شرفة حذرني صاحب الفندق أنها قد تتحطم بأي لحضه إما السرير فقد اضطررت لشراء شرشف يقيني التراب وبقع البول والقيء التي كانت تملأ الفراش على حد سواء. في أحدى الليالي التي هب بها نسيم كثير وترطب الجو بكثير من الضباب الذي مر مسرعاً وعلى الجسور تكثف وتبلور غيمة وأحلام واهية حجبت عن روحي الكثير من ضنى مشاعري. كانت النواقيس الخافتة على جسر الشهداء تزور حكايات الماضي، مرت على حادثة الثوار الذين قضوا معظمهم على شارع الجسر كانوا قد انطفئوا مثل كواكب واختفوا كماء جف وسط صحراء حارقة، وصفهم لي أخي الكبير ذات مرة كنا إنا وهو على الجسر لقد رسموا لوحة شرف فوق موج الثورات وأحزان عيونهم المغمضة لم تشف حتى ألان في قلوب المتوضئين في صلاة الوطن، أسموها النكبة وفي رأيه لم تكن نكبة بل بلغوا ذروة الانتصار في تلك الحادثة المروعة والقاسية التي انتهت بموت العشرات، عيونهم ألان تلك النواقيس المعلقة على أعمدة الجسر أعجبتني هذه الصورة وفعلا يخيل لي ألان أنهم مصابيح وأن البنادق التي طالت صدورهم لم تكن تعلم وجهتها. كنت الوحيد على الجسر فلا عابرين ولا تمتمات حبيبان هائمان. تركت الجسر بعدما وجدت حقيبة سيدة شدني الفضول إن أتفحص ما الذي في داخلها، أدركت أنها لفتاة شابة جميلة بعد أن وجدت صورتها داخل الحقيبة منفردة وصورة لعائلتها وهي تتوسطهم أظن إنهم كانوا في حفلة ميلاد. وجدت أشياء أخرى خاتم من فضة، أوراق، قرطين من ذهب، ومرآة صغيرة نظرت لي كنت أشبه إلى حدا ما بلص. انتهيت من الجسر امشي وسط شارع الرشيد باتجاه الميدان وإنا أزود نفسي ببعض الحقائق التي اكتشفها عني، لم أحب حتى ألان حبا مخلصاً، وأنني كسول لا أرغب في العمل وضميري لا يجتذبه الشر. فكرت لو أن العمر يمضي إلى سنين متقدمة كيف ستنحسر ألأمنيات وكيف ستتصدئ ألأحلام ويتضاءل صدى المسرات ولكني قلت ما أمر به ألان سيكون في الكبر ثروة على شرفة التذكر وفي أواخر العمر ستكون دفاع عن الوجود فكلما تذكرت أكثر من زمن الربيع ستخف حده وحدتي وتلين الغصون التي ستجف بفعل رياح قاسية تهب من داخلي. كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل وساحة الميدان خالية ألا من الصمت والباصات الكبيرة ذي الطابقين التي كانت تملا شوارع بغداد، أواه كنا نقف عند مدخل شارع الجمهوري في انتظار (ألأمانة) فتيات يقصدن سوق الشورجة وفقراء وكبار السن وطالبات يانعات كنا نجلس حيثما يخترن مكانهن في الطابق ونسرح بترصد عيونهن، كم كنا نخاف ونتهاوى حياءً بعد ثقة تمنحها أللفتات وأهداب العيون تنادي لنا وما إن نقترب حتى يأتي التوبيخ ومباشرةً نترجل خجلاً وخيبة من أجل إن نهرب من الموقف الذي مر كثيراً بأصدقائي ولاسيما بالنسبة لي، كانت الساحة مضأةٍ بمصابيح مختنقة بشيء من الضوء الخافت وهي معلقة عند واجهة المحلات والفنادق التي تحيط بالساحة ألا أن كل شيء كان متواري في ضلال الباصات والتي تحول معظم ألاماكن في جنبها إلى معتمة وغارقة في الظلمة كنت أجوب الميدان وأحاسيس قلقة بدأت تنتابني لم أعد أغني ولا ثمالة أنفاسي تنعم بالنسيم بل بدء الخوف ينتابني، رأيت بعض الرجال والمجانين والعجائز المشردات متوزعات تحت مواقف الباص كانت بالنسبة لهن بيوت مع صررهن الممتلئات بما يملكن من أشياء حياة قديمة وعفنة ولكن هذه الصرر كانت تمثل كنز وثروة. أنقبض صدري وتأسفت لحال النساء والسكارى وأزقة الميدان. وفي تلك اللحظة واجهة وجهاً دب فيه الكبر والانكسار وغازلته قسوة برد الليل حتى تجلد أما حاجبيها المتقوسان كانا كثيفين غطا عيناها وتوارى الجفن خلفهما غمغمت بكلمات ثم ظهرت عيونها تحمل في عمقهما بؤس كبير وروح صارمة تحدت كل شيء مرت به. _قالت: أيها الشاب هل تود الشراب معي _قلت: لا _قالت: لا تخف صدقني المكان والكأس نظيف سأخلي لك المصطبة من حياتي.... تفضل أجلس أنت ضيف غير منتظر وما أجمل أن تلتقي هذه الأيام غريب ولا يخافك. جلست عند طرف المصطبة وبهدوء قدمت لها سيكارة وأخبرتها أني لا أشرب البيرة. كنت أتصور إن من المستحيل إن تكون هذه النساء الحافيات اللواتي يدرن في الميدان ينطقن أو يكونن طيبات القلب يدركن ما حولهن. أخبرتها بفكرتي هذه وقالت انتم واهمون ومخطئون فبالرغم من أننا نعيش بلا هوية وجلودنا قاسية كجلود الأحصنة وعفنات تفوح منا رائحة البول والنفاية كأننا حشرات ألا أننا كنا يوماً بشر مثلكم مثلك أنت أيها اللطيف. رفعت يدها تخيلت ستضعها فوق فخذي الذي كان بجوار رأسها ألا أنها لمست شعرها الطويل المغطى بشيب كثير ألا بعض ألأشواك التي كانت بارزة في مقدمة رأسها، أجهشت بالبكاء وبدأت تتحسس حياتها الماضية.ومضت تتحدث بصوت خافت وحسير. كنت قد أينعت وقربت من عمر الرابعة عشر وأبواي حولي وفجأة أنكسر كل شيء مات أبي وماتت أمي ونهب البيت أعمامي وطردوني وحين جن أول ليل بحياتي بعيدا عن منزل أهلي. عرفت حينها أي حياة تنتظرني وأي عواقب وخيمة ستهز وتغير مسار حياتي. كانت تتحدث والليل جوقة حزن تعزف بروحي عذاباتها. وبعد أول مرة اغتصبني فيها شابين احدهم كان بساق واحدة وألاخر يتكلم بصعوبة كان يتلعثم كلما نعتني (ساقطة). فكرت في الانتحار بعد إن تركاني مدماة في بيت مهجور. هل تعرف أيها الشاب كم فكرت في الانتحار ولم أستطيع الموت. وذات مرة وجدت رماد فأخذت قبضة منه وقمت بابتلاعها ولم أمت ومرة تناولت سم الجرذان ولم أمت إن ربي يريد إن يبقيني عاهرة وبالفعل بقيت كذلك وصرت ما أنا عليه ألان. أتعرف كم هم اللذين قبلوا ساقي وكم من الأكابر والتجار ورجال حكومة شتمت وعذبت، يتمسحون بي لقد رأيت منهم كل أشكال الجبن والدنأة، وكم هم اللذين ناموا على أفخاذي يشخرون وهم يلعنون زوجاتهم وشرفهم. كنت أفكر لهم بذرائع تسهل عليهم المبيت خارج البيت. لم أود أحدا قط فكلما نظرت لأحدهم ترأى لي أبن أوى وهو ينهش بعمري ولحمي. تواصلت في حديثها واستغرقت بكل آهاتها وشجونها ولم أكتشف أني قضيت على علبة سكائر كاملة وأنا أصغي ولربما كان السبب وراء ذلك الدخان الذي يمتزج بالضباب المتزايد ليمتدا في ظلمة الليل بهدوء. أخرجت من أحدى صررها بطل بيرة أخر كان مفتوح ولم يبقى منه إلا القليل شربته وتمتمت لن أقدم لك ثانيةٍ فأنت خائف من الله. أجبتها هذه الأيام أنا متمرد وأفكر في الله، نظرت لي بسخرية. _قالت: لا يفكر بنا _قلت: من
_قالت: لكثرة آثامي أفكر أحيانا أنني مريضة، أرجوك أخلعني من ذكر الله، لم يفكر بي لذا لا أريد أن أفكر به، وبالتأكيد سأذهب إليه يوما وأتصور انه قريب هل تظن إن شكلي سيكون سخيف ومغضب أمامه. تبسمت بإعياء ثم صمتت وأهداب عيونها تعاتب مجهول ثم تابعت..هل أنا أهذي اغفر لي منذ عشرون عاماً وأنا لم أتحدث لأحد منذ هجرت عملي كإحدى السافلات في البيوت.. نظرت وجال بصرها حائر وحزين ووجها مثقل بالعذاب والحسرات وأضافت: _الضباب كثيف.......آه يا ولدي تقبل مني إن أقول لك يا ولدي _قلت: ولما لا أنتي بمثابة أمي وصرت أبكي بكاءاً شديد. _لماذا تبكي....وتنهدت وأضافت هل تبكي لأجلي، لا أرجوك أنا فقط امرأة هرمة وسأخمد وينتهي أمري أنا وهذه الصرر التي أحملها كل يوم على ظهري. وانتحبت بكل قواها الواهية ورفعت رأسها عالياً كأن أحدا نادى وسط الظلام والضباب. اضطربت، قبلت رأسها ونكست رأسي ولسعتني شهية مخيفة للصراخ والنوح وغرق فكري بصور قاتمة تشرد مني كل شيء جميل. أي خيانة يصنعها الإنسان وأي قسوة تحمل ضمائرنا، فكرت بنذالة العصابة التي سرقت حياة هذه المرأة، كان الضباب يتلقى وجع ضميري وعيناي مغلقة خفت من إن ألمهما قد لا يعيد لي نظري. ثرثرت لعشر دقائق أو أكثر ولم يجد قلبي مكاناً يستكن فيه بعيداً عن الألم، ولم يترك لي الأسى سبيل وشعرت بالضعف كصاعقة ضربت جسدي، ولزمت صمتاً حانقاً كان جلدي يقشعر كأنه شفى للتو من عدة حروق، وفكرت أين أذهب بها، كيف أنقذ ما تبقى لها من أيام لا أملك شيئاً لا بيت ولا مال ولا أعرف من البشر من يستطيع إن يؤويها، وأكثر الناس بلا قلب مثل هذا الليل بلا قمر، شعرت أني لست ولدها مثلما تمنت، خاب ضنها، فيما الحزن يشتعل في عيني وضميري يثخن أكثر فأكثر بالجراح وهام الحرج فوق خطواتي ولا أدري أين غبت وأي متاهة ساقتني، لم يتح لي الضباب إن أعرف أين أنا وأين مشت خطواتي.
#فريد_الحبوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الريف والمدينة قريتان ليس ألا....
-
نصوص توشك إن تنام
-
جحافل جيش المهدي تنادي جيش عمر
-
حب لليله واحده
-
حب لليلة واحدة
-
نحن والساسة كاذبون
-
الكافرون ملائكة التسامح والحياة
-
الذكريات المملحة بالإسرار
-
من أجل حفنة من الدنانير
-
نازك العابد.....نازك الملائكة
-
حكاية مروان... عزائي إن لا شيء ثابت
-
أحمد المهنا :ينتقد الاسلام السياسي
-
مظاهرة تحت المطر ورائحة الطين
-
الكتاب الثقافي يتخطى الكتاب الديني
-
وزارة الزيارة
-
مرتزقة التيجان السبعة
-
بصمة البرلمان
-
وكيل الوزير نحترمه أم نحتقره.....؟
-
الزيدي يطيح بالمالكي
-
جمعة صلاة، أم جمعة مظاهرات..؟
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|