|
الجذور المادية للشعر و الفنون
عمار عكاش
الحوار المتمدن-العدد: 1015 - 2004 / 11 / 12 - 07:43
المحور:
الادب والفن
( الجذور المادية للشعر و الفنون ) ينظر إلى الشــعر وظيفيّا ً كوسيلة للـبوح بمكنونات النفس البشريّة،أو التعبير عن واقع معيّـن بوصفه شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي، وبغضِّ النظر عن طابعهِ الوظيفي، فهو شكل خاص من أشكال الكلمة واللغة، فإذا ما أردنا أن نسلّط الضوء على نشأته وبدايته، توجّب علينا أن نعود إلى جذور الكلمة الأولى،أي إلى أصل اللغة وظهورها لدى الإنسان لا سيّما أنّ آداب الماضي المكتوبة لم تدوّن إلّا في حالات نادرة إنّما نُقلِت شِفاهاً. تميَّز الإنسان البدائي عن الحيوان بالعمل الواعي المنظّم الموجّه إلى الطبيعة لتلبية احتياجاته الماديّة منها باستخدام أدوات العمل،هذه الأدوات التي مـثّـل ظهورها نقطة تحوّل فريدة فصلتْ الإنسان عن العالم الحيواني،ففيما الحيوان خاضع للطبيعة ويعيش بالطريقة التي تتيحها له أعضاؤه، ويتكيّف مع العالم بالطريقة التي تتكيّف بها أعضاؤه كونها الأداة الوسيطة بينه وبين الطبيعة، يقوم الإنسان بتكييف أدوات العمل بمقتضى حاجاته المطلوبة من الطبيعة. و مع ظهور أدوات العمل لم يعد شيء مستحيلاً نظريّاً على الأقلّ،فما على الإنسان سوى العثور على الأداة المناسبة ليحقّقَ ما كان غير ممكنٍ سابقاً، ويستطيعَ إخضاع الطبيعة واستخدامها كوسيلة لتحقيق أهدافه، غير أنّ هذا لم يكنْ ليتمّ بين ليلةٍ و ضُحاها،.... لقد مرّ َالإنسان بعصورٍ اقتصاديّة مختلفة، كانتْ قوّتها المحرّكة الصراع الطبقي واستغرقتْ آلافاً من السنين تطوّرتْ خلالها القوى المنتجة تطوّراً كبيراً ، تمكّن خلالها من إغناء معارفه العلميّة حتّى تحققتْ له سيطرة جزئيّة على الطبيعة في عالمنا المعاصر ومازال الصراع مستمرّاً. وجد الإنسان البدائي نفسه عاجزاً وضعيفاً أمام طبيعة خطرة مجهولة مليئة بالظواهر الغامضة، وعانى من نقص في حاجات ماديّة وسيكولوجيّة متنوّعة، كان لا بدّ له من تلبيتها، ولمّا كان ذلك غير ممكن في ضوء ضعف معارفه العلمية، بدأ بالتعامل إزاء عجزه هذا مع الكون كما لو أنَّه قابل للتبدُّل بفعل أمر صادر عن إرادته،فما لا يمكن تحقيقه في الواقع يمكن رسمه في الخيال أي خلق إيهام بالسيطرة عليه، ومن هنا كانت نشأة السحر، حيث أخذتْ القبائل البدائيّة بممارسة طقوس سحريّة تستعين بها لمقاومة عجزها أمام الطبيعة تمثّلتْ بالمحاكاة والتقمّص والتقليد ( التشبّه بمظاهر الطبيعة) وذلك عبر الصور والرموز والرقص والإيقاعات الجماعيّة 0000من أبسط الأمثلة على ذلك قيام الصيّاد بارتداء جلد الحيوان المطلوب صيده وتقليده في خطواته وحركاته خلال رقصات الصيد الجماعية قبل الانطلاق لصيده أو رسمه على جدران الكهوف، ومن الطقوس السحريّة التي يبدو فيها بوضوح مفهوم السحر الذي ذكرناه، رقصة البطاطا لدى قبائل الماوري(1)،والتي كانوا يؤدّونها عندما يكون موسهم من البطاطا مهدّداً من قبل الرياح الشرقيّة العاصفة،حيث كانت الصبايا تذهبْن إلى الحقول، وتؤدّين رقصةً تقلّدْن فيها هبوب الريح وتجمّع الغيوم وهطول المطر ونمو الغلال..عبر حركات الأجساد، إنّ كلا الطقسين يمثلان محاكاةً لظواهر طبيعيّة بهدف خلق إيهام أو انطباع بتملّكها أو السيطرة عليها ، وهما في جوهرِهما تعبير عن واقع متخيّل مرغوب في تحقيقه،...على أنّه لا ينبغي لنا أن نعتقد أنَّ وظيفة الطقس السحري تقف عند هذا الحد،فقد كانتْ قيمته المعنويّة كبيرة، فرسوم الحيوانات مثلاً كانتْ تمنح الصيّاد شعوراً بالتفوّق على طريدته وقدرته على تملّكها وتزيد ثقته بنفسه وبالتالي تزيد مهارته في الصيد،والصبايا باعتقادهنَّ أنَّ الرقصة السحريّة ستحفـظ الغلال، كنَّ يـزددْنَ حماســاً للعنـايـة بهـا ورعايتهـا، لقد كان السحر وسيلةً حقيقيّة لزيادة قدرات الإنسان البدائي في صراعه من أجل البقاء، ومثّلتْ التجليّات الطقسيّة للسحر كالرسم والرقص وقرع الطبول وغيرها الجذور الأولى للفنون رغم أنّ وظيفتها الجماليّة كانتْ واهية أوشبه معدومة، ويمكننا القول أنّ هذا السحر الذي يمثّل إحساساً بالعجز وخوفاً من الطبيعة مع القدرة على السيطرة عليها إنّما هو الجوهر ذاته لكلّ فن أو كما يعبّر بليخانوف: (( إن دراسة الفن لدى الشعوب البدائية قد أثبتتْ أنّ الإنسان الاجتماعي ينظر عموماً إلى الأشياء والظواهر من زاوية منفعتها ، وأنه لا يأخذ بوجهة النظر الجمالية حيال بعض من تلك الأشياء والظاهرات إلا في زمنٍ لاحق ))(2) وبدون شك إنّ عمليّة ظهور السحر أعقد وأغنى ممّا أوردناه ، وتطلّب ظهوره تراكم خبرات كثيرة لدى الإنسان ، ولا يجوز لنا فهم القضيّة بصيغتها الميكانيكيّة الجاهزة : محرّض( حاجة مادية)استجابة( ظهور السحر)، فما عرضناه لا يتعدّى الخطوط العامة لظهور السحر كأساس للفنون. ننتقل الآن إلى مسألة الشعر وتحديداً الكلمة التي هي بيت القصيد في نشأته،إنَّ ولادة اللغة تمّتْ في إطار من العمل الإنتاجي الجماعي ولا سيّما بعد ظهور أدوات العمل، حيث ظهرتْ الحاجة لتنسيق كافة الحركات التي تصدر عن العاملين أثناء أداء العمل جماعيّاً ، وكما أسلفْنا كان ظهور أدوات العمل إيذاناً بانفصال الإنسان عن العالم الحيواني، ولكنّ هذا الانفصال لم يكنْ ليتمَّ فوْراً وبصورة نهائيّة، لذا تمَّ التنسيق بدايةً عبر الرموز الصوتيّة والإيماءات ، و لهذا السبب نجد بقايا آثار الأصوات الطبيعيّة في جميع اللغات البدائية، ومن ثمَّ وعبر التطوَّر التالي للعمل وأدواته ( وسائل الإنتاج ) تمَّ الوصول إلى لغة وكلام متميَّزين، وبذلك ارتدى الكلام وظيفةً إنتاجيّة بادئَ الأمر لدوره في تنظيم العمل ونقل المعارف والخبرات الإنتاجيّة، قبل أن يتحوّل إلى وسيلة تواصل واعية بين الأفراد أمّا حركات العاملين التي كانت تتمّ سابقاً بدون مصاحبة صوتية فقد تحوّلتْ لاحقاً إلى رقصة رمزيّة ، غير أنّنا نجد حاليّاً نوعين من الكلام في اللغة:
1- الكلام الدارج (اللغة المحكيّة): وهو وسيلة التواصل اليومي بين الناس . 2- الكلام الشعري:وما هو إلّا شكل متقدّم من الطقوس السحريّة البدائيّة،والشكل اللغوي الإيقاعي للحركات المنسّقة للعاملين آنفة الذكر،فالشعر يمارس سلطة سحريّة على متلقّيه،وهو إن كان رصداً للواقع فإنّه لا ينقله بصورة تقريريّة جامدة،بل ينطلق منه ويثير إيحاءاتٍ وخيالاتٍ وأحاسيساً متنوّعة لدى متلقّيه،لعلّ هذا الأمر دفع كاتباً مثل شيللر للقول :(( إنّ اللغة تعبِّر عن جميع الأشياء بتعابير العقل ولكنّ الشاعر مطلوب منه أن يعبّر عنها بتعابير التخيّل ))(3) وفي الحقيقة إنّ أي قارئٍ للشعر سيلحظ لدى الشعراء المتميّزين كلٌّ حسب عصره ((تطلّعاً إلى لغة مبتكرة وسحريّة))(4). ولدى بحثنا في جذور الكلمة الشعريّة ينتابنا سؤالٌ يطرح نفسه بقوّة هو كيفيّة الانفصال بين الكلام الدارج والكلام الشعري، فإذا ما عدنا إلى حياة القبائل البدائيّة ولغتهم، لا نجد فروقاً واضحة بين الكلام الدارج والكلام الشعري،فحديثهم ترافقه حركات جسديّة كثيرة، ونبرة تحمل في ثناياها روحاً لحنيّة، وإنّ أياً منَّا يمكنه أن يلْحظ هذه الروح في سِيَر وأقاصيص شيوخ وعجائز القرى وغيرها ممّا هو من عناصر الشعر، فكيف تمَّ هذا الانفصال إذاً؟. إنّ جماعيّة العمل لدى الإنسان البدائي القائمة على جماعيّة الملكيّة افترضتْ جماعيّة الحياة الروحيّة، فجميع الطقوس التي ذكرناها كانتْ تعبيراً عن إرادة جماعيّة وغالباً ما كانتْ تمارس بشكل جماعي أيضاً،ومع التطوّر التالي للبشريّة وترسّخ التقسيم الاجتماعي للعمل والانتقال إلى المجتمع الطبقي انفرزتْ طبقة مالكة لوسائل الإنتاج يقتصر دورها على إدارة العمل وتستأثر بمعظم مردوده، وبذلك أصبح العمل الفكري حِكْراً على هذه الطبقة وإداريّيها، فيما انحصر أداء العمل الجسماني على الطبقات الـمُستغلَّة، وبحكم هذا الانفصال بين العمل الفكري والعمل الجسماني (( أصبحتْ الحياة الروحيّة قطَّاعاً مستقلّا ًنسبيّاً عن قطّاعات نشاط الناس الاجتماعي))(5) و أخذ الانفصال يتمّ بشكل تدريجي بين اللغة الشعريّة واللغة اليوميّة الدارجة بين البشر (6)، وإن كانتْ الحدود بينهما نسبيّة وغير ثابتة إضافةً إلى ما سبق كانتْ الخطوة الحاسمة لتطوُّر الشعر وظهوره بشكله المتميّز هي فصله عن الرقص . ولنعزّز ما أوردناه عن صلة الشعر بالعمل،نأخذ أمثلةً من تراث الشعوب الذاخر بأغنيات العمل التي تـنبع سحريّتها من محاولة تحقيق واقع مرغوب غير ممكن حدوثه ،كأغاني الرعاة التي تتمنّى أن تحفظ العناية الإلهيّة قطعانها من الوحوش،وأغاني الحطّابين التي تتمنّى أن تنقطع الأشجار من تلقاء نفسها دون أن يمر عليها الحطّابون بفؤوسهم، ومن تراثنا الشعبي نأخذ نوعين من الأغاني التراثيّة الشهيرة: - الدلعونا:وهي تحوير لكلمتي (إدّي - العون) نشأ هذا اللون الغنائي في إطار تعاون الفلّاحين في تعمير بيوت جديدة في قراهم. - الميجنا: وهي تحوير لكلمتي(مين - جنى) نشأ هذا اللون الغنائي في إطار تعاون الفلّاحين لجَنْي محاصيلهم. أمّا عن إيقاع الأغاني الذي يتمثّل بتعاقب أنغام منسّقة،فهو فيزيولوجي المنشأ حيث تطوّر عن حركات العمل المنسّقة،التي بدأ يعبّر عنها صوتيّاً،فتأنْسَنَ بذلك الإيقاع وارتدى مهمّة اجتماعيّة وهي تنسيق حركات العمل. نأخذ مثالاً من عمل البحّارة وهو التجذيف في سفينة إذْ يتطلّب عمليّة عضليّة بسيطة مؤلّفة من حركتين وهي رفع المجذاف وإنزاله، ويعبّر عنها صوتيّاً (أو- أوب) أمّا جرّ السفينة فيتطلّب جهداً أكبر وعمليّة عضليّة أطول،فيصبح الإيقاع الصوتي المعبّر عن هذه العمليّة(هو- لي- هو- أوب)،وأحياناً تنتهي هذه التعابـير بصيحة الاستراحة كما هو الحال لدى البحّارة الروس(إي – أوش - نييم)، وفيما بعد تطوّر هذا الإيقاع إلى أغاني ذات كلماتٍ،وارتدى الإيقاع المباشر شكل لازمة،وخير مثالٍ على ذلك أنّ كلّ أغانينا عن البحّارة سواءً التراثيّة منها أو المعاصرة،ترفق بكلمة هيلا...،وليس هذا الاستخدام مجّانيّاً،بل إنّ هذه الكلمة تمنح الأغنية قيمتها الدلاليّة وطاقتها الإيحائيّة التي تنقل المتلقّي إلى عالم البحّارة وحياتهم. ومن التراث الكردي نأخذ أغنية البرغل مثالاً على اللازمة الإيقاعيّة آنفة الذكر حيث تؤدّي الأغنية فتاتان بالتناوب فيما يُدَق القمح المطبوخ بمدقّ خشبي كبير بغية تقشير حبّاته: (( همْ دي همْ دي همْ دي الحبّ برغل الجرن حجر الجميلة ليستْ هنا همْ دي همْ دي همْ دي إنّه لبيتُ الشيخ أضيفي ضربة أخرى ))(7) إن الصلة بين العمل و الفنون تتبدّى بشكل كبير في كون الكثير من رقصات الريف ماتزال تتضمّن عناصر من العمل الزراعي مثل رقصة الحصاد لدى الأكراد التي هي نسخة طبق الأصل عن الحركات المؤدّات أثناء الحصاد، في حين أن هذا الأمر غير موجود في الرقصات المدينية. ويقودنا البحث في مسألة نشأة الفن إلى مسألة أخرى وهي قضيّة التذوّق الجمالي التي هي بمثابة العمود الفقري للفنون، ما هو مصدر مشاعر الإنسان الجمالية ، هل هي تجسيد لقوانين حركة الفكرة المطلقة الهيغلية و تعبير عن خاصية ملازمة للروح ، أم روحانية ذاتية كانطيّة منفـلتة من شروط التطوّر التاريخي والاجتماعي ، أم أنّ مرَدّها إفراغ فرويدي لما هو مكبوت ومحرّم في قالب مقبول اجتماعيّاً ، أم هي مسألة مشروطة بالجغرافية والبرامج الوراثية التي تحتويها الصبغيّات ؟.. إن قليلاً من البحث والتمحيص في المكتشفات التاريخية والاجتماعية والبحوث والنظريات الفنية وستعيدنا إلى الموضوعة الماركسيّة القائلة العمل هو الذي خلق الإنسان. كان عالم الأحياء الإنكليزي المعروف تشارلز داروين قد أشار في كتابه أصل الأنواع إلى وجود حس جمالي غريزي لدى الحيوانات ، مستدلاً على هذا الأمر من طقوس موسم التزاوج ، فذكور الطيور تحاول اجتذاب الإناث من خلال عرض مفاتنها ، كالطاووس الذي يفرش ريشه ذي الألوان الأخّاذة لاجتذاب الإناث ، مثل هذه الطقوس لا يمكن تفسيرها إلّا بوجود حس جمالي لدى إناث الطيور والحيوانات يجعلهنّ يتأثّرن باستعراض الذكور لمفاتنهم ، ولكنّ عند الانتقال إلى المجال الإنساني نعود مرّةً أخرى لنذكر أن العمل هو الذي ميّز الإنسان عن الحيوان وجعله ينفصل عن سرّة الطبيعة ، و أنّ التجمّعات البشريّة تأسّستْ على أساس تلبية حاجات الإنسان من الطبيعة ، لذا يتوجّب علينا أن نقرن ماهو بيولوجي بما هو سوسيولوجي مُتماهي مع ما هو اقتصادي ، فالتفسير البيولوجي لا يفسّر لنا شيئاً فعليّأً إنّما يُعْلمنا فقط بوجود حس جمالي لدى الإنسان، أما تجلّّي هذا الحس الجمالي وتظاهراته عبر العالم المادي المحسوس والعالم الروحاني فهذا أمر يتطلّب منّا أن نبحث في خصائص كل تشكيلة اقتصاديّة اجتماعية مرّ بها الإنسان ولا يقتصر الأمر على الشعوب المتحضّرة فقط بل يشمل القبائل البدائية التي لم تخرج كلّياً من الطور الحيواني ، فنحن نجد إنسان هذه القبائل كان كثيراً ما يتزيّن بجلود الحيوانات المفترسة وأسنانها و مخالبها، ومثال ذلك قبائل الهنود الحمر في غربي أمريكة الشمالية التي كانت حتّى بدايات اكتشاف القارة تتحلّى باستخدام الحِليّ المصنوعة من مخالب الدب الأشهب ، لكونه أضرى الحيوانات التي تتصارع معها وتهدّد وجودها ، فالمحارب الهندي يؤمن أنّ شراسة الدب وقوّته ستنتقلان إليه عبر مخالبه وأسنانه ، فهو يستخدمها كحليّة وتعويذة في آنٍ معاً دامجاً الشيء المادي بالسحري. وهناك مثال آخر قد يبدو غريباً للوهلة الأولى ، فقد كانتْ قبائل الباتوكا في الزامبير تعتبر الرجل الذي لم تخلع قواطع فكّه الأعلى قبيحاً ومنشأ هذا المفهوم الجمالي يعود إلى كون هذه القبيلة تتعاطى تربية الأبقار والثيران كمصدر أساسي لمعيشتها وإلى كون هذه الحيوانات مؤلّهة تقريباً ، فالإنسان بحكم طبيعته البيولوجية يمتلك حسّاً جماليّاً لكن الوقائع الاجتماعيّة والمتعلّقة بشكل خاص بأود معيشته لا سيما في العصور البدائيّة هي التي تحدّد طريقة تجلّي هذه الأحاسيس . ومن الأمور التي يتوضّح فيها المفهوم المادي اقتصاديّاً هو ما نجده لدى نساء العصر الحديدي ، حيث كان الحديد أثمن المعادن في تلك الحقبة التاريخية ، ممّا كان يدفع النسوة لا سيما نسوة الأثرياء إلى حمل حلي حديدية تصل أوزانها أحياناً إلى ستّة عشر كيلو غراماً ، دون أن يكترثْن بالجهد والتعب الذي يتسبّبه هذا الوزن الضخم لهن طالما أنّهن سيبدين جميلات من منطلق أنّ الثمين جميل ، وهو ما كان يدفعهنّ إلى حمل أغلال العبيد بسعادة على حد تعبير الباحث جورج شوين فورث(8). وتبدو الصلة المباشرة بين تطوّر القوى المنتجة والفن والحس الجمالي ، إذا ما قمنا بعمليّة مقارنة بين الفن التزييني لدى القبائل الصيّادة والقبائل الزراعية ، فالنماذج التزيينيّة لدى الأولى مستلهمة من الحياة الحيوانية بالدرجة الأولى ، وتدريجيّاً أخذتْ النماذج النباتية تحتلّ مكان النماذج الحيوانية في الفن التزييني ، دالةً على حدوث انعطاف حاسم في تاريخ الحضارة يتمثّل في حلول الزراعة محلّ القنص كمصدر أساسي لتلبية احتياجات الإنسان المادية من غذاء وكساء ، والرسوم الموجودة على جدران الكهوف تثبت صحة هذه الفكرة إلى حدٍّ بعيد ، فالوسط الطبيعي يتحدّد دوره في حياة الإنسان من خلال موقف الإنسان منه ويمارس تأثيره على الإنسان من خلال كونه موضوع عمل تتعامل معه الذات البشريّة ، فالإنسان فاعل اتجاه الطبيعة أكثر من كونه منفعلاً كما صوّرتْه نظريّات الجغرافيّين لكن لا بدّ لنا من أن ننوّه إلى أمرٍ غايةً في الأهميّة وهو أنّ بروز الأحاسيس الجماليّة بشكلها العياني الملموس يحدّده نسق من الأفكار والترابطات التي تجد تفسيرها في المجال الأجتماعي ، ولتوضيح هذه الأحاسيس الجمالية يتوجّب علينا اتباع منهج بحثي يربط كافة عناصر البنى الاقتصاديّة الاجتماعيّة الروحية مع بعضها البعض في وحدة جدليّة ، وإلا قادنا ذلك إلى تصوّر اقتصادوي ركيك يختزل التصوّر المادي الجدلي إلى مفهوم ميكانيكي جامد يربط عناصر الفن بشكل خطّي بعناصر القاعدة الأقتصادية وهذا المطب وقع فيه قسم من الماركسيين ، فالصلة المباشرة بين القوى المنتجة والحياة الروحية تتبدّى أوضح ما يكون عندما يكون تطوّر القوى المنتجة في درجاته الدنيا ، ولكن مع بداية الانقسام الطبقي وترسّخ تقسيم العمل كما ذكرْنا ، يستطيع الوعي البشري أن يتحوّل إلى شيء مختلف عن إدراك الممارسة الفعلية الموجودة ، (( ومُذْ ذاك يغدو بمقدور الوعي أن يتحرّر من العالم وينتقل إلى إنشاء النظرية و علم اللاهوت و الفلسفة و الأخلاق الخالصة)) (9) أي لا تعود الحياة الروحية بالضرورة تجسيداً للعالم المادي بالمعنى الحرْفي للكلمة ولا يعود الربط المباشر بين القاعدة الأقتصادية والفن مجدياً لا سيما في الفنون الحديثة بل لا بد بالدرجة الأولى من إيجاد المُعادل السوسيولوجي للظاهرة الفنيّة ، والبحث وفقاً لقوانين علم الجمال عن تفسير للفنون آخذين بعين الاعتبار خصوصيّات المجتمعات من كافة النواحي وتراثها القومي وفردانيّة الفنّان و خصائصه الشخصية والدور الكبير الذي يلعبه الحدس في عمليّة الإنشاء الفني. وبهذا نجد عاملين ماديين ساهما في تشكُّل الفنون: 1- السحر الذي نشأ كوسيلة يقاوم بها الإنسان عجزه أمام الطبيعة: صحيح أنَّ وظيفة الفن السحريّة قد زالتْ منذ زمنٍ طويل وانطبقتْ على الأوضاع والمتطلّبات الاجتماعيّة الجديدة عقب العديد من النضالات إلّا أنّ شبح سحر ما قبل التاريخ ما زال متسلّطاًعلى الشعر والموسيقى المعاصرين(10). وكافة الفنون الأخرى. 2- الحركة الإيقاعيَّة الصادرة عن الأجساد البشريّة: أثناء القيام بالعمل جماعيّاً، فمعظم الفنون تحمل محتوىً إيقاعيّاً. والسبب الرئيسي الذي يجعل الفن فناً هو أن الإنسان يشعر بمتعة جمالية تحت تاثير بعض الأشياء والظاهرات ، إنّ طبيعة الإنسان تجعله قابلاً لأن يمتلك مشاعر ومدركات جمالية . والشروط التي يعيش في ظلّها تحوّل تلك الطاقات إلى وقائع ، ولا سيما الشروط الاجتماعية فعلم الجمال لا يمكن أن يقوم بمعزل عن علم الاجتماع. وبهذا تتأكّد لنا النشأة الماديّة للشعر والفنون الأخرى،للتعبير عن بهجة العمل الخلّاق لا عن الجمال الخالص كما تزعم نظريّات المثاليّين (( فالإنسان يؤثّر في الطبيعة الخارجية ويغيّرها ، و في الوقت نفسه يغيّر طبيعته الخاصة ويطوّر الملكات الهاجعة فيه)) (11)، وعبر تحوّلات التاريخ على أساس تحوّل البُنى الماديّة الإنتاجيّة،تحوّلتْ الفنون وتعقّدتْ واتخذتْ شكلها المعاصر.
عمار عكاش - طالب في قسم علم الاجتماع – جامعة حلب [email protected]
المراجع: 1 - فيشر، إرنست: ضرورة الفن . تر: د. ميشال سليمان. د.ط. (بيروت ، دار الحقيقة: د.ت). 2 - طومسون ، جورج و دينبروف، فلاديمير: دراسات ماركسيّة في الأدب والرواية. تر: د. ميشال سليمان . د.ط. (بيروت ، دار القلم: د.ت). 3 - بليخانوف، جورج : الفن والتصوّر المادي للتاريخ. تر: جورج طرابيشي . ط2. ( بيروت ، دار الطليعة : تشرين الثاني 1977).
الهوامش والإحالات: 1- من القبائل البولينيزية في استراليا. 2- بليخانوف، جورج : الفن والتصوّر المادي للتاريخ. تر: جورج طرابيشي .ط2. ( بيروت ، دار الطليعة :تشرين الثاني 1977)،ص:110. 3- فيشر، إرنست: ضرورة الفن . تر: د. ميشال سليمان. د.ط. (بيروت ، دار الحقيقة: د.ت)، صــ: (31). 4- م.س. ن. 5- كارل ماركس، ف. كيللي ، مـ . كافالزون: الماديّة التاريخيّة. تر:أحمد داود . تدقيق : د. بدر الدين السباعي.( دمشق،دار الجماهير:أيلول 1970). 6- بخصوص االشعر الجاهلي: يخال الكثيرون أنّ الشعراء الجاهليّين تملّكوا موهبةً خياليّة تفوق الشعراء المعاصرين،دون أن يدركوا أنّ جزالتهم وقوّتهم نابعةٌ من كون اللغة المحكيّة قويّة وجزلة ،حتّى أنّ معظم صورهم وتعابيرهم كانت مستخدمة من قبل عامة الناس 7- نقلاً عن كتاب الأدب الشفاهي الكردي للأستاذ علي الجزيري صـ : (185) ـ منشورات كاوا للثقافة الكرديّة. 8- بليخانوف، جورج. م.س، صـ : (66). 9- ماركس وإنجلس : موضوعات عن فيورباخ . تر : الياس شاهين . د.ط . ( موسكو ، دار التقدّم: د.ت ) ، صـ : ( 126 – 127 ) . 10- فيشر، إرنست. م.س، صـ : (201). 11- كارل ماركس. بليخانوف ، جورج. م.س، ص: (127).
#عمار_عكاش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الماركسية العربية و إشكالية المعرفة
-
تهويمات على نهر الرماد- من خميرة التفسخ و الانحلال تولد نواة
...
المزيد.....
-
رحيل الفنان المغربي محمد الخلفي عن 87 عاما بعد صراع مع المرض
...
-
-العائلة- في سربرنيتسا.. وثيقة حنين لأطلال مدينة يتلاشى سكان
...
-
فيلم عن فساد نتنياهو وآخر عن غزة.. القائمة القصيرة لجوائز ال
...
-
“بداية الفتح” مسلسل صلاح الدين الأيوبي الحلقة 38 مترجمة بالع
...
-
“صدمة جديدة للمشاهدين” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 176 مترجمة
...
-
“كشف حقيقة ليلى وإصابة نور” مسلسل ليلى الحلقة 15 Leyla مترجم
...
-
-الذراري الحمر- يتوج بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية
...
-
بليك ليفلي تتهم زميلها في فيلم -It Ends With Us- بالتحرش وال
...
-
“الأحداث تشتعل” مسلسل حب بلا حدود الحلقة 47 مترجمة بالعربية
...
-
في ذكرى رحيله الستين.. -إيسيسكو- تحتفي بالمفكر المصري عباس ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|