|
مينودراما _امراة سعيدة - على مسرح القصبة برام الله - جماليات الطاقة والعتمة والتقشف
زياد خداش
الحوار المتمدن-العدد: 1014 - 2004 / 11 / 11 - 08:32
المحور:
الادب والفن
مينودراما- امراة سعيدة- على مسرح القصبة برام الله جماليات الطاقة والعتمة والتقشف
للمرة الثانية يهديني مسرح القصبة في رام الله ، عملا فنيا كاد يخرجني عن طوري ووقاري كرجل يزعم انه كائن اجتماعي مستقر وهاديء ويعرف ما يريد من هذا العالم ، انا لست ناقدا مسرحيا ولا احلم ان اكون كذلك لكني لا استطيع ان اقاوم متعة البوح والكلام حين يتعرض وجداني لتحرش جمالي من اي نوع كان ، العمل الجمالي هنا هو : مينودراما - امراة سعيدة- ، اخرجها بشعرية فائقة الفنان كامل الباشا ، وأدتها الفنانة الجليلية نسرين فاعور وهي نص معرب للكاتب المسرحي الايطالي داريو فو، عنوانه الاصلي- امراة وحيدة - اما العمل الاول فقد كان فلم – العطش- لوائل ابو توفيق والذي عرض قبل اشهر ، في عطش وائل لم تتوقف ركبتاي عن الاصطكاك توترا جميلا وخوفا منتجا ، وانا اشاهد بوضوح شديد ازماتنا الاجتماعية ، وهي تشرح بجمالية خاصة بواسطة مبضع رائع وصادق وجريء ، هو مبضع الفن ، في- امراة سعيدة - اقفلت فمي بيدي ، منعا لصيحات انفعال وقفت متحفزة وقلقة على الحواف ، فقد اعتقلت- بلا رحمة - نسرين فاعور ذاكراتنا بطاقتيها الداخلية و الجسدية العاليتين ، وبذوبانها المدهش في شخصية ماريا ، واعارتنا ذاكرة جديدة هي ذاكرة القهر الانساني الفظيع ، على مدى ساعة كاملة من الزمن ، لم تتعب ماريا - نسرين فاعور من اللهث خلف خلاص من تحرشات اخ زوجها المقعد ومن رقابة زوجها الذي يهاتفها دائما ، متهما اياها بالخيانة ومدينا ا تصرفاتها ومهددا بضربها ، ا ومحاصرا حياتها بالشك والسؤال ، ومن خنزير الهاتف الذي يتصل بها اكثر من مرة في اليوم بحثا عن عروض جنسية عبر النافذة ، وحدها المراة السعيدة تركض مرعوبة من زاوية الى اخرى في غرف بيتها مدافعة عن نفسها بالتوسل والخوف والحزن واحيانا بالرضوح والاستسلام ، بيت هذه السيدة الفقير والشاحب لم يتلاءم مع زخم الحركة والحيوية والصوت المعزول الضاج بالالم ، فلم نر سوى كرسيين وطاولتين ، شعر مستعار وابريق ماء وكاسات بلاستيك هشة ، ومعطفان وقطع ملابس قليلة وحجر ، وفي الخلفية ستارة سوداء ، جماليات التقشف المكاني هنا عمقت المشاهد واغنتها ، واضفت في الجو المسرحي طابعا كابوسيا خانقا ، وحفرت في ذهن المشاهد دلالات مروعة حول التنافض الكبير بين فقر الاشياء وفراغ المكان من جهة وبين امتلاء فضاء المسرح بطاقة مكان داخلية خفية كبيرة ، تستمد نسغها و ودمها من قوة حضور الممثلة وغنى الشخصية المؤداة ، وعمق دلالات ورؤية النص وانفتاحه المتسامح على تأويلات مختلفة ، ولعل اجمل جوانب نجاح هذا العمل هو انه في ظاهره عمل يحمل رؤية نسوية ، لكن الغريب هو انه خال تماما من اي شكاو نسوة عاطفية مجانية وفارغة، وهو محمل بطاقة انسانية حاشدة بعيدة عن الشعار والخطابة ، والصراخ لم يكن هناك قطبا صراع : رجل وامراة ، كما قد يتوقع البعض من ظاهر العمل ، كان هناك روح مقهورة مستلبة مسروقة مسجونة كان هناك انسان يقهر انسانا ، روح فاسدة تطارد روحا قديسة ومع ذلك نحن بامكاننا ان شئنا ان نقرأ العذاب النسوي الخاص بالمراة العربية وغير العربية ، ، ومع ان ماريا – نسرين صرخت طوال المسرحية وهزت بصراخها المقهور الستائر والجدران ، وقلوب المتفرجين الا ان هذا الصراخ كان اقرب الى الهمس والانين ، اقرب الى مواء قطة متشردة مليئة باليأس والخوف في ليل المدينة العربية القاسي الفظ ، لم نسمع تنظيرا ضد الرجولة القاتلة ولم تشتم ماريا احدا تلك الشتيمة السهلة ، المبتذلة ، كل خطوة تخطوها ماريا – نسرين تجاه زاوية ما في غرفتها ، كانت ترسل اشارة وتحكي حكاية ، وكل نفس وكل تنهيدة وكل انحناءة جسد تصدر عنها كانت تبث احساسا او صورة او حالة ، دون بلاغة مدوية او حكمة جاهزة او اطلاق كلمات كبيرة ، لغة المسرحية كانت بالفصحى الخفيفة المطعمة ببعض العامية ، وذلك حتى يتذكر المتفرج ان ثمة بعد عربي شرقي في هذا العمل المكتوب بالايطالية ، و ان ثمة قهرا واحدا في العالم ، وان تنوع في اشكاله ، اما الغناء بالايطالي والموسيقى الايطالية ، فكان اشارة وتذكيرا بأن اجواء هذا النص كتبت تحت ايقاع الحياة الايطالية ، وان نسرين فاعور العربية تقوم بتقمص دور امراة ايطالية هي ماريا ، وهكذا يسافر بنا المبدعان كامل الباشا ونسرين فاعور بين : هنا وهناك ، هنا العروبة الكسيحة والمسكينة العاجزة ، وهناك الغرب المتدهور اخلاقيا وحضاريا وانسانيا ، لم استطع ان افهم سحر دلالة الضوء و العتمة في المشهد الاخير ، حين هبطت نسرين – ماريا درج المسرح هادئة وبطيئة لتفتح الباب لزوجها الذي يقف خلف الباب ، بيدها حجرا كانه سراج او شهابا ، كانت تتجه نحو ضوء ساطع ، وكلما تقدمت منه خبا شيئا فشيئا ، لماذا كان يخبو الضوء امام خطوات المراة السعيدة ؟؟ وما هو هذا الضوء ان لم يكن ضوء رجالها التافهين الخادع؟؟؟ هل كانت ماريا – نسرين ، تطفي ضوء رجالها الثلاث االقبيحين ، بعينيها المسددتين بقوة واصرار نحو الباب ، نحو الجريمة – الخلاص ، قتلت ماريا – نسرين زوجها ، حطمت راسه بحجر ، كما حطمت راس اخيه المقعد الشهواني المستهتر ، ولم تنس ولم تعجز عن تحطيم راس خنزير الهاتف ، وهكذا ابتلعت العتمة ماريا – نسرين ، وغابت المراة السعيدة فيها ،غابت تماما يا الهي اين ذهبت ؟؟، ولكن من قال انها عتمة تقليدية تلك التي قبرتها ، ومن قال انها ماتت او انتهت ؟؟ هي لم تنته ، فهي تعيش الان في قصر نور خفي ، هناك في اعلى اعلى قمم روحها الباقية والا فلماذا سميت بالمراة السعيدة ؟؟ ، من يجرؤ منكم ايها الفارغون على تسلق هذه القمم ،؟؟ من من؟ ؟؟ من انت ايها العتمة التي ابتلعت ماريا ؟؟ لم لا تكوني ضوءا داخليا تتنكرين في هيئة عتمة ، خوفا من رجال جدد ، يبزغون بسرعة من كل الجهات ، كلما شموا رائحة امراة ، رائحة فراشة ، لا اصدق لو قيل لي ان كامل الباشا مخرج هذا العمل ، لم يكتب شعرا في احدى مراحل حياته وانه لا يحتفظ بدفتر قديم في درج خزانته العتيقة في بيته العتيق في القدس العتيقة ، الرؤية الاخراجية في -امراة سعيدة- مصاغة بطريقة شاعرية ساحرة ، وعذبة ، ولكن كيف يتلازم القهر والكابوس والموت مع الشاعرية ؟ وهل هناك نوع غريب من العذوبة في الاذلال و البكاء والقتل والهرب والحصار؟؟ نعم هناك ، اتريدون مثالا ، حسنا ، اليكم المثال ، حين خرجت من مسرح القصبة ، وهمت على وجهي في عتمات رام الله الخفيفة ، اتاني هذا الاحساس بهذا النوع الغريب من االعذوبة المؤلمة ، شيء يشبه ان تلتذ باكتشاف وجعك بعد طول خدر وعماء ، شيء يشبه ان تشكو زمنا طويلا من الم في في العينين ، وفجأة تكتشف ان السرير الذي تنام عليه مقوس و غير متماسك ، هل وصلت الفكرة ؟ هل وصل الاحساس ؟؟ اذا لم يصل فهذه مشكلتي ، سامحوني ، ما هو سر نجاح هذا العمل ؟؟، ان لم يكن عمق نص داريو فو ، و طاقة نسرين فاعور الجسدية والروحية والذهنية ، شاعرية وذكاء رؤية المخرج وجراته ، هذه المينودراما لن تختفي بسهولة من ذاكرتي لن تذهب الى العادي في حياتي ، وهذا الخارق الذي اسمه مسرح سيظل نابش وجعي وزارع نشوتي ومكتشف ذاتي ومعيني على كشف ذاتي وكشف العالم ، وما هو هدف وجود الانسان ان لم يكن اكتشاف العالم واكتشاف ذاته؟؟
شكرا لمسرح القصبة ، شكرا لرام الله الفنانة والشاعرة ،شكرا لترشيحا . الشجرة والوادي والجبل .
#زياد_خداش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حين روى عطش توفيق عطشي
-
صورة المراة في منهاج اللغة العربية للصف الثامن في فلسطين
-
الشعر في غزة ، الموت في غزة
-
دوائر اختي الناقصة
-
ملامح جديدة في صورة المراة العربية
-
قصة قصيرة : حشرة عمياء يقودها طفل
-
نساء فلسطينيات مكللات بالتعب والبياض
-
في مديح المراة الطفلة
المزيد.....
-
الحكم بسجن الفنان الشعبي سعد الصغير 3 سنوات في قضية مخدرات
-
فيلم ’ملفات بيبي’ يشعل الشارع الاسرائيلي والإعلام
-
صرخات إنسانية ضد الحرب والعنف.. إبداعات الفنان اللبناني رودي
...
-
التراث الأندلسي بين درويش ولوركا.. حوار مع المستعرب والأكادي
...
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|