أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - حسن محسن رمضان - المشكلة السياسية في الكويت















المزيد.....


المشكلة السياسية في الكويت


حسن محسن رمضان

الحوار المتمدن-العدد: 3401 - 2011 / 6 / 19 - 21:10
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
    



يتميز المجتمع الكويتي عن محيطه الجغرافي بعدة محاور اجتماعية وسياسية. فهو متعدد الأعراق والأصول والمذاهب كأي مجتمع مدني معاصر، ولكن تعدده هذا يتفاعل دائماً باتجاه محور صراع مذهبي أو عِرقي، خفي أو علني، بحيث تكون النتيجة دائماً في اتجاه تفاقم هذه الاختلافات وترسيخها ضمن الدولة بمؤسساتها المختلفة وضمن المجتمع بطبقاته المتعددة. ومن جهة أخرى، فإن المناخ السياسي الكويتي الداخلي الذي أتاح هامشاً كبيراً من الحريات ليس متوفراً في محيطها الجغرافي، تم استغلاله بصورة فجة وفوضوية وبوضوح شديد لصالح الصراع العرقي – القبلي – المذهبي وباتجاه زيادة هامش الاستحواذ السياسي والاقتصادي ضمن هذه المحاور بالذات، وليس باتجاه الدفع لترسيخ مبادئ الدولة المدنية المتحضرة أو تغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية أو حتى تغليب المفاهيم التنموية العامة على المناهج الريعية الكارثية على حاضر الدولة ومستقبلها. فكأن الحريات السياسية، أو العملية الانتخابية بالتحديد، قد دفعت المجتمع برمته إلى حالة أكثر تشرذماً وتصارعاً على محاور الطائفة أو العِرق أو التحضّر والبداوة، وتراجعت معها كل المستويات التنموية البشرية والاقتصادية إلى حدود الكارثية على المستقبل فيما لو استمر الحال على ما هو عليه. هذه حقيقة مشاهدة وبوضوح لأنها تملك مظاهر متعددة ومتنوعة. بالطبع، فإن النظر إلى الآلية الانتخابية بالتحديد على أنها هي المسؤولة دون غيرها عن هذا الصراع الاجتماعي وما نتج عنه من صراع ضمن مؤسسات الدولة نفسها هو أمر غير محبذ وغير دقيق، لأن الدعوة إلى تهميشها أو منعها تماماً سوف تقود بالضرورة إلى فساد سياسي كارثي تم تجربته مرتين خلال الخمس والثلاثين سنة الماضية. ومن جهة أخرى فإن مؤسسة الإمارة ذاتها، ككيان سياسي فاعل من خلال السلطة التنفيذية، قد مهدت الأرضية الخصبة لهذا الصراع الكارثي في سياساتها الداخلية العشوائية خلال ما يزيد على الأربعين سنة الماضية. ولكننا أيضاً لا نستطيع أن نغض النظر، أو على الأقل لا نستطيع إلا أنْ نفكر بصوت عالٍ، بالسبب الذي قادنا، ككويتيين، إلى هذه الفوضى الاجتماعية المتشرذمة، وقاد الدولة إلى غياب شبه تام لسياسة داخلية محترفة ناضجة بعيدة النظر وليس إلى سياسة “ردود الأفعال” الساذجة، وقادنا جميعاً أيضاً إلى حالة أقرب إلى اليأس منها إلى حالة أمل بمستقبل وطن.

تعاني السياسية الداخلية الكويتية من أمرين خطيرين. الأول هو غياب المشروع القومي الذي يضع الأهداف المستقبلية الواضحة للدولة والأمة ويعمل في سبيلها، والثاني هو عدم وضوح مناهج ومعايير المشاركة السياسية في أذهان قطاعات عريضة من شعبها. فالأول قاد المجتمع برمته إلى حالة أشبه بالبطالة الريعية غير المنتجة مع يأس واضح من آفاق المستقبل فيما يتعلق بالوطن، والثاني قاد إلى فشل المؤسسات المدنية ومعها مفاهيم المواطنة ومن ثم بروز التكتلات القبلية والمذهبية والطبقية لتحل محلها. الأمر الأول تتحمل مسؤوليته كاملة ً مؤسسة الإمارة ممثلة بالسلطة التنفيذية التي تخضع لاختيار وربما مشيئة تلك المؤسسة، بينما الأمر الثاني يتحمل مسؤوليته شعب وضع الدستور الكويتي تحت تصرفه حرية اسمها “الانتخابات” ولكن من دون تقنين سياسي واعي بعيد النظر يستشرف احتمال الممارسات القبلية والمذهبية التي تطورت لاحقاً إلى حالة “عنصرية متقاتلة” واضحة لا لبس فيها سواء في القناعة أو الطرح أو الممارسة. فالوضع الحالي، بكارثيته الراهنة والمستقبلية، له طرفان عملا بشكل واضح على بلورته، هذا مما لاشك فيه. وبينما أحد أوجه الحل للإشكالية الأولى ينبع من مصارحة صادقة ولكن ضاغطة مع مؤسسة الإمارة والتأكيد على أهمية ابراز وتفعيل الأوجه المتعددة لـ “القيادة” بشكلها المؤسسي المحترف وليس الفردي، فإن الأمر الثاني يحتاج إلى النظر في تفاصيل الجزئيات المتعددة للإشكالية، ومن ثم محاولة اختراق وتهميش وتفتيت كل أوجه “القدرة” القبلية والمذهبية فيما يخص منتسبيها لصالح هيمنة “قدرة” الدولة لصالح مواطنيها.

ففيما يتعلق بالمحور الأول، غياب المشروع القومي الكويتي، فإن الحالة الكويتية، ضمن المحيط الجغرافي التي تقع فيه، هي حالة فريدة من نوعها وعلى محاور متعددة. فمؤسسة الحكم والإدارة السياسية فيها تعتبر إلى حد ما غير مستقلة عن الإرادة الشعبية فيما يتعلق بالتشريع والمراقبة السياسية والإدارة والمالية. وهذا بدوره يحتم على مؤسسة الإمارة، وخصوصاً أفراد قمة الهرم فيها كجهة مهيمنة على السلطة التنفيذية، أن تناور في قرارتها وتصرفاتها وتفاعلاتها السياسية الداخلية وحتى الخارجية ضمن الرأي العام الشعبي الذي يتبلور في الإعلام وتحت قبة البرلمان. هذه “الحالة” هي نتيجة لدستور يؤكد على موضوع الحريات بأنواعها المتعددة في نفس الوقت الذي يضع السلطة التنفيذية تحت المراقبة الشعبية من خلال البرلمان المنتخب. إلا أن هذه المراقبة (المعارضة) الشعبية السياسية في البرلمان تتبلور بصورة رئيسة نتيجة لحراك انتخابي فئوي – طائفي – طبقي يراعي بالدرجة الأولى مصالح أفراده أو فئاته وعلى معناهما المحدود الضيق، وهي، أي المعارضة، انعكاس مباشر لحالة التصارع الاجتماعي على محاور المذاهب والأعراق والأصول. تلك حقيقة لا يستطيع أن ينكرها أي منصف لشدة وضوحها على الساحة المحلية. فالنسيج الإجتماعي الكويتي يعاني تشرذماً متصارعاً وخطيراً على تلك محاور بالذات، مما يضعه على حافة الإضطراب والتصادم والانشقاق كلما تهيأت فرصة لذلك. والحقيقة هي أن المجتمع الكويتي يملك مقومات الانقسام على الذات بصورة تلقائية وسريعة وفي اتجاه هدم الذات ولأسباب تبدو سطحية وهامشية عند المراقب المحايد مما يذكرنا بالحالة اللبنانية والعراقية ولكن من دون النزعة العنيفة والدموية المُشاهدة في هاتين الحالتين. وغياب تلك النزعة العنيفة في المجتمع الكويتي هو نتيجة مباشرة لحالة الوفرة الاقتصادية التي يتمتع بها هذا النسيج المتصارع مما يجعل مصالح جميع أطيافه المباشرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ومرهونة بحالة دنيا من “الاستقرار“ السياسي للدولة، ولذلك هو يحافظ على هذه الحالة الدنيا ضمن صراعه حتى لا يهدد مصالح أفراده. ولكن في حال شح الموارد الممولة لهذه الوفرة الاقتصادية فإن النسيج الاجتماعي الكويتي قد يكون مهيئاً جداً لحالة التصارع العنيف وخصوصاً أن بعض الأيديولوجيات الدينية المتشددة أو المتطرفة هي أصلاً فاعلة ضمن الحراك السياسي في الداخل. إلا أن الحقيقة تبقى أن "المصلحة" المدنية ضمن المجتمع الكويتي يتم تعريفها في أذهان أفراده من خلال مصلحة الطائفة أو العِرق أو الطبقة بحيث لا يُرى في المواطن الآخر المخالف في المذهب أو العِرق إلا على أنه "خصم" يريد أن يجردهم من عملية الاستحواذ على موارد الدولة ومناصبها الإدارية والسياسية. ولهذا السبب بالذات فإن الطوائف والأعراق تبقى تحت حالة ترقب وتفتيش دائمين عن كم الاستحواذ الذي حصلت عليها الطائفة المقابلة أو العِرق المختلف، وبالتالي فإن هبط مفهوم المصلحة العامة بمعناه المدني الشامل في أذهان المجتمع الكويتي إلى مفهوم ضيق فئوي بحت ويخضع لمساومات سياسية متعددة.

السياسة الحديثة هي سياسة "مؤسسات" محترفة في كل الدول الديموقراطية المعاصرة، ولكن في أغلب دولنا العربية "السياسة" هي سياسة أفراد أو على أحسن الأحوال سياسة عوائل، وبالتالي فإن دور "القائد" يقع في المركز ضمن الواقع السياسي العربي الراهن في دول الخليج العربي على الخصوص، هذا بالإضافة إلى أن هذا النوع من السياسة يملك إرثاً ثقافياً وعقائدياً في مجتمعاتنا. ولهذا السبب بالذات لابد لنا أن نركز نظرنا على هذا المفهوم في الإشكالية السياسية الكويتية. فالمظاهر والأسباب المشروحة في الفقرة أعلاه تُبرز غياب دور مؤسسة الإمارة، وخصوصاً أفراد قمة الهرم فيها، عن محاولة خلق “خطوط” اتفاق عريضة تكون كإنطلاقة لإعادة بناء مجتمع مدني متجانس على مستوى القناعات الوطنية. تلك الخطوط العريضة لابد لها أن تكون مشاريع وطنية شاملة متعددة المحاور، متوسطة وبعيدة المدى، تضمن الاستقرار النسبي لمجتمع سوف يواجه مشكلة بقاء فيما لو شحت الموارد النفطية، المورد الوحيد الذي يُبقي هذا المجتمع متماسكاً ظاهرياً. فدور القادة المحتفى بهم في تاريخ الشعوب والأمم يتجلى في خلق قناعات عامة ضمن قطاعاتهم أو مجتمعاتهم بحيث يتم توجيه الجهد الجماعي الخلّاق لصالح أهداف محددة. فبغض النظر تماماً عن طبيعة عمل هذا “القائد”، سواء أكان عسكرياً أو مدنياً، أو ضمن مستوى دولة أو على مستوى إدارة صغيرة، فإن نجاح القائد أو فشله، إذا ما استقرءنا التاريخ، هو بالضرورة يُقاس من خلال عملية “بلورة” هذه القناعات ضمن اتباعاهم التي تخلق جواً عاماً في الرغبة في العمل تجاه هدف يبدو في حينه واضحاً ومباشراً. وبغض النظر تماماً عن مدى فشل أو نجاح المساعي للوصول إلى هذا الهدف النهائي، فإن النجاح في تلك “البلورة” في حد ذاتها يعتبر نجاحاً يستحق صاحبها الخلود في الذاكرة الجمعية لشعوبهم، والأمثلة أكثر من أن تُعاد هنا أو تُحصى. ولذلك فإن على القائد، أياً كان، أن ينظر إلى الإشكاليات المطروحة ضمن إطار “الجماعة”، ثم بعد ذلك يحاول أن يصيغ مشروعاً عاماً يحاول فيه أن يطرح رؤية محددة للخروج من تلك الإشكاليات بحيث يكون الهدف القصير هو بلورة القناعة الذاتية للمجموع العام بحيث ترى في ذلك المشروع مصلحة ذاتية على مستوى الفرد قبل أن تكون مصلحة عامة، والهدف النهائي هو الخروج من تلك الإشكالات. المشكلة الخطيرة في الكويت هي أن هذا المشروع القومي العام الذي يعي أخطار سياسات الحاضر ومفاهيمه ثم يستشرف المستقبل القصير والمتوسط والبعيد مفقود تماماً، هذا مع انعدام الرغبة ضمن المؤسسة السياسية لتبني مثل تلك المشاريع والعمل على تفعيلها ضمن الدولة والمجتمع. فإذا أضفنا لهذا أن تطلعات أغلب القوى السياسية التي يفرزها الشعب بتنوع أطيافه لا تعدو أن تكون مشاريع ريع واستحواذ على مداخيل الدولة واستهلاك وتفريط واضحين لموارد الحاضر من دون أي نظر واع متزن لخطورة النتائج على المستقبل وكارثيتها، فيما لو بقي الحال على ما هو عليه، فإننا سوف نستنتج أن الحاضر، بظروفه وبغياب مشاريعه القومية الشاملة، ما هو إلا وسيلة انتحار بطيء للدولة والمجتمع.

أما المحور الثاني، وهو عدم وضوح مناهج ومعايير المشاركة السياسية في أذهان قطاعات عريضة من الشعب الكويتي، فهو يمثل الوقود الحقيقي لحالة التشرذم الخطيرة التي يعيشها المجتمع الكويتي. إذ أن أحد أهم إشكالات المجتمعات العربية بصفة عامة، والتي فتحت أعينها فجأة على ديناميكيات الحضارة الحديثة، هو سوء فهمها لمصطلحات هذه الحضارة. فالملاحظ أن هذه المجتمعات تتشبث بهذه المصطلحات في كل جوانب حياتها الاجتماعية والسياسية، لتعطي انطباعاً مزيفاً بحداثتها وعصريتها، ولكن عند ممارستها لمضامين هذه المصطلحات يكتشف المراقب أن هذه المجتمعات بالذات تعاني من قصور فاضح في فهم محتواها والمعنى الحقيقي لها. فهي تمارس معنى افتراضي يخرج إلى حدود الأوهام والخيال للمعاني الحقيقية لهذه المصطلحات. فلا الحرية، بتشعباتها المختلفة وحدودها ومبادئها، تبدو ذات معناً واضحاً في أذهان هؤلاء، ولا الديموقراطية وآلياتها المفترضة، ولا مصطلح “العقد الاجتماعي” يملك أي معنى ناضج في أذهان شعوبها، ولا المواطنة كقيمة اجتماعية سياسية، ولا مسألة التوازن بين حقوق المواطنة وواجباتها، بل حتى “القانون” يفقد عند هؤلاء صفة التجرد المفترض في نصوصه، بل إننا رأينا بعض رجال القانون في تلك المجتمعات يلعبون دور “البطولة” في انتهاك نصوص القانون التي تؤكد حرية وكرامة مخالفيهم ويتحايلون على مضامين عدالة القانون والسخرية من روحه. كل شيء تقريباً في أذهان هذه المجتمعات ذو معنى مشوه عن المعنى الحضاري الحقيقي. ومما يثير السخرية حقاً أن أفراد هذه المجتمعات بالذات ينخرطون فيما بينهم بمناقشات حامية عن مضامين هذه المصطلحات، بينما الأغلبية الساحقة منهم ينطلقون من هذا الفهم الخيالي المشوه الخاطئ عن معانيها، فتكون النتيجة في خانة الغرائب والعجائب التي تثير الضحك والشفقة في أغلب الأحيان.

ولا يختلف عن هذا السياق في تلك المجتمعات، ومنها المجتمع الكويتي، مفهومها لمصطلح “المعارضة“. ففي ذهن المجتمع الكويتي أن المعارضة تعني فقط “معارضة الحكومة“، كذا على إطلاق المصطلح، طريق واحد لا رجوع فيه. فعلى هذا الفهم الغريب حقاً، إذا أردت أن تكون في صفوف هذه المعارضة فيجب عليك أن تهاجم الحكومة وتعارضها تقريباً في كل شيء وبدون أي تحفّظ أو استثناء ومن غير تردد، مع التأكيد على كيل كل ما في مخزونك اللفظي من اتهامات وربما ألفاظ تمس الكرامة والنزاهة خلال "معارضتك" هذه. وكل من يقف على النقيض من هذا الرأي هو إما “خائن” أو “منبطح” أو "مرتشي" أو يندرج تحت مظلة السلطة بالإضافة إلى مصطلحات غريبة عجيبة يتفنن السياسيون الذي يصنفون أنفسهم كـ "معارضة" في ابتداعها. الغريب أن هذا النوع من المعارضة اللفظية يملك "شعبية" واضحة ضمن قطاعات متعددة داخل المجتمع، إذ أصبحت هي نفسها تتبنى نفس المنهج الأحادي في طرح آرائها في مختلف المواضيع من أول السياسية ومروراً وبالاجتماعية ونهاية بالدينية. فالمعارضة الكويتية تبدو وكأنها تمارس شؤونها السياسية من ذهنية “شعبية” بحتة لها مقدرة أن تقلب الأوهام إلى حقائق، والغرائب إلى واقع، والمضحكات عند الشعوب الأخرى إلى قضايا مصيرية، أداتها الوحيدة هي، ويال الغرابة، الإرهاب اللفظي وسيل الاتهامات لكل خصومها. وكمثال على تلك الذهنية "الشعبية" محدوة النظر فإن تلك المعارضة تتبنى مشاريع من على شاكلة الإسقاط الكامل لكل القروض البنكية الشخصية للمواطنين الكويتيين (بعضها كانت لشراء سيارات أو لتمويل إجازة شخصية خارج البلاد) لتتحملها خزينة الدولة، ومشاريع الزيادات المتتابعة لرواتب الموظفين من دون انتاج حقيقي مقابل، والمطالبات بالتوظيف الحكومي من دون عمل حقيقي مما يزيد الإشكالية الخطيرة للبطالة المقنعة، والعمل ضمن التحالفات الطائفية والعرقية إما لزيادة الاستحواذ ضمن هذه المحاور في مؤسسات الدولة أو العمل كرأس حربة ضد الفئات الأخرى. فـ "المعارضة" هنا تبدو وكأنها تعارض فقط لأجل توسيع دائرة الاستحواذ وتأكيد سياسات الريع، لا أكثر من هذا ولا أقل. فهي كالحكومة تماماً بدون أي فرق يُذكر، فاقدة المشروع القومي وفاقدة القدرة على العمل التنموي.

الخلاصة هي أن المعارضة في الكويت لا تنطلق من مؤسسات تملك برامج تنمية أو مشاريع سياسية واقتصادية مدنية، كما أنها لا تستطيع أن تؤطر المشاكل الاجتماعية بوضوح، ولا تطرح الحلول لمشاكلها من منظور الدولة والمؤسسة التنفيذية، ولا ترفض أو تقبل بسبب دراسات وآراء أكاديمية متخصصة، وتصر على العمل من خلال مشاريع الريع وبهلوانيات المنح الشعبية والتكسب الانتخابي ذو المنشأ الخاص دون العام، كما أنها وعلى أكثر من محور عملت على التشريع في البرلمان لانتهاكات القانون أو التصفيات ذات الدافع العرقي والقبلي والمذهبي، وتبني الصراخ وهستيريا أفلام الدراما السينمائية أمام كاميرات التلفزيزن وميكروفونات الإذاعة والصحفيين. فالحقيقة تبقى أن المعارضة الكويتية ليست بأفضل من الحكومة التي يهاجمونها ليلاً نهاراً، فهم لا يملكون أي تصور واضح لحل أي مشكلة تواجه الوطن إلا بواسطة الكلام الإنشائي الذي لا يفيد ولا يُغني من جوع، ويعجزون تماماً عن التفكير خارج إطار “السبب الواحد الوحيد” لكل مشكلة يواجهونها. فمعارضينا ومن يسير خلفهم لا يملكون حتى الحدود الدنيا مما يؤهلهم ليكونوا حقاً ضمن صفوف المعارضة بمعناها الناضج الحضاري. إنهم يتشدقون بمصطلحات الحرية والديموقراطية وما يشابههما، لا أكثر من هذا ولا أقل، ولكن ممارساتهم على الجهة الأخرى تضعهم، وبجدارة، في خانة الفوضويين، وفي بعض الأحيان ضمن العنصريين والطائفيين وذوي النظر القصير فيما يخص مستقبل الوطن وشعبه.

إلا أن هؤلاء المعارضين ما هم على الحقيقة إلا إفراز مباشر للعملية الانتخابية التي يتولاها الشعب الكويتي بحرية منقطعة النظير ضمن محيطه الجغرافي العربي والإسلامي. ولهذا السبب بالذات أستحقت العملية الانتخابية مصطلح "مشكلة". المشكلة الانتخابية القبلية والمذهبية برزت أساساً من مفهوم كارثي، شجعته الدولة للأسف، وهو مفهوم “نائب الخدمات“ وسياسات التجنيس العشوائي على المحور القبلي للتأثير على نتائج انتخابات مجلس الأمة. ففي سبيل هيمنة مؤسسة الإمارة على قرارات البرلمان، استخدمت الحكومات المتعاقبة التي تلت وفاة الشيخ عبدالله السالم الصباح في منتصف الستينيات من القرن الماضي الخدمات العامة التي من المفترض أن تقدمها الدولة للمواطنين كافة كورقة مساومة وذلك من خلال تسهيل الحصول عليها، وبدون وجه حق في أغلب الأحيان، عن طريق وساطة فرد محدد سوف يُطلق عليه (نائب خدمات) عندما يدخل كنائب في مجلس الأمة عن هذه المجموعة التي تولى الوساطة بالنيابة عن أفرادها. فأساس الانتخاب البرلماني هنا لهذا الشخص بالذات هو قدرة هذا الفرد على تجاوز القانون والآليات الإدارية للدولة في سبيل تسهيل الحصول على "خدمات" لصالح الفئة التي سوف تنتخبه ليمثلها في البرلمان. لكن "ثمن" عملية الوساطة غير القانونية هذه التي سوف تتيح لنائب الخدمات "وجاهة" الدخول لمجلس الأمة كنائب سوف يكون تنفيذ رغبات الدولة والتصويت تحت قبة البرلمان وفقاً لمشيئتها. فهي على الحقيقة عملية رشوة جماعية للشعب يقوم بها فرد واحد بالنيابة عن الدولة، ومن جهة أخرى هي عملية رشوة فردية لنائب الخدمات هذا تقوم بها الدولة. ولكن بغض النظر عن الإشكال الأخلاقي في هذه الممارسة بتشعباتها المتعددة، فإن “نائب الخدمات” هو أداة فوضوية تتعارض مع كل ما تمثله الدولة ومؤسساتها وقوانينها من هيمنة يجب أن تتعالى على الأفراد بما فيهم نواب البرلمان أنفسهم. فعمل مؤسسات الدولة ما هي إلا نتاج لمشيئة القانون الذي أفرزته الأمة من خلال برلمانها المنتخب، وبالتالي لا يجب أن تخضع إلا لمشيئة القانون. فـ “نائب الخدمات” كان هو البذرة القبلية والطائفية التي تم زرعها في التربة الكويتية، فإذا بها تفرز حولها كيان كامل تحت مسمى القبيلة أو الطائفة ترتبط مصالحه الفئوية المباشرة بالعلمية الانتخابية، ثم ليوظفها لاحقاً في هدم وتفتيت النسيج الإجتماعي بكل جزئياته العامة والخاصة. لقد تطور الفرد الخدماتي إلى مفهوم شامل تخضع له القبيلة والطائفة، وتتصرف من خلال مفاهيمه، وتتحدى القانون والمؤسسات المدنية والعسكرية أيضاً لصالح بقاءه واستمراره. ولكن المشكلة أن تلك المؤسسات المدنية والعسكرية للدولة نفسها هي أداة من أدوات المساومة السياسية التي تستخدمها السلطة التنفيذية والتشريعية لصالح تسوية صراعهم السياسي. فبدءاً من التعيينات التي يتدخل بها الوزراء والنواب، ومروراً بالمعاملات المخالفة للقانون التي يتفاعل بها الوزراء والنواب ضمن حراكهم السياسي، ونهاية بالمعايير المزدوجة القبلية والطائفية التي يتم النظر من خلالها إلى تلك التجاوزات، هذا كلها أصبحت التوجهات القبلية والطائفية تنظر لها على أنها أدوات مشروعة في الصراع السياسي ومجال مفتوح للهيمنة والاستحواذ مع نفي متعمد لباقي قطاعات الشعب. فاصبحت المؤسسة المدنية والعسكرية للدولة، التي من المفترض منها أن تعاكس مناهج التوجهات القبلية والمذهبية، هي نفسها مخترقة، وبرضى الدولة ومباركتها وتشجيعها، من نفس القوى الفوضوية القبلية والطائفية التي تبدو معارضة لمنهج الدولة المدنية وقيم التحضر.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الحكومات المتعاقبة التي تلت وفاة الشيخ عبدالله السالم الصباح، وبسبب عدم قناعتها بالدستور الكويتي الذي يتيح محاور الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية وما يصاحبها من حريات مدنية متعددة، تبنت سياسة التجنيس العشوائي غير المُستَحق قانوناً لأفراد ذوي أصول قبلية وبصورة جماعية مكثفة للتأثير على مخرجات الانتخابات النيابية. وفي سبيل معرفة التصنيف القبلي لهؤلاء المجنسين الجدد وحصرهم ضمن قبائلهم تحديداً لضمان انقيادهم شبه الكامل، تم تركيزهم في مناطق محددة ليتم التأكد من نتيجة الانتخابات ضمن هذا المحور القبلي. هذه السياسة الساذجة قصيرة النظر أفرزت ضمن ما أفرزت مع تعاقب السنوات الطويلة تيارات عِرقية ذوي ميول سياسية، لا تدين بالطاعة السياسية المطلقة لمن جنَّسَ آبائها أو أجدادها، وتتبنى الأعراف القبلية إما صراحة أو ضمناً ضمن الإدارات المختلفة للدولة وضمن حراكها السياسي. هذه الأعراف القبلية الكارثية التي تبنتها تدريجياً العقلية الثقافية الكويتية العامة، وبكافة تشعباتها العِرقية والطائفية، لا ترى في الدولة إلا مورداً يجب أن يتم التصارع عليه من أجل أكبر قدر من الاستحواذ الآني لأفراد ينتمون إلى عِرق أو مذهب محدد. وفي سبيل هذا الاستحواذ تطور التمثيل الانتخابي في مجلس الأمة إلى أداة ضمن هذا الصراع في إطاره القبلي بالتحديد مع أدواته المخالفة للقانون والتي تنتهك المبدأ الأساس في الانتخاب البرلماني وهو (تمثيل الأمة كافة) وليس قطاعاً محدداً دون غيرهم. فالصراع السياسي الدائر الآن في الكويت، في حقيقته، هو صراع من أجل استحواذ هذه التيارات، بفرعيها القبلي والديني، ذات الأعراف القبلية على العملية السياسية كاملة ومن دون استثناء. ولا تحمل الشعارات السياسية المرفوعة إلا اسمها فقط، أي "شعارات" من دون أية مضامين مدنية حقيقية. فأغلب تلك الشعارات التي يتم رفعها هي ذات مضمون فئوي بحت تأخذ على الحقيقة بعين الاعتبار في تطبيقاتها العملية المذهب والطائفة والعِرق وصراع أبناء القبائل مع أبناء الحاضرة.

هذه كلها كانت بعض مظاهر لسذاجة السياسة الكويتية وقصر نظر سياسييها. لأن تلك الممارسات التي استخدمتها أو التي لا تزال تستخدمها السلطة التنفيذية كأداة للمساومة السياسية هي أساس التكتلات القبلية والمذهبية التي تشكو منها الدولة وسلطتها التنفيذية، وهي أساس مظاهر التراجع الذي يشكو منه هذا الشعب وتعاني منه الدولة. فمصلحة التكتلات القبلية والطائفية ارتبطت بتلك القوى النيابية القادرة على أن تساوم لصالح فرض أمر ما لصالح تلك التكتلات العنصرية الفئوية بطبيعتها وضد مفاهيم المواطنة التي تتطلبها الدولة المدنية الحديثة. ولا يوجد أي حل إلا بالإصرار على نسف تلك المصالح القبلية والمذهبية من مؤسسات الدولة ورفض أي تأثير نيابي أو قبلي أو طائفي عليها.

نحن نحتاج إلى مصارحة شاملة ومباشرة تسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية، يقوم بها الشعب وليس نوابه في البرلمان أو وزرائه في السلطة التنفيذية. هي مصارحة من الشعب للشعب، ولكنها بصوت عال بحيث تسمعها مؤسسة الإمارة ويسمعها عنصريو مجلس الأمة بتقسيماته القبلية والطائفية. إنها مصارحة بين بعض فئات الشعب تمثل كافة تقسيماته، بحيث تسمعه الفئات العنصرية القبلية الطائفية من نفس الشعب. ولا يوجد خيار آخر أبداً. قد يرى البعض ذلك صعباً، أو ربما مستحيلاً، وقد نتناقش في بعض الأسباب بصراحة، ولن نستطيع أن نتناقش ببعضها الآخر بنفس تلك الصراحة خوفاً، ربما، من انتهاك القانون الذي يحدد سقفاً أعلى للنقد. ولكن الحقيقة تبقى أن هناك إشكالية سياسية خطيرة في الكويت فيما لو بقي الحال على ما هو عليه، ولا أمل في خروج الدولة من وضعها الكارثي الراهن إلى حالة من حالات الأمل إلا بمصارحة تسمية الأمور بمسمياتها الصحيحة. صراحة جميع أطياف الشعب فيما بينهم بعيداً عن نواب البرلمان وتلون أصحاب الطموح الانتخابي ونفاق سياسي الكويت وجنون حركاته الدينية.



#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخطاب التمجيدي الإسلامي
- ضرورة إعادة قراءة وصياغة الفقه الإسلامي
- والشعب أيضاً كان يريد إسقاط النظام أيام عثمان بن عفان
- الحرية التي نريد


المزيد.....




- -لا خطوط حمراء-.. فرنسا تسمح لأوكرانيا بإطلاق صواريخها بعيدة ...
- الإمارات ترسل 4 قوافل جديدة من المساعدات إلى غزة
- الأمين العام لحلف شمال الأطلسي روته يلتقي الرئيس المنتخب ترا ...
- رداً على -تهديدات إسرائيلية-.. الخارجية العراقية توجه رسالة ...
- ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة في لبنان؟
- زيلينسكي: الحرب مع روسيا قد تنتهي في هذا الموعد وأنتظر مقترح ...
- الإمارات.. بيان من وزارة الداخلية بعد إعلان مكتب نتنياهو فقد ...
- طهران: نخصب اليورانيوم بنسبة 60% وزدنا السرعة والقدرة
- موسكو.. اللبنانيون يحيون ذكرى الاستقلال
- بيان رباعي يرحب بقرار الوكالة الذرية بشأن إيران


المزيد.....

- واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!! / محمد الحنفي
- احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية / منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
- محنة اليسار البحريني / حميد خنجي
- شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال ... / فاضل الحليبي
- الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟ / فؤاد الصلاحي
- مراجعات في أزمة اليسار في البحرين / كمال الذيب
- اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟ / فؤاد الصلاحي
- الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية / خليل بوهزّاع
- إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1) / حمزه القزاز
- أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم / محمد النعماني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - حسن محسن رمضان - المشكلة السياسية في الكويت