|
قراءة في ديوان -جواد ليس لأحد- للشاعر ابراهيم ديب
خاليد القاسمي
الحوار المتمدن-العدد: 3400 - 2011 / 6 / 18 - 18:17
المحور:
الادب والفن
لئن كان الشعر سفرا مستمرا عبر قوارب اللغة إلى حدود المجهول المظلم في قرارة الذات والعالم والآخر، فإن عظمة فكره و رؤاه، تنبثق من محارق الأسئلة والأفكار التي تتيحها شفرات خطابه الانزياحي للمتلقي عبر آلية القراءة والتأويل، فيعيد بذلك هذا الأخير تأسيس العوالم وترتيبها، عبرآلية الهدم والبناء اللتين تزدهر بهما رؤية الإنسان للعالم، ولا يكتفي الشعر بهذه الوظيفة الفكرية الوجودية فحسب، بل يزودنا بنظارات قسطلانية الألوان، لنرى الحياة جميلة بتفاصيلها وأشيائها التافهة الصغيرة، فنضرب الأخماس بالأسداس، ونتذكر مقولة العقاد الشهيرة :" لا يكفي أن تكون في النور لكي تري بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه"، فالشاعر من هذا المنطلق فارس مقدام لا ينفك يركب جواد الشعر ويركب معه الأخطار، بهدف توفير إضاءة مؤقتة للعالم، ذاك الجواد الملحمي المجنح، على شاكلة "البيجاسوس" في الميثولوجيا اليونانية القديمة، و الذي لا يكاد يستوي على بسيطة حتى تتقمصه الأسئلة، فيغير بأجنحته الخرافية، تاركا ينابيع الماء فوارة وراءه بفعل حوافره الصاعقة. ذلك هو جواد الشاعر المغربي "ابراهيم ديب"، الذي أفرد لجلاله ديوانا باذخا سماه "جواد ليس لأحد" وهو صادر عن دار ما بعد الحداثة سنة 2007 في طبعة أنيقة، يضم بالإضافة إلى الإهداء الطريف، عشرة قصائد طويلة توزعت على فضاء طباعي يناهز تسعة وسبعين صفحة من الحجم المتوسط، وقد ازدان الغلاف بصورة تشكيلية عميقة للفنان التشكيلي "عزالدين الذكاري"، أما القصائد فجاءت مرتبة على الشكل التالي: نهران، ثقوب زرقاء، قصائد ضد الزلزال، أحتاج لعينيك، جواد ليس لأحد، صباح 2005 ، نهار من جبس الشهوة، هلوسات سعيدة، يد تقطف الفجر، كلمات تدفع الجدار بقوة. ويعتبر "ابراهيم ديب" من الشعراء المغاربة المعاصرين، الذين يمتلكون وعيا شعريا يزاوج بين عمق الفكرة وحداثتها من جهة، وجاذبية اللغة وجماليتها من جهة أخرى، وهو من مواليد سنة 1967 بمدينة تاونات، يشتغل حاليا مدرسا للغة العربية بثانوية جرسيف، حصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس سنة 1990 كما حصل سنة 1995 على دبلوم الدراسات المعمقة في الأدب العربي من الجامعة نفسها، تخصص النقد الأدبي الحديث، ويعمل حاليا على تهييء دكتوراه الدولة في الأدب العربي. نتمنى له كل التوفيق. ديوان " جواد ليس لأحد" سفر حثيث لأجل مهمة نبيلة، هي ترتيب فوضى العالم وإسعاف الأزمات العاصفة بالذات المغتربة، دون القفز على قامة التفاصيل الصغيرة التي تؤثث لبساطة لحياة وعمقها في نفس الآن، إنه حركة حازمة اتجاه الحزن الذي أورثه الخارج بالداخل، ورصد موضوعي لبعض التطلعات والانتصارات ذات التعالق مع الوعي الجمعي، مستلهما فضاءات زمانية ومكانية وشخصيات وأحداث، أثثت بقوة لما يعرف بسردية الشعر أو بالأحرى القصيدة ذات الأساس الدرامي، وهي لحظات أنطولوجية عميقة التأثر والتأثير، و تجوال فني و فلسفي وفكري قادته عدسة الشاعر البارعة، الذي لا ينفك يورطنا في دهشة الشعر ومستنقع السؤال، ويتركنا نشهد حجم الفرح والفجيعة في نفس الآن. يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة تحت عنوان "نهران"، وهي عتبة تحيل على الحركية والماء والارتواء، لكن المفارقة تبرز عندما يقابل هذه الدلالة جفاف ويباس من نوع آخر، إنه اغتراب وقحالة يعترشان الذات ويصيبانها بالتصدع والتشقق، وتتفاقم الفجيعة أكثر عندما تتواطأ الذاكرة في هذا الخراب، فيشتد الحصار وتعلو الصرخة : نهران ولانجمة تهدي خلخالها لهذي البلاد القديمة لا قمر يلهو في خرائب الذاكرة نهران ولا توت في المخيلة لا صديق في الأصابع.. وبسترسل الشاعر معمقا نبرة اغترابه الوجودي : نهران ولا أشجار في الرأس ولا نوارس في غفوة المحيطات نهران ولاغيمة تظللني لا حجل يرفرف في الأهداب نهران وماء فاسد وكلام بطيء وقطارات لا تصل البتة .. والشاعر لا ينفك أن يعلن القصيدة وطنا له، وطنا يستوعب المفارقة القائمة بين عصبية القبيلة من جهة - مما عرفته أوطاننا العربية في بناها الثقافية والاجتماعية- وانفتاح المدينة وتسامحها من جهة أخرى، فالشعر باعتباره فكرة كونية يذيب النزعات القبلية، وينتصر للإنسان ويكرمه. يقول الشاعر محتفيا بحضارة المدينة : كان جيدا أن نتناول سندويتش القصيدة حافيا من غير قبائل أو أحزاب ونحن نتنزه في الفصل الخامس من عمر المدينة فالصورة الشعرية شامخة في هذا المقطع ومتناسلة، وتنفتح بالقارئ على طبقات من المعاني والقراءات، ويبرز شكل آخر من أشكال الاغتراب والتأزم الوجودي، متعلق بالحنين إلى الطفولة بما تمثله من حيوية وبراءة وانبهار بالعالم، فنجد الشاعر يتنفس بعضا من صور الذاكرة، حيث الذات الناعمة لم تكتوي بعد بحرقة الواقع : وكنت طاحونة لا تمل من الريح لا تمل من جعجعة التفاؤل كنت أقفز من حلم إلى حلم كقطة اعتادت هواء الحرية ولا أكلم أحدا فقط أعبر هذه الصحراء كقطار أو كمطر ناعم والاغتراب في الذات الشاعرة من أسبابه يباس نبع الحب وفقر المشاعر، فيستفحل التوق وتتغول الذكرى لتحل محل الحاجة والخواء، يقول الشاعر في مناجاة عرفانية بديعة للحبيبة: احتاج لعينيك كي أتذكر الفجر طريا على ظفائر النساء وهن يغذين السهل بالسواعد والخرافات .. المرأة حضرت مرارا في شعر "ابراهيم ديب" لتطرزه بدلالات انسانية ثرية، باعتبارها رمزا للقوة، وذات فاعلية، ومكانة عظيمة في حياة الرجل، غير أن التغزل بالمرأة اتخذ أشكالا عرفانية وصافية مترفعة على الشهوة، وتمتح من نقاوة التصوف. يقول الشاعر : وأحبك حين تنسابين في قصائدي كماء ثمين حين تمطرين في قلبي كالمحراث حين تقذفين بي كالنصل إلى رماد الوقت حين تغمرينني كالبارود كي أنفجر في وجه العالم والمرأة أم في المقام الأول ، لذلك لم تغب الأم عن مخيال الشاعر، باعتبارها موضوعة للاغتراب، لا ينفع مع غيابها استرجاع وتذكر،ولا يملأ فراغها خيال، هي الأم بما تنطوي عليه من معاني الشبع والدفء والتجذر. يبرز هذا المعنى من قول الشاعر: صباح 2005 الطريق إلى أمي بعيدة جدا وأنا وحيد كبندقية أصوب الخيال تلو الخيال إلى رأسي لكنه أبدا لا يفيد في مثل هذه المناسبة. صباح 2005 أعرف أيها العام الجديد أنك الآن مسرور في حديقتي ونشوان بصداقتي لكنك في الغد لن تسأل عني ستصافحني بيدين لا شأن لهما بالشعر وستنصرف مغمغما بلا معنى كسعال قطار. وفي تناول موضوعي لم يغفل الشاعر الآفات الاجتماعية التي تتخبط فيها بلاده، بسبب التخلف والفساد ونهب الثروات وتفقير المواطن وتجريده من كرامته، فلم يجد هذا الأخير خلاصا إلا ركوب البحر للعبور إلى الضفة الأخرى طمعا في حياة كريمة، لكن للبحر حساباته الأخرى كما يؤشر على ذلك الشاعر : آخر الأخبار تقول : البحر قرر أن يرسل جيوشه لمدينة تشرف على الانقراض قرر أن يكون صديقا لأحفاد باكونين المتأهبين لكل شيء الأقيون والدم والسهرات الطويلة .. إن الشاعر كائن اجتماعي، لذلك لا ينفك يحتفي بالصداقة والرجال الحقيقيين، من قناعته أن مهمة الشعر المقدسة، لا يضطلع بأدوارها إلا رجال من معدن نادر : وكانت الأحاسيس تجري بلا رسن ككلاب بذاكرة سعيدة بحثا عن هنيهات تزاول الصمود عن أحلام تومض في الهزيع الأخير من اليأس عن رجال أشد لمعانا من مصابيح المدن الكبيرة. ولا يخلو الخطاب الشعري في الديوان من رؤى فلسفية للواقع المنفلت، فنجد الشاعر في المقطع الموالي، يعلن إمساكه للحظة، ونزع الأقفال عن أبواب الحياة المتمنعة الموصدة، إنه الشعور المفعم بالحرية وتحقيق الذات، في اقتناصة يستشف من سياق الكلام أنها هاربة لا محالة، لكنها فرصة نادرة للداخل كي يتفرج على الخارج ويتأمله ويستمتع بشروده المؤقت : العالم يبدو أنيقا وحرا بلا أقفال هنا لا أحد يترصدنا السكينة تهيم على وجهها كأفعى طالبة دغل الأعماق والحياة تجلس شاردة على صخرة تنظر إلى ما يحير العبيد من ذهب ونساء وخيول غامضة الحياة أخيرا تثب إلى يدي كسمكة حية وندلف جميعا باتجاه النافذة لنستقبل الجمال أينما كان. وكما كانت المراهنة دوما على الشعر، يصر الشاعر على امتطاء قصيدته لغزو المدينة - المدينة بمعناها العام-، بهدف تفكيك بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحضارية، والتي تحوم حولها أسئلة العصر ورهاناته، ومن هنا يبرز مبدأ التقابل بين الذات الفردية بذكرياتها وتشكلاتها، والمدينة-الآخر بسطوتها وغموضها وسياجها الناري، ومن هنا كذلك تبرز تيمة الاغتراب التي انتظمت الابعاد الدلالية للخطاب الشعري في الديوان، لذلك لا خلاص للشاعر إلا بامتطاء جواد الشعر لمزيد من الفهم والوعي للآخر. جواد للشاعر وحده، جواد ليس لأحد : وأقدم كقوس قديم يحتقر نشيد الشكوى ويهز المدينة كالكرنفال وأشعر أني مرغم على الكتابة مرغم على العيش فيما يبقى فيما يتوزع كالخبز والآلات ومديح الحياة مرغم على الدخول في بداهة النار وامتطاء قصيدة تشبه جوادا ليس لأحد وحبا ليس لأحد.
#خاليد_القاسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار مع القاص عمرو حسني
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|