|
قصة قصيرة: سائق تاكسي نزق
سوسن العطار
الحوار المتمدن-العدد: 1013 - 2004 / 11 / 10 - 11:33
المحور:
الادب والفن
صحا من النوم غاضبا كعادته يلكم الهواء نزقا، كأسد مشى بالغلط على وجهه فأر، سواء شبع نوم ام لم يشبع، وكعادته لا يشبع النوم ليلا ولا يحب لحظة الصحو حتى لو كانت بعد اذان الظهر، رشق وجهه بالماء البارد كيفما اتفق وبلل شعره المفلفل ولحيته التي لم تعرف موس الحلاقة منذ عدة أيام، أبدل ملابس النوم، واتجه الى المطبخ ليعد القهوة التي يبدأ بالصحو على رائحتها فقط، ويشربها ببطء في السيارة اثناء السياقة دون خوف ان تنسكب لان شوارع البلد المزدحمة الضيقة تجبره على المشي ببطء شديد لا يؤثر في الفنجان. أدار راديو التاكسي على إحدى الإذاعات المحلية، يحب فيها شيئين فقرة فيروز الصباحية، وأخبارها العاجلة عن حالة الحواجز على الطرق وشهود العيان الذين يتحدثون عن إسقاط طائرات الاف 16 والاباتشي أثناء الاشتباكات مع الاحتلال، الوقت لا زال مبكرا والجميع نيام، اليوم سيعود لمهنته التعسة سائق اجرة داخل البلد، اجبرته الحواجز المتعددة على السير في دائرة نصف قطرها كيلومتر ومحيطها؟ا كم يبلغ محيطها يستطيع حسابه بسهولة فتخصصه ليس بعيدا عن الرياضيات ، اجتاز شارع بيتهم باتجاه الشارع الرئيسي ، وقبل ان يبلغه فجأة قفز طفل أمام التاكسي ، توقف بسهولة قبل ان تلمس السيارة الطفل الذي لا يتجاوز السنتين شبه العاري الحافي ذو الملابس التي لا تتناسب وبرد الشتاء،نزل من السيارة غاضبا امسك الطفل ودق ثلاثة ابواب قبل ان يستدل على بيت الطفل، طرق البابا الموارب بعنف قبل ان ترد ، واضح انها أفاقت للتو من النوم ، فاثاره لا زالت في وجهها وعينيها وملابسها ، كان وجهها ملطخا بجميع انواع المساحيق منذ الليل على وجهها وترتدي روب شتوي يظهر تحته قميص نوم صيفي ساخن جدا ، شهقت وتلقفت الولد من يديه وقالت : يا لك من شقي كيف خرجت دون ان اشعر ، انفجر فيها افرغ ما في صدره من غضب: اي ام انت لا تدري عن ابنها، كيف تتركيه يخرج بهذه الملابس في هذا الجو، اين زوجك، اريد ان ارى الرجل – ان كان كذلك- الذي يسمح لمستهترة مثلك برعاية بيته واولاده، ، وظهر الزوج الذي تلتصق بوجهه بعض من اصباغ وجه زوجته، تجمع على الصراخ عدد من الجيران وفضوا الاشتباك قبل ان يتطور ويصبح الحق على السائق كالعادة، ويضاف اليه هذه المرة اضافة لدهس الطفل تهجمه على بيت سيدة اوقظها من النوم. ماذا سيفعل زوجها واضح من بقاءه في البيت أن لا عمل لديه يوقظه باكرا، لن يقاوم كل هذه الاصباغ التي تغطي وجهه، قد يفعل هو أيضا ذلك لو كان مكانه، لم يكن يهمه لو دهس والدة الطفل هذه المرة، فهو يعمل على سيارة اجرة صفراء اللون تحتوي على ترخيص وتامين شامل، منذ الحادث السابق يرفض العمل إلا على سيارة اجرة رسمي، ليس لديه فائض نقود بعد شراء علبة سجائر وبعض الطعام يدفعه كتعويض لطفل ذو ام مهملة، اوطفل يلقي به اهله في الشارع عمدا طمعا في الحصول على تعويض، او تصليح سيارة اخرى ضربها في لحظة نزق وسرعة. بعدما افرغ ما في جعبته من شتائم على البلد ونسائها المهملات ورجالها الورق الذين يسكتون على هكذا نساء وعلى قادة البلد الذين اجبروا مثله على ممارسة مهنة لا تلائمه ولا يجيد شروطها، شغل محرك السيارة وانطلق باتجاه الزحام المطبق، هنا لن يدهس اي طفل ولن يضرب اي سيارة، الجميع يسير بسرعة السلحفاة في الشوارع الضيقة المزدحمة، توقف امام امراة ضخمة بدينة تحمل سلة خضار بلاستيك - إلى أين يا أمي؟ - إلى البيت - أين بيتك؟ - في الشارع التالي يمينا وقبل أن بحري جوابا كانت قد فتحت باب التاكسي وبدأت محاولة الصعود. بدأت تثرثر، رفع صوت الراديو كي يتغلب على صوتها، بذل مجهودا كبيرا ليستعيد الانسجام مع صوت فيروز مرة اخرى بعد حادث الطفل، فكر ان يغير المحطة الى اخرى تذيع قران لعلها تحترمه وتصمت، وعبثا كل محاولاته، سالته هال انت متزوج ؟ الله يبعث لك بنت الحلال ، لدي بنات جميلات ، تبدو ابن حلال وتستاهل كل خير ، كم عمرك ماذا درست ، لماذا غير متزوج ؟! وبعد أن اجتاز الزحام: قالت الله يرضى عليك يا ابني توقف أمام هذا الدكان فقط أريد أن اخذ كر تونة بيض. توقف ونزلت المراة بصعوبة تحت تاثير الجاذبية الارضية على وزنها الضخم، على بعد امتار يقف شابان لوعادت بسرعة بامكانه التقاطهما قبل اية سيارة اخري، بعد دهر عادت محملة بعدد من كرتونات البيض وكر تونة أخرى مغلقة وسلة خضار اخرى وكيس كبير لا يعرف ماذا يحتوي وطشت غسيل يحتوي على مساحيق غسيل متنوعة، امتلأت شنطة السيارة والكرسي الخلفي وطار الراكبان سلفا، لا باس طالما انها ستدفع، وصعدت المراة بصعوبة بالغة وبدأت بإلقاء أوامرها، اذهب من هذا الشارع، الشارع التالي على يمينك ادخل عشرة امتار فقط، يمينا مرة أخرى، الآن اتجه يسارا عشرة أمتار أخرى يسارا المستنقعات الشتوية التي يختلط فيها ماء المطر بالمجاري، المطبات الطبيعية والمصطنعة، الاسفلت الذي يحوي بمعدل كل عشرة امتار حفرة، يا لهذا اليوم الرديء. وأخيرا بعد أن لف الكرة الارضية وصل باب بيتها، بدا بتنزيل الاغراض، الى ان انتهى بطشت الغسيل والمساحيق، وقبل ان ينزله على الارض مدت اليه شيكل، قطعة نقود واحدة ايجار راكب واحد فقط - ما هذا؟! - إيجارك يا بني - وهل الف الكرة الارضية ولا احمل سواك في التاكسي واشتغل عندك عتال من اجل هذا ؟! بدا صراخها يعلو وخرج اثنان من ابنائها اللذان اقترحا أن تدفع أجرة راكب آخر ورفضت! - ماذا راكب اخر، لقد شغلت السيارة بكاملها اجرة 4 ركاب صمت الاولاد الذين يعرفون طبع امهم التي قالت ولا مليم زيادة هذا حقك ما أخذته، لم اقل لك اريدك طلب . نظر إلى طشت الغسيل والمساحيق وقال لها: الاتريدين أن اغسل لك غسيلك بالشيكل ، انا خريج كيمياء و افهم جيدا اي مسحوق يلائم اي نوع من القماش ، ودرجة الحرارة الملائمة له ، ومدة النقع حتى نحصل على نظافة تامة ، وكمية الماء المستهلكة ، واية ملابس يجب ان تغسل يدويا بدا يهذي والقى بالطشت والمساحيق ارضا وامسك قطعة النقود التي لم يتسلمها بعد والقى بها بكل قوته في الهواء، وتسابق الأولاد في اتجاه الرمي طمعا للحصول عليه، وقال: لن تحصلي عليه كما لن احصل عليه انا، وادار وجهه واتجه إلى سيارته، وخرج من نفس المستنقعات ونفس المطبات، سيذهب خارج المدينة باتجاه الحاجز، فهو أيضا سيارة أجرة وبامكانه اجتياز الحاجز، على الأقل هناك شارع رئيسي معبد لن يضر بالسيارة، يقترب من الحاجز المغلق، عدد غير كبير من السيارات بسب إضراب السيارات التي تعمل بين المدن والذي يخرقه المتطفلين على المهنة أمثاله،أناس متكدسة تنتظر تحت المطر والريح كيوم الحشر ، باعة السجاير والشاي والقهوة في كل مكان ، رجل يبدو أنيقا يتحدث في هاتف نقال وبرفقته اثنين من المساعدين نزلوا جميعا من سيارة حكومية ، يبدو انه وزير أو على الأقل مدير عام في وزارة أو مسئول في احد الأجهزة الأمنية المتعددة ، جميل هذا الاحتلال الذي ساوى بين الرعاع والنخبة، يعيش الاحتلال الذي لا فرق عنده بين عربي وأعجمي حتى بدرجة العمالة والولاء له، الجميع كأسنان المشط ، جميعهم هنا سواسية ممنوعون من اجتياز الحاجز بسياراتهم الخاصة لو كان وزير المواصلات أو حتى وزير المفاوضات أو مدير عام شرطة المرور ، أخيرا هناك سببا للابتسام ، اقترب الثلاثة منه وصعد المسئول الكبير إلى التاكسي وحده ، هناك سيارة في الجانب الآخر من الحاجز بانتظاره ومعها طبعا طاقمها ستقله إلى معبر رفح للسفر ، فهؤلاء لا يطأون الجنوب إلا من اجل الخروج منه ،فكرفي نفسه انه لن يتعب مع رجل السلطة هذا فهو يدفع بسخاء من أموال الشعب ، حاول المسئول أن يبدو لطيفا وسأله بخبث لماذا تعمل دون زملاؤك؟ أجابه انه ليس من الزملاء هو مجرد مضطر للتطفل على المهنة أبدى تعاطفه مع جميع العاطلين عن العمل وحمل الاحتلال المسئولية كعادة أي مسئول في السلطة، وفكر الشاب في نفسه: يظنني مغفل لأصدق أن مثله يتعاطف مع من هم مثلي، فتح الحاجز أخيرا بعد شرب عدد من أكواب القهوة والشاي من الباعة الأولاد وتدخين علبة سجائر كاملة محاولا التغلب على ضجر الانتظار القاتل، وبعد جهد جهيد ومزاحمات، تمكن من اجتياز الحاجز إلى الجانب الآخر، الضفة الأخرى لجهنم. كانت تتوقف سيارة سلطة بطاقمها، أتوا مسرعين إلى التاكسي التي قفز منها المسئول مسرعا، لا يريد أن يراه الناس يتحرك في سيارات الأجرة كالرعاع، ترك المسئول يغادر التاكسي دون سؤاله عن الأجرة، حتما سيدفع له احد المساعدين، وقبل أن يشغل سائق المسئول محرك السيارة تأكد أن لا احد سيدفع له، اندفع باتجاه سيارة المسئول التي كانت على وشك التحرك - عفوا لم تدفع لي الأجرة - آه آسف أرسل لي فاتورة بالمبلغ على الوزارة - ولكنني لا اعمل من خلال مكتب تاكسي ولا فاتورة لدي - كيف ادفع لك إذن، لا أستطيع صرف أي مبلغ بدون فاتورة، دبر نفسك بفاتورة ولتكن ضريبية، هذا هو النظام في السلطة - ادفع لي كما تشاء ولكن ادفع الآن، أي مبلغ منك لن يشكل عبء على محفظتك - كيف لا يمكن وقبل أن يكمل كلامه انفجر السائق غاضبا: من تظن نفسك، لست عبدا عندك، ادفع الأجرة بالتي هي أحسن، أنا مثقف ومتعلم أكثر منك وأفضل من الجهلة المدراء العامين في وزارتك، غير أن الزمن الرديء وأمثالك أوصلني لمثل هذا. بدأت الناس المنتظرة تحت المطر على الحاجز في التجمهر، تساند أي طرف ولو لم يكن على حق عندما يكون الطرف الآخر مسئول في السلطة، يكفي أن يبدأ ولد واحد برشق حجر واحد وتتحول سيارة المسئول إلى قطعة خردة بالية، وعرف المسئول انه في ورطة، وفجأة تحركت السيارة مندفعة غير آبهة بالسائق أو بالناس، وبدا الشاب الغاضب النزق يصفق يديه قهرا: حسبنا الله ونعم الوكيل، يا لليوم الرديء يا لداخل البلد الرديء يا لخارج البلد الرديء، لماذا كل يومي مطبات وحواجز، من أغضبت دون أن ادري، سأعود إلى البيت اقبل يدي أمي وأبي عساهم يرضون عني، ويرفعون برضاهم غضبا الله وملائكته وكتبه ورسله والسلطة، فربما أكون أغضبتهم دون أن ادري. وأول شيء فعله حين عودته إلى البيت، مزق ورقتين أحداهما كسر البرواز المعلقة فيه منذ أربعة سنوات، والأخرى أخرجها من تابلوه السيارة، فقد عزم ألا يستخدمها بعد الآن.
#سوسن_العطار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حياتي التي اعيشها
-
أحلام مستغانمي وأحلام الرجال.... عابرون في خيال عابر
-
قصة قصيرة : شرفة في القمر
-
الكوتا النسائية تمييز ضد المجتمع
-
طفلة في العائلة
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|