|
الغجرية
شريف السقا
الحوار المتمدن-العدد: 3394 - 2011 / 6 / 12 - 09:23
المحور:
الادب والفن
هناك خارج حدود دائرة البيوت المتلاصقة المنحنية علي بعضها.... ساحة غير محددة الملامح ...تقبع بها المحاريث القديمة والبقايا البالية ....وفي كثير من الأحيان الحيوانات الميتة التي لم تجد طريقها إلي قنوات الماء كغيرها ....
إنه ذلك الوقت في بداية شهر الربيع ...حيث تزدهر الأشياء لتعود فتتيبس لاحقاً في الصيف ...لتموت من برد الشتاء وتدفن في وحله الزلق...
سري دبيب في الأنحاء ...و كسا الجو غلالة من الغبار جاء متراقصاً مع الهوام... وكنت أنا أنظر بعيون هجرتها الدهشة منذ زمن . ..فكل الإيام متشابهة هنا وطعمها يحمل نفس الملوحة ....أوغلت ببصري طويلاً وايقنت إنه ذلك إليوم حيث يأتي الناس بعد إن تتقيئهم العديد من النواحي وتقذف بهم هنا ....
تجمع من البقايا البشرية لا يخلف وراؤه بعد إن يرحل سوي تلالاً من القمامة ورائحة عطنة تستمر طويلاً ....لكنه الصخب الوحيد الذي يتصاعد كل عام في هذا الوقت كبصقة في وجه تلك البيوت النحيلة هنا .....
تقاطر الناس كلنمل ...لم لا ؟ إنه يوم المولد لذلك الولي الذي يقبع في دعة منذ زمن بين القريتين ويعلو ضريحه قبة خضراء كالحة اللون.....يصر الناس علي إقلاقه عدة أيام كل عام ....ويعلو صخبهم وضجيجهم حوله ...كأنهم شياطين هربوا من الجحيم خصيصاً له .....
خرجت من تلك المدقات الثعبانية انفث دخان سيجارتي في وجه الشمس التي خرجت يومئذ ترقب ما يحدث بفضول .....
كنت أسير تراودني الذكريات الميتة والكلمات البالية واندفعت مئات الأشياء القديمة بداخلي تعوي بصفاقة .....
قادتني اقدامي إلي هناك حيث إجتمع هذا الخليط المتنافر ....خيام بدأت في التناثر وصخب الأطفال كان مروعاً ....و بين هذا وذاك كان الغجر .....يثيروا أكبر قدر من الجلبة والصياح.....
إخترقت الساحة بلا هدف قتلاً للوقت ....وهناك كانت تتقافز برشاقة تلك الغجرية ....ربما لو رآها ذلك الولي الذي يرقد في دعته الأبدية لغادرها ونفض عنه أردية الموت وإرتمي علي صدرها العامر ليرتشف رحيقه .....
طالت نظرتي إليها وجالت عيوني علي هذا الجسد الغض صعوداً ونزولاً وبدت انها لا تبالي .....
ابتعدت وغابت عني ...وابتلعني الزحام وخنقتني رائحة الزيت المتصاعدة من قلي الطعام ....أصبح الجو ينز لزوجة لا تطاق .....
أصبحت الساحة كإسفنجة تمتص الناس من كل صوب ....حتي كبير الأوغاد جاء من قريتنا ....بقامته القصيرة ولونه الأبيض المشرأب بالحمرة ....يتقدمه بطنه المنتفخ الذي كاد إن يسقط منه ويلامس الأرض ...ويحتل المساحة الضيقة بين شفتيه وانفه الدقيق ..خيط أسود رقيق يبدو لي إنه شارب .....
لم تعد لي رغبة في التصالح مع تلك الكائنات ....ربما سأتصالح معهم بعد إن أركلهم من هنا حتي القي بهم خلف أبواب الجحيم .....
ندت صرخة جائت لتقطع كل ذلك ...كان ذلك الوغد يصرخ وتخرج منه الكلمات مبتورة وعصية علي الفهم ...تبين بعد ذلك إنه إلتصق بجسد تلك الغجرية فخمشت وجهه بشراسة قطة برية .....إستجمع الرجل قواه ...وانطلقت منه كل بذاءات السباب ....علي مرمي البصر وقفت هي ملوحة بسكين صدء مهددة......كفاني ما رأيت فقفلت عائداً.....
انحسرت الشمس وهبط رياح الليل ...ومن السطح كنت استطيع رؤية أنوار الساحة تأتي مغبشة مصحوبة بصخب الموسيقي واصوات الإنشاد .....
شيئاً ما اجتذبني .....هناك تحلق الرجال في دوائر وعلي دق الدفوف انهمكوا في الذكر حتي عملاق القرية ومخبولها ...كنا يتمايل يمنة ويساراً علي الدقات ...وكأن الخبل أصاب الجمع كله .....
كنت أيضاً اتمايل ربما من دوار الثمالة ....هناك بعيداً عن الصخب في أقصي الساحة كومة من السواد قابعة لم استطع أن أتبين كنهها حتي اقتربت ....ربما وقوف تلك الغجرية البرية التي رأيتها ذلك الصباح بمقربة منها أغراني بالإقتراب ......
عرافة ككل عرافاتهم ...تجاوزها الزمن أو بالأحري نسيها....مثل شجرة عجوز علي جوانب الطريق ...القيت لها ببعض النقود ....وأسرت لي بما يخبئه لي الغد....لم أكن مهتماً بما تقول قدر اهتمامي بتلك الغجرية الشابة الذي تعلق نظري بها طوال الوقت ....
اصابني الملل وودعت الساحة بصخبها ....وسرت مرة أخري إلي تلك البيوت الفاغرة أفواهها ببلاهة في إنتظار العائدين إليها .....
اشعلت سيجارة لتؤنس وحدتي في الطريق أو لعلها تخفف أثر ذلك الدوار اللعين ....لا أعرف لماذا راودني شعور بأن هناك أحد يتبعني ...لدرجة اني شعرت بلفحات انفاسه فأصابتني القشعريرة .....تلفت كثيراً ...لم أجد شيئاً ....أيقنت إن ذلك بالتأكيد أثر الخمر والدخان .....
دلفت إلي داخل الدار .....وبدأت في خلع ملابسي ببطء ...لم يعكر صفوي سوي نقرات خفيفة متقطعة ...ما لبثت أن أصبحت واضحة ....فتحت الباب وكانت هي .......الغجرية ....
#شريف_السقا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النداهة
-
قبل الفجر
-
ليل الهلاوس
-
عودة
-
رائحة وطن يحترق
-
المصنع
-
الرحلة
-
مرض الرجوع إلي الخلف
-
عدالة البؤس و بؤس العدالة
-
الشرخ
-
الفراغ
-
داخل الغرفة
-
أتذكر ؟
-
كازابلانكا
-
كلب السيد
-
أميرة الأمل
-
العزلة
-
سفر الخروج
-
فارس لا يموت
-
روليت
المزيد.....
-
-الناقد الأكثر عدوانية للإسلام في التاريخ-.. من هو السعودي ا
...
-
الفنان جمال سليمان يوجه دعوة للسوريين ويعلق على أنباء نيته ا
...
-
الأمم المتحدة: نطالب الدول بعدم التعاطي مع الروايات الإسرائي
...
-
-تسجيلات- بولص آدم.. تاريخ جيل عراقي بين مدينتين
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
السكك الحديدية الأوكرانية تزيل اللغة الروسية من تذاكر القطار
...
-
مهرجان -بين ثقافتين- .. انعكاس لجلسة محمد بن سلمان والسوداني
...
-
تردد قناة عمو يزيد الجديد 2025 بعد اخر تحديث من ادارة القناة
...
-
“Siyah Kalp“ مسلسل قلب اسود الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة
...
-
اللسان والإنسان.. دعوة لتيسير تعلم العربية عبر الذكاء الاصطن
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|