أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرحات فرحات - أبي















المزيد.....

أبي


فرحات فرحات

الحوار المتمدن-العدد: 3392 - 2011 / 6 / 10 - 15:16
المحور: الادب والفن
    


أبي
ها قد مضى على فراقنا ستة أعوام. يوم رحلت لم أكتب لك قصيدة رثاء كما يفعل الشعراء عادة, وقفتُ يومها بين جمهور المشيعين وقلت فيك كلاما ً بسيطا ً كبساطة فعل الولادة والموت, كبساطة موتك تلك الليلة. كنت ُ حزينا ً, شاردا ً, رأيت في عينيك ذاك اليوم إشارة الفراق, شيء ما همس لي أن أبقى معك لكني لم أسمع صدى الصوت, انصرفت إلى أعمالي وتركتك تحدث من حولك عن قانون الميزانية الذي لم يستطع أعضاء الكنيست إقراره. قلت لك وأنا خارج : مالنا ومالهم يضربوا, وكأنني أردت القول, خلينا في اللي فينا, ألا ترى كيف تدهورت صحتك يا أبي؟
لم أكتب لك قصيدة رثاء. ولو فعلت على عجالة وكتبت لاستفقت َ من سباتك الأبدي لتزجرني: هذا ليس شعرا ً! كم حاولت إقناعك أن الشجر يبكي وأن السماء تضحك وأن القمر يكتئب وأنت على إصرارك بأن هذا هراء وأن الشعر الحديث بكل أشكاله إنما زيف وضعف ومؤامرة على المتنبي وامرئ القيس. كنتَ تسعد عندما أتلو على مسامعك قصيدة عامودية حتى ولو خلت من التشبيهات والجماليات. يكفيك أنها موزونة ومقفاة. هكذا رأيتَ الشعر يا أبي وهكذا أردت أن يكون. ها أنا أجول بين أوراقك المبعثرة أحاول أن ألملم شمل قصائدك التي اصفرت أحرفها على مدى الأعوام, تنتظر منا أن ننقلها إلى مسكن جديد من ورق صقيل لامع يليق بهذا الميراث الذي أبقيته لنا وهو كنزنا الأبدي :
إني وجدت ُ معالمي ومكاني بين الرفاق وقد بلوت ُ زماني
وخرجت ُ من تلك المعالم ساخرا ً متأففا ً بمطامـــع ِ الإنسان
وذهبت ُ في حب الإخاء مفاخرا ً أهوى السلام لسائر ِ الإخوان
فبعدت ُ عن كل المطامع تاركا ً حقد النفوس ِ ودارة الإضغان
اختر لنفسك منهجا ً تسمو به عن عالم الأحقاد والأدران
إحفظ لسانك بالحديث فإن في حفظ اللسان معزة وتفاني
وإذا رمتك النائبات ببلوة أصبر فإن الله رب حاني
أتجول بين أوراقك بهدوء وسكينة, أقلب صفحات الماضي في محاولة لاكتشافك من جديد. هل كنت أعرفك حقا ً يا أبي؟ يبدو لي أحيانا ً أن حديثا ً ما كان يجب أن يدور بيننا ولم نفعله. أتحسر على هذا الحديث المنقوص رغم أني لا أدري كنهه ولا المكان الذي كان سيوصلنا إليه. أشعر بالحزن وخيبة الأمل إزاء هذا النقص الذي لا أستطيع كما قلت لك تحديد ملامحه. ربما لم تكن لدي الشجاعة الكافية لاختراق ذاك الحاجز الوهمي الهلامي أو ربما خشيت أن لا ألاقي من القبول قدرا ً كافيا ً. هكذا نحن بني البشر, عندما يتواجد الشخص, لا نجد عما نتحدث وعندما نجد عما نتحدث لا يتواجد الشخص. أعلم أني أظلم علاقتنا حين أصورها بهذا الشكل, فلم يكن يمضي يومان أو ثلاثة دون أن نتجاذب أطراف الحديث, حيث كان يبدأ خجولا ً في محاولة مني لاستدراجك إلى ملعبي حيث تكون الغلبة لي. ورغم انك كنت تدرك رغبتي هذه في الخروج منتصرا ً في أي سجال بيننا, إلا أنك لم تكن يوما ً على استعداد لرفع الراية البيضاء, ولطالما كان ينتهي النقاش بيننا بتدخل من أهل البيت : " يلا فضوها سيرة عاد ". كنت أدري مسبقا ً انك منافس قوي في الأدب الجاهلي وفي أمور الدين ومسألة الإيمان. كان هذا ملعبك بامتياز ولطالما اخترقتَ شـِباكي بأهداف رائعة تركتني مذهولا ً أمام أفكاري المهشمة عند القائم الأيمن أو الأيسر. لطالما سألت نفسي من أين لك كل هذه المعلومات وأنت لم تكمل سوى الصف الرابع؟ كنت ستجيبني طبعا ً, المطالعة. إنها ليست المطالعة وحدها, فلم تترك لنا مكتبة يشار إليها بالبنان. أفتش في مكتبتي علني أشتم رائحتك في أحد الكتب فلا أقتفي أثرا ً لها. أعلم أنك كنت مولعا ً بالأدب العربي الجاهلي وقد حرصت على اقتناء كتب أبي العلاء المعري وبعض الكتب الدينية والفلسفية. جئتك يا أبي مرة بكتاب أنيس منصور" في صالون العقاد كانت لنا أيام " كان الكتاب ثقيلا ً ولا يمكن قراءته محمولا ً لضخامته, قدمته لك بكثير من الإعجاب بعباس محمود العقاد, الشاعر, الأديب والفيلسوف الذي شكل ندا ً قويا ً للدكتور طه حسين رغم أنه لم تبلغ ثقافته حد الصف الرابع. قلت لك مازحا ً, يبدو أن سرا ً ما في ثقافة الصف الرابع, أنظر إلى هذا الشخص. علت وجهك ابتسامة خجولة وكأنك أدركت محاولتي الإطراء لك.
يعلم الله يا أبي مدى شوقي إليك في هذه الأيام. احتجتك كثيرا ً في السنوات الأخيرة. كم من مرة أردت أن أختبأ في عينيك العسليتين هاربا ً مما ألمّ بي أو لأقول لك: أترى يا أبي؟ وأخيرا ً تعادلنا. حتى في المصائب تعادلنا. حين رافقتك بعد ان بُح صوتك قال لك الطبيب أنك تعاني من سرطان في الحنجرة. طأطأتُ رأسي محاولا ً الهرب من نظراتك. أمسكتَ يدي بقوة وقلت بصوت فيه من الحدة والرقة معا ً: شد حيلك مالك ارتخيت؟ بعد سنوات قليلة أردتك أن تكون بجانبي لأمسك بيدك حين رمقتني الطبيبة بنظرة مجردة وزفت إلي خبر مرضي ثم مضت لمريض آخر" ولبشرى " أخرى. تعلمت منك أن أتقبل الأمر بأعصاب هادئة. مضينا إلى البيت بهدوء لا عاصفة وراءه. هدوء من لا يدخل حربا يعرف أنه لن ينتصر فيها, هدوء من يعرف أن يطأطأ رأسه أمام المحن حتى تمر من فوقه بسلام. وقد مرت عليك وعلينا بسلام ونسينا.
أحاول الآن أن أمرر شريط حياتك أمامي من جديد. أحيانا ً, تخفى عن حياتنا حقائق سهوا ً أو لأننا لم نعرها الانتباه اللازم, ثم كما يحصل عند مشاهدة فيلم سينمائي للمرة الثانية, تتكشف تفاصيل ذات مدلولات وأهمية غابت عن وعينا بادئ الأمر. هكذا أرى هروبك من بيت جدي مرتين والتحاقك في الجيش الإنجليزي وهكذا أرى تمردك ومحاولة تحقيق ذاتك خارج تلك الأطر التقليدية في مجتمع قروي بسيط. عندما كان أولاد جيلك يتزوجون وهم في السادسة عشرة, فعلتها في الثلاثين. عندما كان معظمهم " لا يفكون الحرف " كنت تكتب الشعر وتتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة شبه تامة. كم كنت فخورا ً بك يا أبي يوم وقفت في باحة المجلس المحلي وأنت في زيك الديني ولحيتك البيضاء, تخطب أمام الناس باللغة الإنجليزية بعفوية الأطفال على شرف حفيد السير أوليفنت الذي طلب مقابلتك خصيصا ً كحفيد لحفيد إذ كان جدك " أبو ذياب " مساعد وسكرتير جده يوم أقام هذا الأخير بين سكان البلدة آنذاك معززا مكرماً. كنتَ قليل الكلام يا أبي, تصمت إلى حد الخنوع أمام من يحدثك, وكم كان هذا الوضع يستفزني فأصرخ في داخلي مرارا, يا إلهي, لماذا يصمت أبي وهو أفهم الحاضرين وأكثرهم فطنةً! كفى تواضعا ً, لا أطيق هذا التواضع. وأنت كما أنت, تحترم الكبير والصغير, تتنازل عن حقك وتبقى على صمتك. أصرخ في داخلي, أود أن أصرخ في وجهك ثم يلفني الصمت أنا الآخر وكأنها عدوى عائلية.
أعلم أن حياتك لم تخل في مرحلة معينة من الهزار والدعابة. لم تكن تعترف أمامي بمعظمها وعندما كنت أمازحك كان جوابك أن فلانا ً" يبهر" تلك الحكايات عمدا ً أو يلصقها بك حتى يبعدها عن نفسه. سمعت عن طيارتك التي صنعتها وحاولت كالأخوين رايت التحليق بها فلم تنجح . قال يومها في هذه الحكاية الشيخ أبو صقر جابر:
يا رجا سكّر محل نجارتك وكسّر المنشار واحبس فارتك
حنطورتي من شهر إلها ضايعة عمتشتغل في البحث عن طيارتك
فأجبتـَه :
الطيارة العم بتطير فوق الغيم وفوق الريح
قايدها فارس نحرير لا بيخاف ولا بيزيح
مش مثلك عالحناطير قاعد من خوفك بتصيح
يا عالم شو هالتعتير مش قادر إدعس فرام.

لكنك سرعان ما تعود إلى رصانتك لتخاطب حواء بهذه الأبيات المقتطفة :
سيري على درب الكمال إلى العلا وتزودي بالعلم ثم ترفقي
هذا التبرج لا يليق بغادة كبرت على حب الثناء الشيق
الغرب ليس بقدوة في زيه كي تقتديه مع اللباس الضيق
تلك الملابس لا تليق بحرة تأبى لباس الضائعات الفسّق.

يبدو لي يا أبي ان حديثنا المنقوص سيظل حبيس غرف قلبي, فأنا الشخص وانت الشخص غريبان في حدود هذا الزمان والمكان, ننظر إلى أنفسنا وإلى من حولنا فلا نرى إلا صدأ هذا العمر وفرص حياة تبخرت بين أيدينا دون أن نعرف أنها كانت بقبضتنا يوما ً.



#فرحات_فرحات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورات
- ظلال وأشياء أخرى
- مقطوعتان
- شذرات
- - سته أكتوبر -
- ثلاثة مقاطع
- خمس ُ خطوات ٍ من الهاويه
- قاهريات
- شرود
- أبراج 2
- أبراج
- أ ُحاورك ِ بيني وبيني
- أبكي لها أبكي عليها
- دزينة ٌ هي قُبلتي
- من وحي شوبنهور
- صَوتُك ِ
- نظره على العنف
- سيد عربي
- قصيده : وجه الثلج
- أن نشرب َ السراب


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرحات فرحات - أبي