محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 3392 - 2011 / 6 / 10 - 00:20
المحور:
القضية الفلسطينية
في الحديث عن إحياء ذكرى النكبة وأختها النكسة هذا العام ادعي "البعض" استثنائيتها على اعتبار أنها المرة الأولى التي تعمد الأراضي العربية المحتلة بدم فلسطيني من خارج حدود فلسطين التاريخية عن طريق الحدود السورية واللبنانية وفشل المحاولات من الحدود الأردنية والمصرية ليس بهجوم فدائي عسكري مسلح كما جرت العادة دائما زمن تصاعد العمل الفدائي المقاوم بل بهجوم مدني انتفاضي عار من السلاح وبصدور عارية أسوة بما يسود الوطن العربي من انتفاض مدني , ولا ننسى أن نأتي على ذكر أن هذا "البعض" قد استنتج واستنتج ومازال يستنتج أن لهذا الحدث "الجلل" له دلالات ومعان استثنائية لا تقل استثناءا عن استثنائيته بالمجمل ونحن بدورنا نقر هذا "البعض" باستثناء ما جرى بعد السكون حتى درجة النسيان والبرود حتى الصقيع الذي ساد جبهة الجولان أربعين عاما وانكسر بقدرة رجل أعمال النظام الأشهر من نار على علم , رامي مخلوف , تنفيذا لما هدد به الغرب و"إسرائيل" في تصريح له لصحيفة أمريكية(نيويورك تايمز) مفاده أن "جارتنا إسرائيل" لن تنعم بالأمن طالما النظام ورجالاته لا ينعمون به .
إضافة إلى اتفاقنا مع هذا "البعض" باستثنائية ما جرى فنحن أيضا نقر بدلالاته ومعانيه ولكن بعكس ما حاولوا أن يغطوا عين الشمس بغربالهم تضليلا .
نعم لقد كان للحدث الاسثنائي معان ودلالات واضحة لا أظن أنها غابت عن ذهن من أراد أن يرى ولكنها في الحقيقة تخص أكثر ما تخص في دلالاتها المنتفضين السوريين من غيرهم , فهم الذين يكتوون بنار دبابات وأسلحة قد شريت من لقمة عيشهم بذريعة الدفاع عن حدود الوطن وجيش يدفعون رواتبه من رواتبهم للذود عن حياضه . هم يدركون استثنائية ما جرى لأنهم قد رأوا بأم عينهم ومنذ أربعين عاما كيف ساد جبهتهم مع عدو يحتل أرضهم هدوء وبرود ويدركون بحسهم الشعبي أن التواجد العسكري للجيش السوري فيها محدد ومقنن يشمل هذا المنع والتقنين حتى بعضا من حدود حوران دون حاجتهم للاطلاع على وثائق سرية ما أو اتفاقات معقودة غير معلنة , ولا أدري إن كان قد أصبتهم الدهشة كيف غض العدو والغرب الطرف عن تواجدها في المنطقة الممنوعة عندما لتقتل المواطنين هناك بادعاء أنهم "مندسين" أو "سلفيين" أو "إرهابيين" وربما مخربين حسب التسمية الإسرائيلية.
إن من أهم الدلالات الحقيقية لهذا الحدث , والتي تفترق بالطبع عن استدلالات "البعض" الموما إليهم في المقدمة والمتسق طبعا مع ما يتشدق به النظام ورجالاته ووسائل إعلامه , هو ما أثير من تساؤلات مشروعة حول ماهية المصالح المتبادلة بين الكيان الصهيوني والنظام في تبريد جبهة الجولان على مدى ما يقارب أربعين عام منذ توقيع اتفاق ما سمي "فض الاشتباك" في سياق تصريحات رامي مخلوف , بكل بساطة لو أراد أي امرء ذو بصيرة أن يتمعن أي معنى فلن يكون بالتأكيد ما يتشدق به النظام عبر وسائل إعلامه يردده "بعض" ممن يوالي أو يمالئ النظام السوري فهل حقا هناك استثناء رافق ذكرى النكبة والنكسة هذا العام .
ربما الاستثناء الجوهري المفصلي الذي يمكن أن يلاحظه المرء دون عناء تفكير هذا العام بين طقوس إحياء ذكرى النكبة والنكسة ومثيلاتهما عن سابقاتها هو غياب كل ما يتعلق بفلسطين عن موائد كرنفالاتهم باستثناء من أراد استخدامها قميصا لغاية في نفس يعقوب سنعرج على أسبابها قليلا فيما سيأتي من متن المقالة لانشغالها بمصير استمرارها في الحكم الذي قض مضاجعه الانتفاض المدني العربي الاستثنائي بحق .
لم تملك الأنظمة العربية هذا العام أي مسوغ , في خضم انتفاض شعوبها عليها لكنسها , لممارسة أي نوع من نفاق مارسته سابقا حتى القرف تضليلا لشعوبها لتغطية دورها الخياني جانب الكيان الصهيوني فيما آلت إليه أمور العرب وبلادهم منذ اقتراف إثم النكبة تليها النكسة وآثارها التدميرية ليس إلى الشعب الفلسطيني وحسب بل وجميع الشعوب العربية والشعوب التي تسكن بين ظهرانيها لصالح هيمنة الامبريال الغربي , فهذه الأنظمة والكيان صنوان كما سبق لنا وأكدنا من خلال دراسة تحت عنوان : "حول الكيان الصهيوني وكيان الدويلة الكولنيالية العربية وما بينهما" نشرت في موقع الحوار المتمدن , وهي تدرك بما لا يدعو للشك أن أحد الأسباب الأساسية للانتفاض العربي عليها هو دورها الخياني ذاك الذي لعبته في الفعل النكبوي والنكسوي مما أفرز شعور المهانة العامة والهزيمة التي تم استدخالها على الشعور الجمعي العربي كافة رافقه ذل وهوان وخوف يومي مستمر أذاقتهم على مدار حكم هذه الأنظمة مذ اعتلت السلطة والأصح مذ عينت فيها أو اغتصبتها وهاهو ينتفض لينفضها عن كاهله دفعة واحدة بدمه الأعزل .
سوى ذلك لا استثناء على ما درجت عليه العادة في ذكرى كل من النكبة والنكسة عليها هي قدومهما المتواتر على وقع مجزرة : قتل وتهجير عدد آخر ممن تبقى من شعب فلسطيني في فلسطين أو من يرابط على ثغورها , ومن تعجز أن تطاله يد الكيان الصهيوني في الثغور تتكفل به الأنظمة في أحايين كثيرة , مخيم وراء مخيم أو لبعض مخيم قربانا لذكراها : فهذا العام كان مخيم اليرموك في دمشق على يد أحمد جبريل (ليست المرة الأولى التي يتعمد فيها دم المخيم , أذكر في إحدى مظاهراته بمناسبة يوم الأرض مطلع الثمانينات من القرن الماضي سقط العشرات من الشهداء على يد الأمن السوري) وقبله نهر البارد في لبنان وما قبله البداوي وما بعده مخيم البلديات في العراق وما قبله في الكويت وما قبل قبله تل الزعتر وما بعده صبرا وشاتيلا وما بينهما برج البراجنة بالتوازي مع عين الحلوة وما قبل قبل قبله في الأردن..وهكذا سلسلة طويلة لا تنتهي من الفداء المخيمي الذي لا يمل الفداء.
نعم إن الاستثناء الوحيد الذي نراه من وجهة نظرنا والذي وسم قدوم ذكرى النكبة والنكسة هذا العام هو الانتفاض العربي الذي جرف حتى الآن إثنان وتستبشر به الشعوب العربية , إن اكتمل ثورة عربية , أن يجرف سيله الباقون ممن سعوا طوال حكمهم لترسيخ آثارها .
وصول العشرات من الشباب الفلسطيني الذين رووا بدمائهم أرض الجولان حيث منعوا عنها طوال فترة حكم عائلة الأسد والتي سادها الهدوء الشديد منذ حرب تشرين 73 هو الاستثناء الذي طبل له النظام السوري ومن حوله من "البعض" القومجي أو اليسراوي أو الإسلاموي والعديد من طائفيين ومذهبيين تحرجوا من التعبير المباشر عن أسباب تحزبهم الحقيقي للنظام يلبسونه تارة لبوسا وطنيا وتارة قوميا , يتهمون المقتول بذنب أنه قتل وهو يرفض ذله وجوعه وخوفه تحت دعاوى الحرص على الوطن , هذا الوطن الذي رهنه القاتل لدى العدو منذ انسحابه من الجولان مقابل استمراره في الحكم كل ما فات من سنوات , بل يساهم هذا "البعض" إلى جانب النظام بالقتل والإيغال بدم الشعب للدفاع عن "صمود" النظام كما يدعون بهتانا وتضليلا الذي لم يستخدمه سوى في تحطيم العراق وعن "ممانعته" التي كانت بردا وسلاما على عدو احتل الأرض العربية منذ 1948 وليس 1967 كما يطيب لبعض مناهضي النظام من بقاياه السابقين وبعض من لبراليين تأمركوا وتصهينوا أن يحدوها فقط باحتلال الجولان ربما لغاية قادمة في نفوسهم. سمح النظام إذا هذا العام لبعض الشباب الفلسطيني للوصول إلى الحدود الغير مسموح لأحد الاقتراب منها دون تصريح رسمي من المخابرات السورية لإثارة فزع "إسرائيل" وحلفائها الغربيين بعد نفاذ فزاعة سلفيين/إسلاميين/خراب/فوضى , باللعب بمشاعرهم الحماسية واندفاعهم للتضحية كرمى الأرض العربية , وجرى ذلك بالتنسيق مع حلفائه في القيادة العامة (واستبعاد التنظيمات الأخرى المقيمة في دمشق من بينها حماس والجهاد لعدم انسياقهم لتبني نظرية النظام في صراعه مع الشعب في سوريا كما ورد إلينا من أخبار) تنفيذا لما هدد به مخلوف , على حساب الدم الفلسطيني , وحاشى أن نستخف بما سال من دم طاهر سقا أرض الجولان ومارون الراس في جنوب لبنان لشباب يعشقون الأرض العربية وإنما القصد الكشف والتوضيح .
إحدى الوقائع التي رافقت قدوم ذكرى النكسة هذا العام , يمكن اعتباره استثناءا صغيرا , ما قامت به دار النشر Laika في مدينة Hamburg الألمانية في شهر حزيران الجاري , فقد عقدت ندوة بعنوان " عندما يوظف العلم لخدمة التسلط , النضال من أجل الحرية الأكاديمية في إسرائيل " كسيرة ذاتية للمؤرخ الإسرائيلي المعروف إيلان بابيه. لإدراكي أهمية ذلك في ظل ما ساد عملية تكوين الوعي الجمعي الألماني خاصة والأوربي بشكل عام لتبرئة "إسرائيل" من دم يوسف الفلسطيني وعدم تحميلها مسؤولية نكبته ونكسته بمعية وسائل الإعلام الأوربية التي يسيطر على معظمها الرأسمال الصهيوني .
اشتهر بابيه كما هو معروف في الأوساط الأكاديمية العالمية من خلال دراسته الجريئة "التطهير العرقي للفلسطينيين" , سجل من خلالها تنديده بما اقترفته الصهيونية في حينه من جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني بوسائل وحشية وعنصرية لتفريغ فلسطين من سكانها العرب , لإقامة دولتها "إسرائيل" على أرض "خالية" من السكان كما ادعت وبالتالي كشفه لحقيقتها ودورها في رسم تاريخ المنطقة . وبسبب تحليله هذا حول طريقة قيام "إسرائيل" وانتقاداته المستمرة لسياستها : من حصارها لغزة وتقطيع أوصال الضفة فقد كرسيه كمدير لمعهد دراسات السلام Givat Haviva ومن إدارة معهد إميل توما في حيفا , ولما ألفى نفسه عرضة للاعتداءات الجسدية من قبل المستوطنين في الأراضي الفلسطينية بعد أن رفعت الحكومة"الإسرائيلية" الحصانة عنه واتهامه بالخيانة هاجر إلى بريطانيا وباشر العمل فيها منذ عام 2007 من خلال التدريس في جامعة Exeter , معهد الدراسات العربية والإسلامية. وفي هذه المناسبة سأستعرض بعض المقتطفات من كتابه الموما إليه من فصل " شياطين النكبة " بعد أن قمت بترجمته إلى العربية دون أن أدري إن كان الكتاب قد ترجم إلى اللغة العربية , تكريما له وإحياءا لذكرى النكبة والنكسة لهذا العام .
شياطين النكبة
لم أكن قد كونت أي تصور أو فكرة عما تعنيه كلمة "نكبة" قبل بلوغي سن الخامسة عشر من عمري , وأولى مصادفتي لها كانت وأنا في مطلع سنتي السادسة عشر عندما كنت طالبا في المدرسة العليا في حيفا المدينة التي ولدت فيها حين جمعتني الدراسة بزميلين فلسطينيين من سكانها صدف أن كنا تلاميذ شعبة واحدة وحدث أن ترافقنا في رحلة مدرسية أقامتها مدرستنا عبارة عن جولة في بعض أحياء مدينة حيفا القديمة حيث يقطن الشابان مع أسرتيهما ومن بقي من سكانها الأصليين الذين هجروا على إثر حرب 1948 . حوت المدينة حينها معالم وشواهد أبنية وأنقاض تدل على أن مدينة عربية قديمة جميلة كانت قائمة في المكان . من ضمن هذه بقايا التي ما زالت زاخرة في ذاكرتي أبنية بنيت بطراز عربي معهود بجماله وبقايا من أسواق مسقوفة وكنائس ومساجد مهدمة تشهد على بشاعة ما جرى خلال تلك الحرب الملعونة . لقد كان وقع ما شاهدت على نفسي شديدا وفريدا. اختفت معظم معالم المدينة القديمة بفعل فاعل وعن سابق ترصد بالبلدوزر إياه الذي مازال سيد المشهد يترك بصماته في كل مكان على مشهد الصراع الذي سعت وتسعى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة به محو معالم الهوية العربية لمدينة حيفا كما المدن والقرى العربية الأخرى والتي اكتشفت فيما قدم من عمري أن بعض ما تبقى من معالمها متناثرا بين الكتل الاستيطانية الحديثة ما زال يدل على قدمها .
شملت جولتنا المدرسية خربة الشيخ وتوقفت مليا عند بقايا منزل عربي مجهول تاريخه . لفت نظري همهمات تبادلها زميلاي العربيان دارت حول البيوت المتبقية منذ حرب النكبة ثم تابعا بعد ذلك بصوت عال مغامر يتحدى الأساتذة الإسرائيليين المرافقين لنا في الجولة المدرسية .
الخطاب السياسي لليسار الصهيوني
تعرفت فيما بعد على ما يمكن أن يطلق عليه المرء هنا في إسرائيل "اليسار الصهيوني" من خلال خدمتي في الجيش ودراستي الجامعية أثناء تحضيري للبكالوريوس في لتاريخ الشرق الأوسط في مدينة القدس , ثم عملت في الكنيست الإسرائيلي كمستشار متطوع للحزب اليسار الصهيوني "مابام" منسقا لنشاطاته الجامعية إلى جانب تقديمي المشورة لنوابه في البرلمان في "المناسبات العربية" , وقد اكتشفت بأم عيني حقيقة " يسارية" هذا اليسار وخطابه السياسي ونقده للحكومات الإسرائيلية الذي لا يتجاوز عتبة ما تسمح أيديولوجيا دولة إسرائيل به وما يتفق مع المبادئ الأساسية الصهيونية التي استندت إليها كمسوغات لإقامتها ووجودها متلطية خلف شعار ما تدعيه كدولة قائمة على "التعددية اللبرالية" .
وكأنه كان لزاما علي حتى أدرك ما أنا فيه من وضع خاطئ وفهم الحقيقة أن أترك إسرائيل عام 1979 لألتحق بجامعة أكسفورد في لندن لمتابعة دراسة الدكتوراه حتى أمارس نقدا صحيا بناءا يتناول الرواية الصهيونية في إقامة دولتها دون أن يشوبني عيبا أو خللا أخلاقيا .
باشرت مطلع عام 1980 دراسة رسالة الدكتوراه في كلية القديس أنطوني (St. Anthony’s College ) في جامعة أكسفورد وبدأت العمل برعاية ألبرت حوراني و ادوارد روجر أوين بدراسة عما جرى من أحداث عام 1948 .
عند وصولي الجامعة كان البروفسور حوراني على وشك إنهاء سيرته الأكاديمية الرسمية ليبدأ التحضير لكتابه الرائع الذائع الصيت " تاريخ الشعوب العربية " وقد كنت لحسن حظي آخر طلابه في جامعة أكسفورد , أما البروفسور روجر أوين كان في منتصف طريقه الأكاديمي الرسمي حيث كان قد سبق له كباحث مؤسس ومؤرخ أن عمل على دراسة البنية الاقتصادية والاجتماعية لفلسطين زمن الانتداب على الرغم مما أحاطه من صعوبات .
كان البروفسور ألبرت حوراني من بين اللذين اعتمدت آرائهم كمرجعية موثوقة لجنة تقصي الحقائق الأمريكية التي كلفت لدراسة المشكل الفلسطيني في حينه عام 1946 واعتبر خبيرا يعتد برأيه حول الصراع العربي-الإسرائيلي .
أما البروفسور روجر أوين قد انشغل بدراسة المنطقة عهد الإمبراطورية العثمانية تاريخيا ولتشكيلتها الاقتصادية-السياسية . كليهما شكلا رؤية جديرة بالاحترام حول ما شاب القضية الفلسطينية عام 1948. لم يكن يعني ذلك بالنسبة لي الوصول إلى الحقيقة من خلال الاطلاع على رؤيتهما للصراع وحسب بل اكتشافي الأسطورة المزورة والكاذبة التي تلقيتها في طفولتي أثناء جلوسي إلى مقاعد الدراسة في المدارس الإسرائيلية . لقد أنار لي كليهما , حوراني وأوين , طريق البحث الأرشيفي الحقيقي , فعثرت بالضبط على توضيح ما كنت غير متأكد منه وما توصلت إليه من آراء خاصة من خلال اطلاعي على الوثائق المفرج عنها والمتعلقة بحرب 1948 أثناء شغلي لموقعي السابق والقريب من قوى اليسار الصهيوني .
تملكني في البداية تشاؤم كبير أني اخترت في دراستي الرؤية البريطانية حول حرب 1948 عندما افترضت حيادية السياسة البريطانية في ظل ما جرى عام 1948 بمعنى أن بريطانيا قد تحملت أعباء الفصل في الخلاف بين الطرفين مكرهة .
إن المنهج المنطقي لتحديد النظرية في البحث الحر يعني العمل الجاد لفك لغز الوثائق الدبلوماسية والإعدادات التي أحاطت بها للحبك السياسي . فإن التأريخ الأكاديمي للسياسة هي دائما أوضح بما لا يقاس للسياسة نفسها والتي تتعارض وتتناقض معها تماما كما ذكر لي مرارا البروفسور أوين .
بعد عدة أشهر من العمل المتواصل في الأرشيف أدركت , ومن الوهلة الأولى , أن السياسة البريطانية عام 1948 لم تكن تمت بصلة بالحيادية التي ادعتها في حينه إلى حد بعيد هذا إذا ما كانت , وكما توصلت بعد الخوض في تفاصيل الوثائق , معادية للفلسطينيين .
سعت حكومة الملك البريطاني جورج السادس للحفاظ على مصالحها بتبني الحل الأمثل بأفضل الطرق من خلال تقسيم أرض فلسطين التاريخية التي كانت تحت انتدابها إلى وحدتين سياسيتين : دولة يهودية , ودولة أردنية ما يعني بكل بساطة الاعتداء بشكل صلف على الحق الفلسطيني , أي كما كان زميلي آفي شلايم يدعوه اتفاق صريح بين إسرائيل وبريطانيا والأردن لمحو فلسطين والفلسطينيين من الوجود .
لقد سمحت لي دواع تحضيري رسالة الدكتوراه , والتي كانت تعتمد بشكل كامل على المواد الأرشيفية , الاطلاع على وثائق لم تكن الحكومة البريطانية قد سمحت بنشرها بعد , كنت مازلت مقنعا , وأنا على وشك إنهاء أطروحتي عام 1984 , أن عملي سيقتصر على الجانب الأكاديمي المحض ولم يثر اهتمامي في حينه كثيرا الجوانب السياسية لقضية الصراع الراهن بل كان كل جهدي منصبا في السنوات الأولى على البحث الأكاديمي وجهدت في الوقت نفسه على تأليف كتاب من وحي أطروحة الدكتوراه نشر عام 1988تحت عنوان " بريطانيا والصراع العربي الإسرائيلي 1948-1951 " وقد كشفت فيه القناع عن الأضلولة الإسرائيلية العتيدة التي اعتمدت عليها لاختلاق "حرب تحرير" وهمية من "الاحتلال البريطاني" والادعاء بأن بريطانيا كانت عدوة للصهيونية ولإسرائيل , بل يمكنني , وبالاتكاء على ما تجمع لدي من بحوث , الذهاب إلى أبعد من ذلك لأقول أن بريطانيا قد لعبت دورا جوهريا وأساسيا إلى جانب الحركة الصهيونية بانتهاج سياسة التطهير العرقي في فلسطين من سكانها الأصليين لإقامة الدولة الإسرائيلية , وقد نشر في ذلك الوقت على نطاق واسع على الأقل كتابان لمؤلفين إسرائيليين تناولت القضية من زاوية أخرى قد اتفقت مع الاتجاه الذي توصلت إليه في تحليل ما جرى في حرب 1948 أحد الكتابين بعنوان "The Birth of the Palestinian Refugee Problem" (ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين) ل Benny Morris (بيني موريس) والآخر " Collusion across the Jordan "(الاتفاق السري عبر الأردن) ل Avi Shlaim (آفي شلايمز) .
إن موريس مؤرخ إسرائيلي أنشأ الهيكل الأساسي للمواد الأرشيفية التي توثق لعملية التهجير الجماعي للفلسطينيين من أجل إقامة الدولة الإسرائيلية في حرب عام 1948 ولكنه قال أن هذا لا يمكن اعتباره خطة ممنهجة وإنما بسبب ظروف الحرب نفسها التي كانت تتوسع و تتطور حسب ظروف المكان . لم يكن ما ذهب إليه موريس أقل خطورة من السياسة الإسرائيلية التي ترفض حق العودة للفلسطينيين الذين هجروا من أراضيهم قصرا .
إن تهديم مئات القرى الفلسطينية والعشرات من الأحياء والنواحي والأقسام في صيف عام 1948 بشكل مقصود كان الهدف منه القضاء أو إعاقة فكرة عودة الفلسطينيين إلى ديارهم التي تنص عليها شرائع جمعية الأمم المتحدة .
أما شلايم فقد اهتم بإسهاب بتاريخ وتفاصيل الاتفاق الذي عقد بين ملك الأردن وقادة إسرائيل في حينه لتقاسم فلسطين على حساب سكانها الفلسطينيين . وكان واضحا من كتابه انتهاج إسرائيل ومنذ 1948 سياسة عدوانية ضد العرب وتقوم على القهر وتبني موضوعة "القبضة الحديدية" التي وسمت سياستها منذ 1948 وحتى عام 2000 .
سياسة الطرد المنظم
لقد حدت عن التوجه الذي كان من المفروض أن أتبعه في دراستي عند مجيئي إلى جامعة أكسفورد وقررت أن أجعل حدث عام 1948 موضوعة أطروحتي للدكتوراه . في علاقة مباشرة بالموضوع , والذي كنت قد درسته في مدينة القدس , كتبت عن السياسة البريطانية فيما يتعلق بذاك العام المثير للجدل .
يعتبر من الأهمية بمكان , كما أظن , أني تناولت ما جرى في تلك الحرب باعتباره أنه يعبر وبشكل جلي عن المسؤولية الأخلاقية والسياسية لبريطانيا عما جرى من تطهير عرقي للفلسطينيين ذاك العام .
كان لعثوري على البرهان القطعي للجرائم التي نفذها القادة الإسرائيليون تأثيرا كبيرا على مجريات حياتي وأصبحت رهينا لموضوعة النكبة التي لم أعد أجد لنفسي فكاكا منها إلى الدرجة التي أبقت ذكراها المأساوية حية في داخلي طوال مسيرتي المهنية وخلقت لدي استعدادا دائما للسعي بالمطالبة لتعويض الفلسطينيين عما لحقهم من أذى نتيجة ما اقترف بحقهم من جرائم . بفضل المؤرخ الفلسطيني والمعرفة السابقة المتحصلة من متابعة النضال الفلسطيني بشكل عام والاستدلالات المستنتجة من سرعة البناء الاستيطاني وتوسعه على أراضي القرى الفلسطينية والأحياء العربية في المدن المتبقية التي تعود بملكيتها للفلسطينيين توصلت إلى حقيقة أن طرد الفلسطينيين من فلسطين هو سياسة مقصودة وممنهجة اتبعها قادة إسرائيل المتعاقبين عن وعي وتخطيط مسبق , وكأن سفرتي الشخصية الخاصة كانت حاجة ملحة لأدرك حقيقة ما كان يجري تحت ناظري بشكل خفي طوال الوقت من إنكار وتزوير وتشويه متواصل .
إن القرى العربية التي طرد منها الفلسطينيون عام 1948 سرعان ما استوطنها مهاجرين يهود جدد وخلال بضعة أشهر تبدلت أسماؤها , لم يتعارض هذا السيناريو مع ما تعلمته تلميذا في المدارس عما جرى عام 1948 وحسب بل ومع ما سمعته من محاضرات وأنا طالب جامعي في الجامعة العبرية بالرغم من العديد من الدورات والحلقات التي تلقيتها وقد خصصت لدراسة التاريخ الفلسطيني , ودون جدل هو يخالف ما اكتشفت من مستندات وشهادات وحتى مع الأقوال التي كانت تروى من قبل مواطنين إسرائيليين عند احتفالات الالتحاق في الجيش والمناسبات العامة كعيد الاستقلال ومن خلال النقاشات اليومية في وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تتناول تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .
عندما عدت إلى إسرائيل عام 1984 لإكمال مسيرتي الأكاديمية قوبلت بإنكار أي حديث يتعلق بظاهرة النكبة , وقد كان هذا جزء من ظاهرة شاملة وموجهة لعزل وحصار الفلسطينيين وكل ما يتعلق بهم من ساحة النقاش الأكاديمي في إسرائيل وبشكل خاص في حقل الدراسات الشرق أوسطية حيث كان تخصصي . وفي أواخر الثمانينات من القرن العشرين تحسن الوضع قليلا كنتيجة للانتفاضة الأولى(1987-1993) من خلال إدخال التاريخ الفلسطيني كمادة معترف بها في حقل دراسات الشرق الأوسط , وحتى ذلك كان يجري بصورة رئيسية من زاوية ما يرى المحاضرون الجامعيون الذين كانوا في الماضي خبراء في أجهزة المخابرات ومازالوا يحتفظون إلى الآن بعلاقات حميمية مع أجهزة الأمن السرية واتصالات مع الجيش .
محت الرؤية الأكاديمية الإسرائيلية النكبة كحدث تاريخي ووضعت العراقيل في وجه البحاثة والأكاديميين الإسرائيليين الذين حاولوا إثارة التساؤلات ومقاومة المحاولات لإنكار الكارثة واستبعادها من البرج العاجي الجامعي . وكما هو معروف كانت موضوعة "إعادة كتابة التاريخ" من قبلي ومن قبل بيني موريس في النقاش الأكاديمي هي جزء من مشروع شرعنا في تنفيذه وحرصنا على نشره للفت النظر إليه بالتعارض مع الرواية الصهيونية حول ما جرى في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 .
التحرر من التعصب
لقد مضى ما يقارب العام قبل أن تباشر صحيفة هآرتس بالاهتمام بهذا الموضوع إلى جانب أغلب وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة في إسرائيل , ولكن امتلأت هذه المنتديات العامة فترة بالمناقشات الحيوية عما جرى في عام 1948 , ولكنها لم تستمر سوى لفترة قصيرة من 1990 ولغاية 2000 ليعود مذهب الأكثرية يسيطر على الذهنية الإسرائيلية كما هو غالبا في دولة متحركة كإسرائيل . فقد أقصيت لصالح مشاكل أخرى أكثر إلحاحا . ومع ذلك بقيت معانيه تثير الاهتمام في ظل القضايا المطروحة من خلال مفاوضات التصالح والعيش المشترك التي دارت بين الأكثرية اليهودية والأقلية الفلسطينية حول قضايا الشرعية والمشروعية العليا وهوية الدولة اليهودية ليثار من حين لآخر النقاش من جديد في القاعات العامة .
إن إلقاء المحاضرات العامة أمام جمهور تعتبر من وجهة نظري مهنة ثانية تماما كما كان يروق لي ممارسة رياضة ألركبي أثناء دراستي الأكاديمية , ولكن نادرا ما استهواني مشهد ممارسة العنف ولا أرغب أن تحصل لي أشياء مفاجئة لا أتوقع حصولها بل أفضل أن تكون معروفة بالنسبة لي , فعلى سبيل المثال حضرت مرة مؤتمرا قد أعلن عنه مسبقا في منشأتي الخاصة في جامعة حيفا في عام 1994 تضايقت أن تحول إلى حفلة سباب وشتائم , وكرد على مساهمتي علق البروفسور ياؤوف جلبر المؤرخ المعروف في الجامعة أن قبول الرواية الفلسطينية هي بمثابة خيانة في ميدان المعركة .
زيارة عرفات
عوضتني مواقفي حول قضية الصراع العربي الإسرائيلي باكتساب ثقة الدوائر الثقافية والسياسية الفلسطينية , وبناءا عليه دعيت في سبتمبر من عام 1993 إلى مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس . في 28 سبتمبر من عام 1993 , بعد أسبوعين من توقيع اتفاق أوسلو زرت تونس والتقيت بياسر عرفات في بيته الواقع في منطقة حمامات التونسية , وأنتقدت ما تمخضت عنه عملية أوسلو من نتائج بشكل لاذع وشعرت بخيبة أمل متنامية مما آلت إليه سلطة الحكم الذاتي , ومازلت أشعر حتى اليوم بالغيظ الشديد لزيارتي لمقر المنظمة وللقائي مع ياسر عرفات .
إن الدولة العربية الوحيدة التي زرتها سابقا هي مصر , وفي الحقيقة , أن أزور بلدا عربيا مرة أخرى يجلب لي معه نشوة عارمة . إن الطيران إلى القاهرة وفيما بعد إلى تونس قد شكل بالنسبة لي أكثر من انتقال فيزيائي لجسدي خارج الغيتو الإسرائيلي , لقد مثل لي تحررا نفسيا من مشروع ماضوي تلقيني .
نشأت صداقة مازلت أعتز بها إلى اليوم بيني وبين المفكر الأمريكي ذو الجذور الفلسطينية إدوار سعيد الذي ساعدني كثيرا في الحقيقة كي أجد نفسي للخلاص من مستنقع الأكاديمية الإسرائيلية , برؤيته الإنسية العالمية للمناطق التي ترزح تحت نير الاستعمار وقد تحرر من أي رغبة للثأر أو الانتقام يرافقه إدراك جلي وبناء لمشكلة دور الضحية , مذاك ألهمني بالكتابة عن فلسطين . انتقاده اللاذع لاتفاق أوسلو , فيما كان يرى فيه عملية رشوة وإفساد لمنظمة التحرير لتحويلها إلى حارس على معسكر اعتقال في الضفة الغربية وقطاع غزة في خدمة إسرائيل أقر عرفات نفسه فيما بعد بذلك وامتنع عن لعب هذا الدور الذي عبرت عنه الحوارات الفلسطينية الإسرائيلية بشكل صريح مما انتهى به الأمر أن يمتنع عن توقيع الوثيقة الختامية في كامب ديفيد عام 2000 .
وجه إدوارد سعيد انتقاداته إلى عرفات بسبب الفساد المستشري في السلطة الفلسطينية وغضه الطرف عن خرقها الفاضح لحقوق الإنسان في مناطق تواجدها لأن ذلك لا يستقيم من قيادة في حركة تكافح من أجل التحرر . بعد لقائي الشخصي مع عرفات لم أكن مقتنعا بشرعية هذه الانتقادات إلا قليلا , صحيح أنه لا يعير انتباها لا لحقوق الإنسان ولا لحقوق المواطنية ولكني لم أره , من وجهة نظري , فاسدا .
إن المعنى الحقيقي والهدف الجوهري لانتقاد سعيد , والذي أشاركه فيه سابقا ولاحقا , لاتفاق أوسلو ولكل المبادرات الأمريكية وخططها التي تبنتها واتبعتها من أجل حل النزاع كوثيقة جنيف وورقة أنابولي وغيرها ...إلخ , أنها لم تأت على ذكر قضية اللاجئين وتتجاهل مصيرهم ومستقبلهم , وأرى كما رأى إدوارد سعيد أن لا حظوظ تذكر لسلام وصلح في فلسطين دون اعتراف إسرائيل وأمريكا بحق العودة, ومع ذلك قد وجدت أن ما جرى من اعتراف متبادل بحق الوجود لكلا الشعبين بين كل من منظمة التحرير وإسرائيل هو الإيجابية الوحيدة التي اقتصر عليها اتفاق أوسلو حتى لو لم يضع حدا للاحتلال الإسرائيلي ولم يتوصل إلى وضع حد لشقاء وبؤس اللاجئين الفلسطينيين ولقضية القدس .
أما بالنسبة لي فإن ما قدمه اتفاق أوسلو لي هو دعوة منظمة التحرير لي إلى تونس , شعرت حينها أنني أطير على أجنحة التاريخ في طريقي إليها علني ألعب دورا يكون حاسما في إطار عملية السلام أدركت متأخرا أنه كان دورا صغيرا جدا من أجل اتفاق أوسلو الهزيل والغير مقنع.
التقيت في تونس كما ذكرت سابقا عرفات لأول مرة . لقد بدا لي شخصا استثنائيا كواحد من مجموعة متعارضة المصالح والاتجاهات ولكنه كان ساحرا , حاد الذكاء ضمن محيطه الشخصي . التقيت في زيارتي بأناس كل ما عرفت عنهم أيام الشباب أنهم مدرجون على " قائمة التصفية" الخاصة بالأمن الإسرائيلي كونهم" رجال مطلوبون" وفي فترة قصيرة من تشاركنا في رحلة الصلح ربطتنا صداقة حميمة .
وقع لي في هذه الرحلة حدثان مؤثران جدا : الأول حفلة تأبين لذكرى استشهاد شباب فلسطينيين بقصف إسرائيلي , والثاني لقائي مع الرجل الذي قاد العملية الفدائية على قارب لارنكا الذي صدف وأن كان على متنه أثناءها ابنة خالتي شقيقة أمي الوحيدة وزوجها وقد كانت وجهتهم قبرص وهناك عثروا على جثتيهما وقد أثارت في حينه قوات 17 فتح عرفات شكوكا أن يكون الفاعل هو الموساد الإسرائيلي . لقد عقدت بيننا نقاشات صريحة مليئة بالتفاؤل بالرغم من التضحيات من أجل مستقبل أفضل .
قمت خلال رحلتي أيضا بزيارة خاصة مؤثرة لمنزل الأسير والأسيرة المحررين فوزي نمر والأسيرة فاطمة برناوي , وجدير بالذكر أنني كنت أشغر المنزل المقابل للمكان الذي فجره فوزي في عمليته عام 1969 . وقد حظي نمر على هالة من التقديس من خلال تمثيل شخصيته في فلم سينمائي إسرائيلي مشهور كونه زعيما ومعتقلا سياسيا عرض عام 1986 بعنوان Behind Bars (خلف البار) .
أيضا زوجته فاطمة لا تقل عنه شهرة فقد كانت أيضا أسيرة بسبب زرعها عبوة ناسفة في صالة سينما صهيون في القدس عام 1967 اعتقلت على إثرها وقد أفرج عنها بعد عشر سنوات بعدها هربت إلى لبنان حيث تدربت على العمل الفدائي , أوكل إليها كونها ممرضة بالرعاية الصحية لأحد الجنود الإسرائيليين الذين وقعوا في الأسر خلال غزو إسرائيل للبنان عام 1982 , تم تبادل هذا الجندي الإسرائيلي مع مجموعة من الأسرى الفلسطينيين كان من ضمنهم فوزي النمر الذي شاءت الأقدار أن يلتقي بها ويتعارفا ثم يقررا الزواج مثل أعلى درجات الرومانطقية-السياسية . وفي ذاك المساء أيضا التقيت بالمؤلف الذي حوّل سيرة حياة النمر إلى عمل روائي . تحولقنا إلى وجبة العشاء على شرفة شقتهما الواقعة في إحدى ضواحي تونس واستمرينا في تناول أطراف الحديث حتى ساعات الصباح , أحاديث مليئة بالمشاعر والتطلعات لا يمكن وصف روعتها التي وجدنا أنفسنا عن عمد أو غير عمد منخرطين فيها .
ولحسن حظي أن المناقشات دارت حول تاريخ إسرائيل بشكل عام وعن حرب 1948 بشكل خاص يتجلى أهمية ذلك أنها حصلت بعد إنهائي لدراسة الدكتوراه . والحصول على درجة الدكتوراه بالنسبة لمعظم الأكاديميين الشباب في إسرائيل هي عملية مؤلمة أما بالنسبة لي فكانت مضاعفة الألم بسبب وجهة نظري المعروفة مسبقا عن الصراع , إلى جانب أن أوضاعي لم تتبلور للدرجة التي تتجاوز النظام القائم وخطوطه الحمر بنجاح . وأتصور أنهم اعتبروني من خلال دراستي الجامعية , واعتقدوا أن "راديكاليتي" هي مجرد شيء أتباهى به أمام العالم بشكل علني لإبراز حقي في الدراسة الجامعية .
قال لي Arnon Sofer يوما أحد المختصين الديموغرافيين الإسرائيليين الكبار ومصممي فكرة جدار عزل الضفة الغربية عن إسرائيل : "إن من خلفنا وتحتنا أربعة جدران مغلقة , وأنت إحداها , ولكن من حسن الحظ أنك تقوم بتجميل صورة إسرائيل أمام الرأي العالمي " . أدت هذه المحادثة الخاصة إلى جانب مثيلاتها من زملاء آخرين إلى الالتحاق بحزب حداش الاشتراكي الشيوعي , الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة . وكما تصورت تماما فإن ما ترتب على هذه المحادثة الثقيلة قد أدى بي لكي أصبح رسميا من المعسكر الصهيوني في بدايتي .
في أواسط التسعينات اشتدت المناقشات التي تناولت الماضي وبشكل خاص عام 1998 في احتفال الذكرى السنوية لولادة دولة إسرائيل . المثير في هذه المناقشات أنها تناولت قصة الحدث الكبير 1948 كما ورد في كتب "المؤرخين الجدد" وبسرعة خرج النقاش عن مساربه الأكاديمية . وتحكمت به ثلاث نقاط أساسية قد وردت في كتابي بالإضافة إلى كتب كل من Benny Morris و Avi Shlaim تتعلق بتأثير المتخصصين بعلم التربية وتناولت بشكل خاص مخرجي الأفلام الوثائقية في التلفيزيون الإسرائيلي الرسمي على المواطنين الإسرائيليين . تركزت النقطة الأولى على معنى التفاهم الأردني اليهودي للجبهة الأمامية لحرب 1948 والذي أخل بالتوازن في ميدان المعركة لصالح إسرائيل . النقطة الثانية فيما يتعلق بقضية اللاجئين وأن معظمهم قد طرد من دياره ولم يهاجروا بمحض إرادتهم , وثالث النقاط هي رغبة قادة إسرائيل المتعاقبين الحقيقية بعد حرب 1948 في عدم عقد سلام مع خصومهم العرب ( اكتفت فقط بالإعلان عن استعدادها) .
إن أثر هذه الأفكار امتد ليطال الصيغة الرسمية حول حرب 1948 . الدراسة النقدية للصهيونية , الموقف من المحرقة والمسائل المتعلقة بالمشاكل الوطنية والإثنية وجد الإسرائيليون طريقا إليها من خلال وسائل الإعلام الثقافية......
كتابة التاريخ المشترك
في الوقت الحاضر وبعد التأمل الملي وجدت أنه من الأجدى إعادة سرد القصة بشكل مشترك , كثيرا من الآراء المتداولة لدى أصدقائي في الضفة الغربية الذين يشاطروني رأيي وفهمي للقضية شبيهة بأفكاري ومتفائلة مثلها , وأن الماضي يعني الكثير بالنسبة للتجربة الراهنة لجسر الهوة بينهما وبناء التفاهم المشترك والصلح بين الطرفين .
وعليه فقد اجتمعنا في رام الله عام 1997 مجموعة من المؤرخين الفلسطينيين والإسرائيليين مناصفة لنقاش الفكرة المتعلقة والتقدم بها . عملنا تقريبا بشكل ميئوس منه , يحفزنا شعور الحذر الملح من عواقب انتشار مشاعر التذمر والغضب بين صفوف الشعب الفلسطيني بعد دخول عملية سلام أوسلو في طريق مسدود .
كانت ملاحظاتنا المشتركة حول اتفاق أوسلو أن ما جرى في بيان اتفاق المبادئ الموقع في 1993 ما هو إلا اتفاق عسكري لاستخدامه سياسيا وليس صلحا ثقافيا وطنيا حقيقيا .
درست المجموعة التاريخ الفلسطيني والإسرائيلي بطريقة ديالكتيكية بحيث أخذ بعين الاعتبار في سرد التاريخ الوطني وطبيعة السلطة إلى جانب المواضيع المختلفة كالذاكرة الجماعية والشهادات الشفوية . وقد طالت الانتقادات كل من الرواية التاريخية الصهيونية والفلسطينية على حد سواء . المواضيع الحساسة مثل التوجهات والنزوع الفلسطينية في إنكار الهولوكست أو التهوين بها , والتنكر الإسرائيلي لمسؤولية النكبة . لقد فتح النقاش تطوير عملية إعادة السرد التاريخي المعني كوسيلة لحل وضع التعنت الأيديولوجي السابق وحرر الوصف التاريخي المتداول من النخبة السياسية .
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟