|
أندى العالمين كفوف راح ( اقتصاد التسول )
محمد حسين يونس
الحوار المتمدن-العدد: 3391 - 2011 / 6 / 9 - 18:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بتأمل سلوك سكان المنطقة العربية ( عدا لبنان وتونس ) نجد أن نسبة كبيرة منهم لا تعرف القيمة الحقيقية للعمل ، على الرغم من أن استخدام الآلة وعمل الانسان هو الذى خرج به من الطور الحيوانى الى القدرة على الادراك والفهم والارادة . العربى الذى اعتمد ـ منذ إمبراطورية ابن الخطاب ـ على الاقتصاد الريعى الناتج من الغزوات والحروب والفئ والجزية والاستيلاء على ثروات الأقطار المجاورة ، استمر سلوكه هذا حتى بعد أن منحه إعصار البترول ما يكفى من الأموال فاستلقى بكسل بين الجوارى والقيان ينتظرما يقدمه له العالم من غلة السماح بالبحث والتنقيب والاستخراج والمعالجة والنقل والتسويق والبيع للمخزون الراقد فى أعماق الصحراء. العالم يعمل وينتج ويبتكر ويطور والعربي البترولي يستهلك بسفه. الوجه الآخر للاقتصاد الريعى هو ما عبر عنه " جرير " فى قصيدة تسول من أحد خلفاء بنى أمية : أغثنى يا فداك أبى وأمى ... بسيب منك إنك ذو ارتياح ....... ثم استرسل حتى وصل الى : ألستم خير من ركب المطايا.. وأندى العالمين بطون راح . أى أن بنى أمية كانوا فرسان كر وفر وحرب وفى نفس الوقت كرماء شديدى الكرم ، لدرجة أن باطن كف الممدوح مستمر الندى من الاحسان . اقتصاد التسول ومنح العطايا والهبات والصدقات لغير القادرين على اختراق دائرة اتخاذ القرار لطبقة عريضة من المعدمين المنتظرين لفتة من " أندى العالمين بطون راح " أصبح سائدا ليس بين الأفراد والفنانين والمطبلين فقط ، ولكن بين الدول والشعوب التى لا تملك وتنتظر عطايا من يملك ( جزر القمر ، الصومال ، اليمن ، الأردن ، مصر ، موريتانيا ) كلها دول توقفت عن طرق دروب التنمية والعمل وتفرغت للشحاتة . في مصر لم نكن فى يوم ما " شحاتين " لقد كنا المصدر الرئيسى لغذاء أوروبا بكاملها من انتاج قمح وزيتون حقولنا وحدائقنا ، تنقل بأساطيل دائمة الابحار من الاسكندرية حتى روما وكنا فئ المحصورين بالجزيرة العربية يصلهم خيرنا عبر قوافل أولها فى الفسطاط وآخرها فى المدينة ، وكنا دعامة بيت مال الأمويين والعباسيين يمنحوا خراجنا لملتزم يملأ خزائن الخلفاء والسلاطين بالأموال وقصورهم بالمنتجات المصرية.. لقد كان عسل بنها مضرب الأمثال وقماش أخميم وخيول الشرقية والأثاث الأرابيسك والنعال والسيوف والنبال كلها مصرية .. مصر حتى نهاية القرن الثامن عشر كانت تنتج كل شئ ، كما سجل علماء الحملة الفرنسية بالكتابة والرسومات. مصر التى كانت سلة خبز المنطقة كان شعبها فى سالف العصر والأوان يعمل بشكل دائم ومستمر دون كلل ، يحفر الترع ويقيم القصور وينقل المياه للمناطق المرتفع ويبنى المعابد والقصور ويصنع الحلى والملابس والأثاث ، ويبحر فى النيل ذهابا وإيابا حاملا المحاصيل والماشية والطيور ، وكانت جامعاته ومكتباته تحتوى على أصول العلم والفن والحضارة يهديها بكرم لكل من أراد حتى الأعداء . المصرى رغم أنه تعرض للنهب لألف سنة من حكم الرومان والعرب والمماليك ، كان مع افتتاح القرن التاسع عشر لازال لديه ما يعطيه لمحمد على عندما خطا به خارج أطر القرون الوسطى لرحابة المعاصرة مصر لم تتوقف عن الانتاج .. حتى فى زمن الاحتلال الانجليزى كانت تزود جيوشهم بالملابس والأقطان والطعام والجلود وكل ما عجز الحلفاء عن استيراده عبر القارة الأوروبية ، وكانت مشاريع طلعت حرب وعبود وأبورجيلة جنبا الى جنب مع المستثمرين اليهود والأوروبيين تجعل من مصر خلية إنتاج لا تتوقف . المصريون كانوا النواة التى تجمع حولها كل مبدعى المنطقة وفنانيها فتقدمت الأغنية والسينما والمجلة والجريدة والكتاب لتصبح القاهرة عاصمة التنوير فى العالم العربى بفضل عمل وجهد أبناءها فى الحقل والمصنع والمدرسة والجامعة والمسرح والحزب وكل مجالات الثقافة . ثم جاء الطوفان ، فى ليلة من ليالى يوليو 52 تخيل مجموعة من العسكر أنهم الوحيدون العارفون بالحقيقة المطلقة ، وأن من عداهم أعداء للوطن وبقايا عهد فاسد من الخونة .. تخيلوا ان تحويل مصر الزراعية الى صناعية سيجعلها تنتج من الابرة للصاروخ ، فعوقوا الزراعة دون قيام وانكمشت ولم تعد حتى تطعم أبناءها وتوقف أغلب الألف مصنع التى أنشأها الثوار لعدم توفر قطع الغيار او المواد الخام ، وأنتج المصريون البضاعة الأسوأ بأغلى الأسعار . أحلام الناصرية بأن تكون مصر مركزا صناعيا وتجاريا للمنطقة وافريقيا ، انهارت مع قوانين رأسمالية الدولة واحتكارها للسوق .. ثم توالت المصائب تمسك كل منها بتلابيب سابقتها ، حرب اليمن واستنزاف الاقتصاد القومى ، والانفتاح الجزئى على منتجات الغرب لتزيد من آلام هجر المنتجات المحلية .. حرب 67 وهزيمة الجيوش العربية المحاربة وتوجيه كل المتيسر من الدخل الى المجهود الحربى ( فى صوت لا يعلو على صوت المعركة ) ، ثم انهيار المرافق والصناعة وتجنيد شباب القوى العاملة بعيدا عن مكانهم الطبيعى فى السوق .. وزيادة طبع أوراق النقد وانخفاض قيمة الجنيه المصرى أمام العملات الحرة وظهور القطط السمان الذين استغلوا الأزمة فى الثراء الذى مصادره فى الأغلب غير قانونية ، ويتصل بالرشوة واستغلال النفوذ والتكسب من الوظيفة العمومية. عندما توفى عبد الناصر ، أزيلت آخر الحواجز التى تمنع نهب فقراء المصريين ، وتولى الرئيس المؤمن تقديمهم على طبق من فضة لأمريكا واسرائيل والسعودية ورجال أعمال فاسدين فى تحالف غير مقدس ، وبدأ دولاب العمل يغير من اتجاهاته لتنخفض قيمة العمل الانتاجى ويرتفع شأن السمسرة والوكالات المحلية للشركات الأجنبية والمضاربة التى كانت كلها تدر اموالا طائلة .. وبدأ القطاع العام ينهار مخليا مكانه للشركات القادمة من الخارج ولمستثمرين مغامرين من أقارب مسئولي القطاع الحكومى، وبدأت أنشطة مصرية تقليدية مثل زراعة القطن والقمح تترك مكانها للمستورد ( فى اجتماع لغرفة التجارة الأمريكية مع وزير الزراعة المصرى قال أحد المستثمرين بفخر أنه زرع فى الساحل الشمالى خمسة آلاف فدان قمح ، فما كان من وزير الزراعة إلا أن صاح بالعربى ـ يادى المصيبة ـ ثم استدرك نحن نحصل على القمح بقروض طويلة المدى ولكن من أين أدبر لك ثمن قمح ناتج من خمسة آلاف فدان.) عندما اغتيل المؤمن وحل محله المبارك انتهى عهد المصرى بالعمل الايجابى النتائج فالدولة البوليسية المسيطر عليها بواسطة أجهزة الأمن كانت دائما ما تختار الأكثر ولاءً حتى لو كان أقل كفاءة ، فترسب فى شرايين الجهاز البيروقراطى ، التعليمى ، الجامعى ، القضائى ، الأمنى ، الصناعى وباقى الأجهزة الأخرى فى السلطات الثلاث تشريعية وقضائية وتنفيذية ، رواسب عدم الكفاءة ( والفساد ) أدت الى ضيق فى الشرايين وسقوط أجهزة الدولة فى جمود بيروقراطى الذى اختارته لهم الرقابة الادارية وأمن الدولة والأجهزة الأمنية المتخصصة التي تديرها العلاقات العائلية و المالية .. بطئ جهاز الدولة ، تكدسه بمن لا يصلح ، تعطله عن التطور، أصبح عقبة بسبب ضيق أفق قياداته أمام أى إمكانية للحاق بالعصر ، وللأسف الأمر لم يتحسن بعد هوجة 25 يناير بل إزداد سوءً بعد أن امتلك الأقزام ( الامنين )الفرصة لتخويف وتعويق أى مبادرة لموظف حكومى كفء. تولي السماسرة لأمور الصناعة ثم الزراعة جعل المنافسة شرسة بينها وبين القطاع العام لدرجة توقف معظم منشآته عن الانتاج وبيعت كأراض أو معدات خردة لتسمح بفتح المجال للاستيراد بكل أنواعه ( الصابون ، الزيوت ، مستحضرات النظافة ، الملابس ، الأحذية ، وكل ما يتصل بحياة البشر اليومية بما فى ذلك الملح القادم من السباخات والطعام الزراعى المروي بالمجارى أو المسمد بحمأة غير معالجة ، المياه الملوثة ، حتى الهواء دمر حرق الفضلات ومنتجات المصانع نقاءه ) وضاقت الحياة بالمصريين على مختلف طوائفهم لينزحوا من المكان الغير مواتى (مصر العسكر ) للخليج والسعودية ليعودوا بقيم عمل سقيمة ، تضيع ساعتين من وقت العمل فى الصلاة والوضوء ودروس الدين وتتوقف تماما فى رمضان ، ومابقى من زمن يستغل للحصول على أعلى عائد بأقل مجهود . القيم المستجدة التى تستبعد المراة وتضطهد المخالفين دينيا وتحقر من شأن العمل المنتج ، وتعلى من شأن السمسرة والوكالة والاستيراد ، جعلت مزرعة العالم تستورد رغيفها وملابسها وسياراتها وتليفوناتها وأدوات المنزل والطعام والتقاليد والقيم ، وعندما يصل الناتج المحلى لأدنى معدلاته لا يصبح أمام الحكومة الا " التسول " من أمريكا ثم أوروبا ثم الخليج ثم السعودية منشدة : أغثنى يا فداك أبى وأمى ... بسيب منك إنك ذو ارتياح....... ثم تسترسل حتى تصل الى : ألستم خير من ركب المطايا.. وأندى العالمين بطون راح .
#محمد_حسين_يونس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طفولة البشرية ام شعوب أطفال
-
خير أجناد الأرض والخامس من يونيو
-
هل هو دجل.. ام جهل !!
-
حكمة امريكية .. دع جروحهم تتقيح
-
فلينظر الانسان كيف تطور
-
هل يقيم الفاشست ديموقراطية !!
-
(الخلافة) غضب الله في ارضه
-
الي الاجيال المقبلة
-
إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب
-
الفاشيستية الدينية أخطر من القومية والحرامية
-
ليس دفاعا.. عن المتهم محمد حسني مبارك (2 )
-
ليس دفاعا عن المتهم محمد حسنى مبارك
-
ثانيا ..مصر مستعمرة وهابية
-
هذا النظام غير قابل للاصلاح
-
نعيب بين اطلال نظام مبارك
-
- غزوة الصناديق - 19 مارس .2011
-
وطن بديل ..يا محسنين
-
هل يؤسس البشرى والجمل لخلافة اسلامية
-
سيدى الرئيس .. هل أدوات سلفك مناسبة لك ؟؟
-
لا أملك الا.. دموعي
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|