أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عصام الخفاجي - مأزق النظام السياسي العراقي: تأمّلات في خيارات الديمقراطيين















المزيد.....



مأزق النظام السياسي العراقي: تأمّلات في خيارات الديمقراطيين


عصام الخفاجي

الحوار المتمدن-العدد: 3390 - 2011 / 6 / 8 - 16:14
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    





في توصيف الوضع

نظريا، يتمتع العراق بأفضل نظام سياسي في المنطقة العربية والمجاورة بعد تركيا:
• انتخابات دورية
• تداول سلمي للسلطة
• فصل تام بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بما يمكّن تلك السلطات من مراقبة إحداها للأخرى وضمان التزامها بسلطة القانون
• نظام فيدرالي يؤمّن لكردستان والشعب الكردي استقلاليته في إدارة شؤونه الداخلية (مع بقاء مشكلة كركوك من دون حل حتى الآن)
• إخضاع المؤسسات المسلحة للسلطة المدنية
• مساواة للمواطنين (مع الإعتراف بالتناقض الكامن بين الإقرار بالمساواة التامة للمواطنين من جهة وبين الإصرار على الطابع العربي والإسلامي لعراق يضم نسبا غير قليلة من غيرهم من جهة أخرى)
• تحديد نسبة دنيا (قد لاترقي لتطلعات كثيرين) للمناصب التي تحتلها النساء في السلطتين التشريعية والتنفيذية
• حرية الإعلام وغياب وزارة رسمية له
• ضمان حرية التعبير والتظاهر والإعتصام
• مؤسسات كان يؤمل لها أن تكون مستقلة عن السلطات الثلاث مثل هيأة النزاهة وهيأة الإعلام وديوان المراقبة المالية.
بعد سبع سنوات من قيام هذا النظام السياسي :
• يعيش ما يقرب من ربع السكان (22.9 بالمئة) تحت خط الفقر (25 بالمئة حسب تقديرات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية)
• بلغ معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة 34 لكل ألف طفل مولود، وانخفض توقع العمر للعراقيين من 69 عاما عام 2005 إلى 68 عاما خلال الفترة 2006-2009
• يقع متوسط دخل الفرد العراقي في المركز 160 بين شعوب العالم برغم امتلاكه ثالث (وحسب بعض التقديرات، ثاني) أكبر احتياطي للنفط في العالم (3600 دولار سنويا وفقا لمقياس القدرة الشرائية)
• يحتل العراق الموقع الثالث بعد بورما والصومال كأكثر الدول فسادا في العالم، وفقا لمؤسسة الشفافية الدولية
• أشار أكثر من 44 بالمئة ممن تم استفتاؤهم إلى أنهم دفعوا رشوات خلال الأشهر الأثني عشر بين نهاية 2009 ونهاية 2010
• يقيم أكثر من ربع سكانه مجبرين (حوالى 28.5 بالمئة) خارجه
• يصنّف من قبل الأمم المتحدة كممر دولي رئيس لتهريب المخدرات
• ينتج حوالى ثلث إنتاج العربية السعودية وما يقارب إنتاج الكويت التي لايزيد سكانها عن 4 بالمئة من سكان العراق من الطاقة الكهربائية ولا يلبي إنتاجه (آذار 2011) إلا 58 بالمئة من حاجاته
• تبلغ نسبة الأمية بين العراقيين في سن العمل 26 بالمئة، فيما هي 19 بالمئة في سوريا و 9 بالمئة في الأردن
• يبلغ عدد مستخدمي الإنترنيت أقل من واحد (0.98) بالمئة من السكان (2008)
• لاتزال عائدات تصدير النفط الخام تمثل 90 بالمئة من دخل الحكومة و80 بالمئة من كمية العملة الصعبة المتوافرة للعراق.
باختصار، حقق العراق ماتسعى له الثورات المستعرة في المنطقة منذ بداية هذا العام من حيث إقامة نظام ديمقراطي تعددي برلماني إذ لم تسجل المنظمات الدولية والمحلية حالات تجاوز وتزوير واسعة النطاق، لكن هذا النظام أعاد إنتاج فساد النظم الدكتاتورية وانعدام شفافيتها وانتشار المحسوبية في داخلها.
واستباقا لأي تبرير غير موضوعي لهذه الحالة المزرية، لابد من التأكيد على أن هذه الورقة لاتغفل قطعا الدور الذي لعبته وتلعبه أعمال العنف المسلح من فلول النظام البائد وجماعات الإرهاب السلفي ومن مجموعات ارتأت إن النظام الذي قام بعد 2003 هو صنيعة أمريكية ولابد من محاربته في تدهور الوضع في العراق. لكن تفحصا متأنيا للوضع يكشف حقيقة لم يتم تسليط الضوء عليها بما يكفي، مفادها أن هذا التدهور شمل أنحاء البلاد في الوقت الذي كانت ثلث محافظاتها على الأقل (أربيل، السليمانية، دهوك، واسط، ذي قار والمثنى) تنعم بأمن نسبي طوال الفترة اللاحقة لسقوط نظام البعث.
يبدو الأمر الطبيعي، في ظل نظام ديمقراطي، أن يعبر الناخبون عن خيبة أملهم بأداء الحكام من خلال صناديق الإقتراع ليوصلوا إلى الحكم أطقما جديدة من السياسيين. لكن هذا لم يحدث في العراق إلا بشكل جزئي تمثل أولا في تراجع ملحوظ في نسبة المشاركة في الإنتخابات البرلمانية من 76.36 بالمئة عام 2005 إلى 62.4 عام 2010 وثانيا في تصاعد نسبي لشعبية القوائم التي تخلت، في شعاراتها على الأقل، عن البرامج القومية أو المذهبية الصرف (وهو ما سنتناوله فيما بعد).
فما الذي يفسر هذا الوضع المتناقض؟ وهل ثمة سبل لمعالجته؟

خلفيات اجتماعية- سياسية مشوهّة

ولدت "الديمقراطية" السياسية في العراق قبل أن تقوم المؤسسات الضرورية التي لايمكن للديمقراطية أن تنشأ من دونها. فأساس الديمقراطية هو أن تكون هناك مؤسسات غير مسيّسة تقف على مسافة متساوية من المتنافسين والمتصارعين في الحلبة الإنتخابية تمتلك التفويض القانوني والقدرة على إجبار كل الأطراف على التصرف وفقا للقانون وتمتلك القدرة على ردع من لايلتزم بالقواعد.
فهل كان هذا الأساس متوافرا في عراق 2003-2004؟
حين سقط نظام البعث كان المجتمع العراقي (ولايزال) يعاني من جملة من الإستقطابات لعب ذلك النظام الدور الأساس في تأجيجها وساهمت أطراف أخرى في استغلالها واللعب عليها. فالخطاب الرسمي لذلك النظام (والأنظمة التي حكمت العراق منذ عام 1963) جعلت العروبة في مركز الصدارة في نشاطات وتوجهات الدولة العراقية مما همّش كل القوميات غير العربية في العراق، لاسيما القومية الكردية. واتخذت الحملات الوحشية المتصاعدة ضد النضال الكردي من أجل تحقيق أماني هذا الشعب أبعادا عنصرية منذ ثمانينات القرن الماضي. ثم جاءت الطريقة الوحشية التي تم بها قمع الإنتفاضة الشعبية عام 1991 والشعارات والعبارات الرسمية الصريحة ضد المواطنين الشيعة على المدرعات المتوجهة لسحق الإنتفاضة وفي مقالات جريدتي الثورة وبابل لتوصل التميبيز ضد الشيعة إلى مستوى التقنين. وعوض أن تطرح بعض قوى الإنتفاضة برنامجا وطنيا بديلا لمجابهة محاولات تمزيق الشعب العراقي ودفعها إلى الإحتراب فيما بينها، رفعت هي الأخرى شعارات طائفية (ماكو ولي إلا علي/ نريد حاكم جعفري). أما الإدارات الأمريكية منذ زمن الرئيس كلنتون وحتى الرئيس جورج بوش الإبن فقد تبنت خطابا يكرّس هذه الإستقطابات عن "محنة الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال"" حتى حين كان نظام صدام حسين يقصف مدينة الرمادي بالمدفعية وينكل بأبناء تكريت المعارضين له في أواسط التسعينات.
باختصار، خلّف نظام البعث للشعب إرثا ثقيلا تمثل في إفقار ثقافته السياسية لاسيما إذا تذكرنا أن غالبية المواطنين لم يعرفوا نظاما غيره غداة سقوطه. وتلك حقيقة لاتزال الغالبية الساحقة من الديمقراطيين العراقيين تغمض أعينها عنها وتتظاهر بعدم وجودها لمجرد أنها ترفضها. لكن العمل على معالجة المرض يقتضي أولا الإعتراف بوجوده .
فالإنقسام الإجتماعي بين الطوائف والقوميات والأديان حقيقة واقعة، وهو أمر لابد من تمييزه بوضوح قاطع عن ظاهرة التنوع الإيجابي القائمة في كل دول العالم تقريبا، كما لابد من التمييز بين مظاهره التي تخفت أو تنعدم لدى قطاعات معينة (في المدن المختلطة على سبيل المثال) وتشتد حيثما كانت الجماعات تعيش في عزلة عن بعضها. ولأن الطغم التي حكمت العراق منذ عام 1963 انحدرت من تلك الجماعات الأخيرة، فقد مارست سياسات منهجية لقمع وتهميش كل من لم يشاركها أنماط عيشها وطرق تفكيرها وتقاليدها الإجتماعية.
حقا، أن سلطة البعث استطاعت كسب جمهرة من الشيعة وعشائر كردية إلى جانبها، لكن ما يمكن التثبّت منه وضعيا هو أن المراكز الحساسة في أجهزة الدولة والجيش والمخابرات كانت محصورة بمناطق معينة، لا بالسنة، وهذه نقطة يجب إبرازها في هذا السياق. فقد تم تهميش سنة المدن من أبناء بغداد والبصرة والموصل بالدرجة نفسها التي تعرض فيها شيعة ومسيحيي وأكراد تلك المدن إلى التهميش.
سقط النظام والشعب العراقي يئن من أمراض واختلالات لاتخطؤها العين:
- ثلاث عشرة سنة من الخضوع لأقسى حصار تم فرضه على أي دولة في العالم في العصر الحديث.
- أخذت قبضة السلطة المركزية بالتراخي بفعل هذا الحصار، مما دفع صدام حسين إلى السعي لإحياء المؤسسة العشائرية، التي فقدت فاعليتها ودورها في أنحاء واسعة من العراق، بهدف لعب دور الوسيط العازل بين النظام والشعب.
- ارتداد كثير من العراقيين إلى الطائفة والعشيرة بحثا عن العون بعد أن انهارت خدمات الدولة.
- انتشار الفساد في كل مفاصل الدولة والمجتمع بعد أن كانت سلطة الدكتاتور تمركزه عبر نهب موارد الدولة وتوزيع الفتات على أنصارها وأتباعها.
- تصاعد نزعة شوفينية عالية بين العراقيين ترتاب بكل ماهو أجنبي بعد أن تم تصوير الحصار كمؤامرة عالمية لتجويع الشعب العراقي وإذلاله.
- اعتياد العراقيين على ثقافة تتفنّن في القسوة وإظهارها علنا على الرأي العام
- حققت كردستان تحررها الواقعي من سلطة بغداد منذ عام 1991، لكنها كانت تعيش انقساما وآثار حرب أهلية دامية بين الحزبين الرئيسين

ليس هنا المجال المناسب للدخول في التفاصيل التاريخية التي تم اقتراحها لماهية الطريق الأنسب لإطلاق عملية سياسية تقود إلى بناء نظام ديمقراطي تعددي في ظل الوضع الموصوف أعلاه. لكن الأمر المنطقي، والذي اقترحه عدد من النشطاء والخبراء العراقيون قبل سقوط نظام صدام حسين هو أن تكون هناك فترة انتقالية مر بها كثير من البلدان يتم خلالها تأمين الحد الأدنى من الشروط الضرورية لوقوف المتنافسين على أرضية متكافئة، وبناء أجهزة الدولة أو ترميمها على اقل تقدير بما يمكّنها من رعاية العملية السياسية المبتدئة للتو، وأهم من ذلك كله أن تكون تلك الفترة الإنتقالية وسيلة للتخفيف من حدة الإستقطاب الإجتماعي الذي فتت المجتمع المدني إلى حد كبير ودفع الأفراد إلى أن يلوذوا بانتماءات تحددها لهم واقعة ولادتهم لا اختياراتهم الطوعية.
فما الذي حدث؟

تشوّهات الولادة

طرح الحاكم المدني الأمريكي للعراق، السفير جوزيف بريمر، فكرة إنشاء مجّمع إنتخابي على الطريقة الأمريكية يقوم بانتخاب الهيئات التأسيسية العراقية الجديدة التي ستنبثق عنها السلطة التشريعية الدائمة للعراق. ولقد قيل الكثير (وبعض، بل ربما كان معظم ما قيل محقا) عن الدور الذي لعبته أخطاء وخطايا الولايات المتحدة والغرب والمحيط الإقليمي والعربي في توليد النظام السياسي العراقي الراهن: إدارة أمريكية يرى البعض أنها كانت جاهلة بأوضاع العراق ويرى آخرون أنها كانت تتعمد تقسيمه قوميا وطائفيا، ودور إيراني يريد لاسحق الوجود السني سياسيا فحسب، بل إيصال من تريد من حلفائها (إن لم نقل أتباعها) إلى سدة الحكم تحت غطاء حكم الأغلبية، ودور إقليمي عربي أراد لأنصار النظام المباد إن يحتلوا مواقع يتسللون من خلالها إلى لعب دور مؤثر في مسار الأحداث، ودور تركي سعى إلى لجم المطالب الكردية في العراق الجديد.
ولكن، بعد ثمانية سنين من انهيار نظام الإرهاب وبعد انحسار الدور الأمريكي لاعسكريا فحسب، بل سياسيا أيضا لم يجر العراقيون مراجعة حقيقية للنفس ولدورهم في إيصال الأمور إلى ما آلت إليه.
كان خروج التظاهرات الحاشدة المطالبة بالإنتخابات الفورية نذيرا لا بانزلاق العراق إلى شكل مبطّن من أشكال ولاية الفقيه وتخندق الزعامات المذهبية، بل بأن الطبقة السياسية الآخذة بالتكون إثر سقوط نظام صدام حسين تستفيد من تأجيج الإستقطاب الإجتماعي لكي تطرح نفسها ممثلا لمذاهب أو قوميات معينة صارفة بذلك أنظار الجمهور عن القضية الأساس المتمثلة في بناء عراق مدمّر انحطّت فيه كرامة المواطن ومستوى معيشته إلى الحضيض.
فمن المثير للريبة أن تندفع هيئات معينة للدعوة إلى الديمقراطية بهذا الحماس وهي تفتقد في ممارساتها وتركيبتها إلى أبسط أسس الديمقراطية كالمرجعية الشيعية وهيأة علماء المسلمين المحاطتين بالتعتيم والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية (وكذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني) القائمين على توارث الزعامة.
دعي الناس إلى الذهاب إلى صناديق الإقتراع لإنتخاب الجمعية التأسيسية والإستفتاء على الدستور الدائم عام 2004 ومن ثم لإنتخاب البرلمان الأول عام 2005 في وقت:
- كانت البلاد تعج، كما هو معروف، بكل أشكال الميليشيات والعصابات المسلحة
- وصلت فيه مستويات معيشة المواطن العراقي إلى الحضيض وانهارت فيه البنى التحتية للدولة
- أجهزت عمليات النهب والتدمير المنظمة التي حدثت فور سقوط النظام على ماتبقى من ركائز لتقديم الحد الأدنى من الخدمات للمواطنين، ناهيكم عن ضمان أمنهم
- لم يكن هناك جيش وطني قادر على التدخل للجم أو منع الميليشيات والعصابات من العبث بمصائر الأفراد وبما تبقى من مؤسسات يمكن التعويل على دور يمكن أن تلعبه في مراقبة أداء الأطراف المتنافسة في الإنتخابات
- لم يكن العراق يمتلك جهاز شرطة قادر على فض النزاعات بين الأفراد ناهيك عن الجماعات
- كان القضاء العراقي يستعيد موقعه بشكل بطئ بعد أن احتكرت المحاكم الإستثنائية مثل محاكم الثورة والأجهزة القمعية النظر في كل القضايا المهمة على امتداد حكم البعث ولم تترك للقضاء المدني (الذي لم يسلم هو أيضا من التدخل بشؤونه) دورا يذكر.
لم تكن هناك (وليست هناك حتى اليوم) مؤسسات قادرة على مراقبة تدفق الأموال إلى المنظمات السياسية من حيث مصادرها أو طرق إنفاقها ومشروعية كليهما
وفي مثل تلك الظروف لم يكن ثمة موجب للتزوير للوصول إلى النتائج التي حققتها القوى القائمة على الحكم منذ 2003، فالترهيب الجسدي وشراء الذمم والوعود بالوظائف والإمتيازات كانت كافية لكي يحقق من امتلك القوة العسكرية والأموال الطائلة والنفوذ في أجهزة الدولة نجاحات كاسحة .
ولكن، هل كان المواطن العراقي يصوّت حقا لحركات وأحزاب سياسية يؤمن بها؟
يكفي في هذا السياق الإشارة إلى استفتاء أجري في أواسط عام 2005. فبرغم الإندفاع الحماسي للمشاركة في الإنتخابات، أشار 49.84، أي نصف من تم استفتاؤهم إلى أنهم لايثقون بالأحزاب السياسية إطلاقا (11.77 بالمئة لايثقون كثيرا بها، 16.93 بالمئة يثقون إلى حد ما بالإحزاب. ولم يبد إلا 6.3 بالمئة ثقة كاملة بالأحزاب). يضاف إلى هذا إن 78 بالمئة ممن تم استفتاؤهم قالوا أنهم لايدعمون أي حزب أو حركة سياسية.
لكن الثمن الذي دفعه ويدفعه العراقيون لتلك النجاحات هو ولادة عراق ذي نظام سياسي أعرج يتّكئ على أرجل اصطناعية ما إن تتخلخل إحداها حتى يتهاوى الجسم، كما بينت تجربة انتخابات 2010 وما تمخّض عنها من صراعات لاتزال مستمرة لتشكيل حكومة توافق عليها كافة الأطراف.
وبرغم شكله الديمقراطي، فنظامنا أقرب في محتواه إلى نظم أمراء الحرب الإقطاعية حيث يكون كل قيادي في جهاز الدولة مسؤولا أمام زعيمه الحزبي أكثر من مسؤوليته العامة، وتكون كل وزارة مغنما للحزب الذي فاز بها يستخدمها لتقوية نفوذه وهو ما سيعيق قيام حكومة قوية ومتماسكة في العراق طوال المدى القصير على الأقل .
لكن مايجب إبرازه هنا هو إن النظام السياسي العراقي الراهن ليس في أزمة بالمعنى الدقيق للكلمة، أي بمعنى عدم قدرته على الإستمرار، فالإنتخابات الدورية للبرلمان لن تتوقف، والطبقة السياسية قد تتطعم بوجوه جديدة لكنها ستظل على حالها في المدى القصير على الأقل، والعراق ليس على أبواب ثورة مهما كانت رغباتنا، وسنبين اسباب ذلك فيما بعد.

آفاق الأمد القصير: قيام مجلس الإتحاد

فهل يعني ماسبق انسداد آفاق العمل من أجل إحداث تغييرات عميقة في النظام السياسي القائم؟
إن كان التحليل العلمي يستند إلى الممكنات التي يتيحها الواقع القائم، فإن النشاط اليومي للقوى الديمقراطية يسعى، وينجح إن لم يغمض العين عن الوقائع، إلى مراكمة تدريجية لوقائع جديدة يتعذّر معها على الطبقة الحاكمة الإستمرار في ممارساتها من دون أخذ تلك الوقائع بعين الإعتبار. وهنا لابد من أن يتم الجمع بين ما أسماه المفكر الإيطالي غرامشي "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة".
ثمة عدد لاحصر له من التشريعات والهيئات التي يمكن اقتراحها على أمل إصلاح نظامنا السياسي، لكن تجربة السنوات الثماني الماضية تبين بأن خيرة القوانين والهيئات يمكن أن تفرّغ من مضمونها إن لم تكن هناك ضوابط جدية تكبح تعسّف السلطة.
من هنا، فإن المقترح الأساس الوارد أدناه لايزعم تقديم حل سحري لمشاكل النظام السياسي في العراق، لكن العمل من أجل تشريع قانون لمجلس الإتحاد الوارد في الدستور يستند في تكوينه إلى أرضية تأخذ الوقائع بعين الإعتبار لكنها تفسح المجال أمام مستقبل تصنعه أجيال شابة. والدعوة لإنتخاب أعضاء هذا المجلس بأسرع وقت ممكن يمكن أن يسهم، في رأيي، في إحداث تغيير نوعي يضفي على هذا النظام صفة ديمقراطية. وككل منجز من هذا النوع، فمن البدهي أنه سيصطدم بمصالح راسخة تحاول عرقلته بشتى السبل لكن كاتب هذه الورقة يرى أنه يصب في مصلحة الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا.
أثبتت التجربة القاسية التي تلت الإنتخابات التشريعية لعام 2010 إن النظام السياسي الديمقراطي يتطلّب أعمدة عدة يرتكز عليها لتؤمن استقراره. فإذا كان مجلس النواب يحقق الشرط الأول للديمقراطية، وهو حكم الأغلبية عبر ممثليهم المنتخبين بحرية، فإن الشرط الثاني الذي لايقل أهمية هو وجود مؤسسة وآليات تمنع استبداد الأغلبية وتضمن لكافة مكونات الأمة حقها في التشريع والحكم وإدارة شؤون الدولة بحيث لاتعود تلك الحقوق منّة من حاكم، بل واجبا على اي حاكم التقيد به.
ومنعا لأي التباس، لابد من التذكير بأن مفهومي الأغلبية والأقلية ليسا مرتبطين بالضرورة بهوية الناخب المذهبية أو القومية. فالسنوات الماضية كانت فرصة لإنطلاق هويات ظلت مقهورة طوال عقود، وربما قرون، للتعبير عن نفسها بحرية للمرة الأولى. لكن تجارب الشعوب عبر التاريخ تبين:
1. إن هوية أي إنسان لايمكن اختزالها إلى صفة واحدة، فالمرء قد يشعر في وقت واحد بانتمائه إلى جنس وقومية ومذهب ومنطقة وعشيرة ومدينة ومهنة وعقيدة فكرية.
2. إن إحساسا بانتماء ما قد يطغى على ما عداه في ظرف تاريخي معين حين تتعرض تلك الهوية للتهديد. وقد يظل هذا الإحساس قائما لكن الناخب سينزع إلى التصويت لمرشحين يركزون على قضايا أخرى تتصدر اهتماماتهم حين يشعر إن تلك الهوية قد تكرّست قانونيا وفي الممارسة.
وعلى هذا فبرغم أن فكرة الأقلية والأغلبية تظل ركنا من أركان الديمقراطية، إلا أن على الأقلية أن تشعر بأن من حقها أن تحصل على الأغلبية في دورة انتخابية قادمة وإلا كان النظام السياسي مصمما لإبقاء كتلة من السكان فوق أخرى، أي دكتاتوريا.
وقد تنبّه مشرعو الدستور العراقي إلى هذا الواقع حين كرسوا مبدأ المجلسين كأساس للنظام البرلماني العراقي:
"يتم انشاء مجلسٍ تشريعي يُدعى بـ (مجلس الاتحاد) يضم ممثلين عن الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في أقليم، وينظم تكوينه، وشروط العضوية فيه، واختصاصاته، وكل ما يتعلق به، بقانونٍ يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب"
(الباب الثالث، الفرع الثاني، المادة 65)

ذلك أن تصميم مجلس الإتحاد يمكن أن يضمن استقرار النظام السياسي العراقي على أسس راسخة بأن يوازن مبدأ الأغلبية الذي يقوم عليه مجلس النواب بمبدأ تساوي عدد أعضاء ممثلي كل محافظة، بحيث ينتخب سكان كل محافظة خمسة أعضاء يمثلونهم في مجلس الإتحاد.
[ وعلى هذا الأساس يلعب مجلس الشيوخ الأمريكي دوره. ففي حين تضم الولايات العشر الأكثر سكانا 54 بالمئة من سكان الولايات المتحدة، وتضم الولايات العشر الأقل سكانا مجتمعة أقل من 3 بالمئة من السكان، تتمثل كل ولاية بمقعدين في المجلس ].
إن إعطاء أولوية لإقرار قانون لمجلس إتحاد يتم انتخابه بطريقة لاتجعله نسخة مكررة من مجلس النواب يمكن أن يضفي حيوية وقوة على الإنتخابات القادمة ويجنّب الشعب العراقي أزمات لم يعد قادرا على تحملها.

صلاحيات مجلس الإتحاد ووظائفه

1. التصويت، في جلسة مشتركة مع مجلس النواب على منح الثقة للحكومة ورئيسها
2. إقرار القوانين المصادق عليها من قبل مجلس النواب. وفي حالة اعتراضه، تعاد القوانين إلى الأخير لتعديلها. وفي حال بقاء الإختلاف، يتم التصويت النهائي في جلسة مشتركة بين المجلسين.
[ وفقا لهذه الصيغة يكون للمناطق المختلفة قولها في القوانين، لكن التصويت في اجتماع مشترك يضمن تأثير الأغلبية السكانية إذ أن عدد أعضاء مجلس النواب أكثر من أعضاء مجلس الإتحاد].
3. انتخاب رئيس الجمهورية (أو هيأة الرئاسة في حال بقاء هذا التشكيل) ورئيس الوزراء في جلسة مشتركة مع مجلس النواب. أما رئاستا المجلسين فيتم انتخابهما من كل مجلس على حدة.
4. إقرار تعيين كل موظف غير منتخب بدرجة وزير (أعضاء المحكمة الإتحادية، السفراء، المستشارين، إلخ) عدا أعضاء الحكومة.
5. التصويت على رفع الحصانة القانونية عن رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء في حال ارتكاب اي منهما مخالفة قانونية تستوجب ذلك بعد رفع توصية بذلك من مجلس النواب.

تكييف الوضع الإداري للمحافظات
(التفاصيل المعروضة أدناه هي أفكار أولية)
والمقترح الذي أتقدم به يتطلب أولا إعادة رسم وضع المحافظات بما يتناسب والتغيرات التي طرأت على وضع البلاد وواقعها السكاني على الشكل التالي:
1. إنشاء محافظة تنفصل عن محافظة بغداد وتضم منطقة مدينة الصدر الحالية التي بات عدد سكانها يقارب (وقد يتجاوز) نصف سكان بغداد نفسها (وهذه ليست حالة فريدة من نوعها، فما نتعارف عليه باسم القاهرة في مصر تنقسم إلى ثلاث محافظات هي القاهرة والجيزة وحلوان، كما أن دمشق تضم محافظتين هما دمشق وريف دمشق)
2. فصل محافظة الأنبار ذات المساحة الشاسعة إلى محافظتين تتكون الأولى من منطقة أعالي الفرات (عنه، راوة، هيت وحديثة) المتميزة سكانيا وتاريخيا عن محافظة الرمادي ومحيطها.
هذان التغييران، وربما كان العراق بحاجة إلى غيرها تقرب الوحدات الإدارية من الواقع السكاني وتساعد على تأمين تمثيل أكثر عدالة للمقاعد المئة بين المحافظات العشرين الناتجة عن تلك التعديلات.

الدوائر الإنتخابية
بدهي أن يجري تقسيم المحافظات إلى دوائر تراعي التنوع السكاني داخل لكل محافظة. وفي هذا السياق، نشير إلى الحالات البارزة التالية:
1. أهم الحالات هي محافظة كركوك. وربما كان المقترح الذي أطرح يساعد على السير خطوة في اتجاه الوصول إلى اتفاق شامل حول وضع المحافظة يرضي معظم، إن لم يكن كل، الأطراف.
أ‌. عضو عن دائرة قضاء الحويجة (عربي)
ب‌. عضو عن الأقضية خارج قضاء المركز (كردي)
ت‌. ثلاثة أعضاء عن مركز القضاء (كردي وتركماني ومسيحي)
(ربما يكون هذا اساسا لتقسيم المحافظة في مرحلة لاحقة على هذا الأساس )
2. دائرة الزبير وأبو الخصيب في محافظة البصرة، فضلا عن دائرة مسيحية
3. دوائر تركمانية في طوزخرماتو وقضاء دبس (دوبز) وكفري ومقعد عربي ومسيحي في قضاء كركوك المركز، فضلا عن دائرة تلّعفر للتركمان الشيعة
4. دوائر مسيحية وكردية في محافظة نينوى
5. دائرة مسيحية في محافظة دهوك
6. دائرة انتخابية كردية تشمل خانقين في محافظة ديالى
7. دوائر في الشيخان وسنجار للأيزيديين

قد يبدو أن ثمة تناقضا بين العمل لقيام مجلس اتحاد بالمواصفات المعروضة أعلاه وبين دعوة ديمقراطية تتجاوز نظم المحاصصة الإقطاعية التي يسير عليها النظام السياسي العراقي القائم. لكن نظرة متأنية إلى الأمر لابد أن تأخذ بنظر الإعتبار أن الإستقطاب الإجتماعي قائم وله جذوره التي لايمكن إغفالها. وعليه فلابد من سبل تساعد على تطمين كل أبناء العراق بأن هوياتهم التي تعرضّت للتهديد، بل وللسحق، في الفترة البائدة محفوظة ولكن في ظل نظام يضمن العدالة لجميع المواطنين.
إن نجح العمل الجماهيري في إقامة مجلس اتحادي بالوصف المشار إليه وليس بصيغة مكررة لمجلس النواب، فمن الممكن بعد ذاك العمل على إصدار قوانين تمنع تشكيل حكومة من كل القوى الموجودة في البرلمان، بل من القوة الفائزة فضلا عما تحتاجه لتأمين الأغلبية. ذلك أن مجلسا كهذا، إلى جانب مجلس النواب الأكثر قوة، لن يتيح لقوة أو جهة مذهبية أو قومية منفردة من أن تحصل على ثقة المجلسين وسيجبر تلك القوى على تشكيل تحالفات ترضي غالبية المصوتين في الإنتخابات.

مجاهل المدى الأبعد

لابد وأن لاحظ قارئ هذه الورقة كثرة الإشارات إلى أن الحلول والتوصيفات المطروحة حتى الآن تتعلق بالمدى القريب فحسب، وبأن تلك المقترحات، حتى لو تم تنفيذها بدقة وأمانة، ستعجز عن إرساء أسس نظام ديمقراطي شفّاف وعادل في العراق. ذلك أن ثمة اختلالات بنيوية عميقة في تركيب الدولة لابد لكل مسعى للتحويل الديمقراطي الجذري من التفكير بها بجدية وإطلاق نقاش واسع حول سبل حلها.
لقد تحول العراق إلى دولة ريعية منذ توقيعه على اتفاقيات مناصفة عوائد النفط عام 1952 مع شركات النفط التي كانت تعمل فيه والقفزات الهائلة في الموارد التي باتت متاحة بيد الدولة منذ ذلك الحين. وهنا لابد من توضيح مختصر للمقصود بالدولة الريعية بقدر تعلق الأمر بالديمقراطية والنظام السياسي.
فعوائد النفط (ومثلها المساعدات الأجنبية للدول) تذهب مباشرة لخزينة الدولة وهي ليست ناتجة عن النشاط المباشر للمنتجين سواء كانوا مالكين أو مشتغلين يدفعون الضرائب للدولة ويطالبون بثمن مقابل تلك الضرائب يتمثل بأن تكون الدولة، جهازا وقادة وموظفين، مسؤولين أمام دافع الضرائب. بهذا المعنى، يشوّه الريع العلاقة بين الدولة والشعب فيوحي للأخير إنه مدين للأولى، ويوحي للدولة أنها متكرمة على الشعب. فليس مصادفة أن الإنقلابات العسكرية بدأت بالتواتر منذ ذلك الحين إذ تحررت الدولة من حساباتها لردود أفعال القوى المتحكمة في المجتمع .
حتى عام 1990، حين تم فرض الحصار الإقتصادي على العراق، لعب الريع دورا حاسما في إدامة دكتاتورية البعث. فكيف يفعل الريع فعله منذ 2003؟
برغم الإعلان الرسمي والتوجه الفعلي إلى تبني اقتصاد السوق، فإن الدولة العراقية، وبفضل توافر موارد الريع، هي أكبر رب عمل في البلاد، إذ تشير أرقام أوائل 2010 إلى أن القوات الأمنية والمسلحة فقط تضم 640.000 عنصر، فضلا عن 127.200 عنصر من البيشمركة (90.000 منهم لم يتم الإتفاق بعد على كيفية إدماجهم في النظام العسكري أو الأمني للعراق). ولنضف إلى كل ذلك 70.000 من أبناء الصحوات. وهذا يعني إن 12 بالمئة من قوة العمل من الذكور في العراق تنتمي إلى أجهزة غير منتجة، وكل هذا في بلد لاتتجاوز فيه نسبة السكان النشطين اقتصاديا، اي السكان في سن العمل 26 بالمئة بالمقارنة مع نسبة 38 بالمئة في الدول المتقدمة. باختصار، ماكان للتوظيف غير المنتج أن يتوسع بهذه الدرجة لولا أن الدولة تتوافر على إمكانات لا تحسب فيها حسابا لعواقبه الوخيمة على تطور البلد واستغلال كفاءاته.
لكن الأهم من ذلك كله أن الدولة الريعية في العراق لاتؤمّن الإذعان لها والسكوت على تجاوزاتها لمجرد أنها تشغّل أكبر عدد من العاملين في العراق فحسب، بل في أنها تخرّب كل مفهوم اقتصاد السوق وتحيله إلى نظام مافيا مقنن لإنها هي من يمنح معظم العقود والمقاولات. من هنا فإن فكرة الإرتباط التلقائي بين السوق الحر والديمقراطية التي تبناها الأمريكان في العراق ساذجة في أحسن الأحوال، لإن غالبية رجال الأعمال في ظل نظام كهذا لامصلحة لهم في نظام شفاف يتم فيه منح العقود والمقاولات في جو تنافسي متكافئ.
إلى جانب هذا المصدر للريع، لابد للقوى الديمقراطية من العمل بكل جدية لإخضاع مصادر ريعية أخرى، من المفروض لأي دولة مدنية التعامل معها مثلما تتعامل مع أي مشروع خاص، مخضعة إياها إلى قواعد محاسبية حديثة، بما في ذلك فرض ضرائب الدخل عليها، وأقصد هنا بالضبط موارد المرجعيات الدينية، سنية كانت أن شيعية، مسلمة كانت أم مسيحية. ذلك أن هذه المؤسسات تدير امبراطوريات مالية ضخمة بوسعها تجييش الأفراد والجماعات وشراء ولاءاتهم وإبعادهم عن العمل المنتج وبوسعها، في الوقت نفسه، أن توظف تلك الموارد للأغراض الخيرية التي تبرر وجودها. ومن المهم ان نوضّح هنا أن المقصود بهذا المطلب ليس تقييد تلك المؤسسات بأي حال من الأحوال، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر البلدان اتّباعا لنهج الحرية الإقتصادية، تخضع مؤسسات النفع العام إلى المساءلة والمحاسبة فتعاقب إذا شذّت عن أهدافها المعلنة وتعفى من الضرائب، وقد تمنح إعانات، إذا برهنت على حسن أدائها لوظائفها.
ولعل عناصر الريع الهائلة هذه: موارد النفط للحكومة الإتحادية، ولحكومة الإقليم، وتدفقات الأموال للمراجع الدينية، و للحركات السياسية المختلفة من دون رقيب تفسر جزئيا أسباب التشرذم الإجتماعي المستمر في العراق والقول في مبتدأ هذه الورقة بأن مساعي التغيير الديمقراطي عبر الحركات الإحتجاجية لازالت سابقة لأوانها.
هل نحن بلد استثنائي في تكوينه، إذن؟
أبدا!!!
ثمة دول تمتلك إمكانات ريعية هائلة (لأن الريع في نهاية المطاف يجب أن يقاس بحجم السكان اولا، وبنسبته إلى النشاطات المنتجة الأخرى في البلد ثانيا)، لكن تزايد السكان في العراق وانعدام إمكانية قيام عقد اجتماعي يقوم على بيع السكان حقوقهم السياسية والإجتماعية في مقابل حقوق اقتصادية كما هو الحال في دول مجلس التعاون الخليجي، يتيح للقوى الديمقراطية العراقية أن تنتزع حقوقا لايمكن لشعوب مشرقية أخرى انتزاعها.
ولكن ليس مؤملا أن يشهد العراق قيام نظام ديمقراطي شفاف يتمتع فيه المواطنون بحقوقهم تجاه الدولة ومؤسساتها السياسية إلا في إحدى حالتين:
الأولى تتطلب انتظار عقود طويلة حتى تنهض نشاطات أخرى تشكّل نسبة مقاربة لما يشغله النفط في الإقتصاد الوطني فتشغّل العراقيين وتؤمّن لهم مصادر دخل مستقل بعيدا عن نفوذ الدولة. وهذه حالة تحيط بها مخاطر عدة، ليس أقلها أن الدولة ورجال الأعمال المرتبطين بها لن تكون لهم مصلحة أصلا في قيامها، فضلا عن أن بنية الإقتصاد الريعي تضع عقبات جدية أمامها. وهكذا تكون نتيجة التطور المشوّه المرتبط باستمرار البطالة والفقر إلى جانب الثراء الفاحش لقلة من المتنفذين نشوء نوع من الحنين إلى أوهام العودة إلى سلطة المستبد العادل، كما حدث في روسيا في ظل الرئيس يلتسين.
إن النزوع العام الراهن إلى الديمقراطية بين الشباب في المنطقة والعراق يجب ألا يؤخذ كمعطى ثابت ودائم، فالتاريخ يعجّ بأمثلة يتحوّل فيها اليأس في صفوف الناس والشبيبة بالتحديد من تحقيق حلول ملموسة في ظل نظام ديمقراطي إلى اندفاع وراء حركات فاشية أو انقلابية توهمهم بحلول سريعة "بعيدا عن المناكفات بين الحزبيين والسياسيين".
أما الحالة الثانية التي يجب على القوى الديمقراطية التركيز عليها وإيلائها أقصى درجات الإهتمام فتتمثّل في وضع قيود على كيفية تخصيص السلطة التشريعية لموارد النفط وفك العلاقة بين السلطة التنفيذية والتصرف بتلك الموارد.
لقد ثبّت الدستور العراقي صراحة مبدأ ملكية الشعب لموارد النفط.
ولكن لكي لايتحول هذا المبدأ الجوهري إلى شعار غوغائي مثل شعار "نفط العرب للعرب" البعثي، لابد من إيجاد آليات ملموسة تكسبه طابعا قانونيا إلزاميا وتلك مهمة تتطلب حشد جهود إختصاصيين وناشطين وسياسيين ومثقفين ورجال قانون، فضلا عن كل الفاعلين والقوى الحية في بلادنا، وحول هذه المهمة بالضبط، يجب أن تتمحور نشاطات القوى الديمقراطية وتحركاتها الإحتجاجية بالعمل على تقييد حرية السياسيين في التصرّف بموارد الشعب.
من البدهي أن نزع العلاقة بين السياسيين وموارد الدولة لايقل عن أي عمل ثوري لتغيير اسس النظام القائم. ومن المستبعد، والحالة هذه، أن تسلّم القوى المتنفّذة في السياسة والمجتمع والإقتصاد بأن موارد العراق ليست ملكا لها من دون ضغط شعبي ذي مهمة محددة بالضبط، لا تجمعات متناثرة يدور كل منها حول مهمة جزئية كما هو الحال الآن.
ولكن كيف تتم هذه العملية بالضبط؟
جرّبت دول أخرى أساليب عدّة ليس هنا المجال المناسب لعرضها وكان حظها من النجاح متفاوتا.
وقد عرف العراق تجربة مبكّرة مهمة عام 1952 حين ازدادت عوائده النفطية فاتّخذت الدولة قرارا بتخصيص 30 بالمئة فقط من تلك الموارد لتمويل نفقات الميزانية الإعتيادية وتم تأسيس مجلس الإعمار لكي يوجّه ال 70 بالمئة المتبقية لبرامج استثمارية تطوّر البلد. وبفضل هذا البرنامج تم تأسيس مشاريع ضخمة ومهمة مثل سدّي دوكان ودربندي خان ومعامل سمنت سرجنار وسكّر الموصل. ولكن لأن قرارات مثل هذه ظلت بيد السياسيين، فقد كان ممكنا الإنقلاب عليها، وهو ما حصل حين تم تغيير نسبة توزيع العوائد بين الميزانيتين الإستثمارية والجارية إلى 50 بالمئة لكل منهما، وانتهى أخيرا إلى إلغاء مجلس الإعمار ووضع البرامج الإستثمارية بيد السلطة التنفيذية.
والعبرة من التذكير بتلك التجربة هي أن ترك تقرير مصائر موارد النفط لسلطة الدولة يقود إلى نتائج سلبية حتى وإن كانت البدايات سليمة. لذا فإننا بحاجة إلى الوصول إلى حد أدنى من الإجماع الوطني عبر النقاشات الموسعة التي اشرت إليها يعيد الدولة إلى مكانها الطبيعي كجان للضرائب مقابل تقديمها الخدمات، وبالتالي كساعية لتطوير البلد وتشغيل أكبر عدد ممكن من السكان لأن هذه هي وسيلتها لتوسيع القاعدة التي تجني منها الضرائب.
وليس من الحلم اقتراح توزيع موارد النفط على كل الأفراد البالغين في البلاد وإيداع جزء من تلك الموارد في صناديق استثمارية باسمهم، مقابل اقتطاع ضريبة دخل منهم تموّل ميزانية الدولة. لقد حول الريع مجتمعات عدة في الماضي والحاضر إلى تجمعات طفيلية ترتضي بالتنازل عن حقوقها السياسية مقابل العيش المرفّه.
وبوسعنا، نحن العراقيين، أن نغيّر تلك المعادلة فننتج مجتمعا منتجا، ونظاما ديمقراطي شفافا
ومتى ما تم الوصول إلى إجماع كهذا، لعل الوسيلة التي تقيّد إمكانات التلاعب به تكمن في التصويت عليه عبر استفتاء عام غير قابل للنقض إلا باستفتاء آخر.



#عصام_الخفاجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ((حزب الله)) وسياق المنطقة: هل يتحرر لبنان من محرريه؟
- رسالة قصيرة من عراقي مفجوع: إصح يا أبا إسراء
- عاش التحالف الطائفي! يسقط العراق!
- في وهم وصف المستقبل كامتداد لماض متخيل
- في معنى الإنهيار المجتمعي: أن تقاتل الطغيان متبنّيا قيمه
- أبعد مما قال البابا: صراع الدين والعلم/ العقل والستراتيجيات
- تأملات في جاذبية الموت للمهزومين
- مصالحة، مصارحة وبعض من النفاق
- رؤيتان متناقضتان لما بعد صدام


المزيد.....




- أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن ...
- -سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا ...
- -الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل ...
- صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
- هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ ...
- بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
- مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ ...
- الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم ...
- البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
- قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عصام الخفاجي - مأزق النظام السياسي العراقي: تأمّلات في خيارات الديمقراطيين