|
الحليب الأسود
مرح البقاعي
الحوار المتمدن-العدد: 1009 - 2004 / 11 / 6 - 09:36
المحور:
الادب والفن
ما الذي تكشف عنه تقلّصات الجسد العارمة وارتجافاته المدروسة، ومقارعته لوهم طواحين الفراغ؟ وكيف تتشكّل كتلته الراقصة ضرباتٍ من نور تناور فضاء خشبة المسرح لتحتل الهوى والشهقات؟
يقول عمدة مدينة نيويورك مايكل بلومبرغ في إعلان صادر عن مكتبه في الذكرى الـ 45 لتأسيس فريق ألفين أيلي للرقص المسرحي موثِّقا لتاريخ 23 كانون الأول/ ديسمبر من العام 2003 عيدا رسميا في المدينة ويحمل اسم الفريقAlvin Ailey American Dance Theatre Day:" إن هذه الكوكبة من الراقصين التي اختارت من مدينة نيويورك مقرا لها، وقدّمت على خشبة مسارحها بكر عروضها الراقصة عام 1959، إنما وحَّدت العالم بسلطة الرقص".
في جغرافيا قارات ست، وعلى مسارح 48 ولاية أميركية، و في رحاب 68 دولة ما وراء البحار وعلى مشهد من 19 مليون مشاهد كما أفادت شارن لاكمَن المديرة التنفيذية لمؤسسة ألفين أيلي، ارتفعت أجساد 30 راقصا من أفراد هذا الفريق الأسطوري، معاندة الجاذبية، لتقارب بقاماتها المديدة مرابض العالي الجميل.. وتستلب الأنفاس. ففي أي عمق تَجُول حركة بهلوان الوقت – "الراقص" لتُصِّعد المنطوق وتَصير رديفا للاّمباح من الكلام؟ وكم من الكوريغرافيا يحمِّلها، ذاك الحالم، لسكون المشهد الكوني في ارتعاشٍ ودهشة؟
سفارة الثقافة
في العام 1958 أسس ألفين أيلي، الشاب المفتول الجسد القادم من تكساس، فرقته الراقصة في توجّه لتأصيل فرادة التجربة الثقافية للأفارقة الأميركيين وإثراء حركة الرقص المعاصر بنبض التراثيّ منه. وقد صرّح في حينها قائلا:" أعتقد إن الرقص ينبع من خلجات النفس الإنسانية، وعليه أن ينتهي إلى مصبّها أيضا". استقطبت الفرقة منذ عرضها المسرحي الأول الالتفات والطلب في آن، وأخذت عروضها تنتشر في المدينة بسرعة النار في الهشيم. وقد اعتمد مجموعة أيلي منذ تأسيسها استراتيجية تقوم على التعددية العرقية في تجميع كوكبة راقصيها وفنيّيها، فبدت عروضها باقة من زنابق نافرة تنتفض جمالا وشعرا، مجسِّدة ما يتلقّفه القلب والبصر أولا، قبل أن يَغنمه السمع. فابتداء من راقص البالية ماسازومي شايا الذي تدرّب على الرقص الكلاسيكي في مدينته فوكووكا في اليابان، وانضم إلى الفريق عام 1972 ورقص مع راقصيه لمدة 15عاما، ثم درّب الرقص في معهده، ويشغل اليوم منصب مساعد المدير الفني للفريق؛ إلى الراقص بونوا بوفية الذي جاءها من المعهد العالي للرقص في باريس في العام 1997؛ إلى الراقصة بهية سيّد غينس من بروكلين في نيو يورك، قادمة من فريق بالية فراكفورت، وقد انضمت إلى الفريق نهائيا عام 1998.. هكذا إلى أن يصل العدد إلى الـ 30 راقص وراقصة بقيادة المدير الفني للفرقة جوديث جيميسُن، والتي أسند إليها قيادة الفريق بتوصية من معلمها الروحي أيلي قبل وفاته في عام 1989، ثلاثون ما فتئوا يهزّون خشبة المسرح بأقدامهم، والقلوب بقاماتهم الضامرة، الطيّارة، كسرب من أحصنة برية جانحة. فمن المسرحية الراقصة" قوس قزح حول كتفي" عام 1959، مرورا بـ "الصرخة" عام 1971، وصولا إلى"الحليب الأسود" و"صلوات من الحافة" عام 2002، استطاع فريق ألفين أيلي أن يأخذ المشاهد في سيالة تقوسات الجسد، وضربات الأقدام، وشهقات السواعد، من خلال تصعيد مكثّف للأداء الجسماني العضلي تتحول بوساطته الحركة إلى قراءة ضمنية لنص غير معلن في سلوك درامي يحيل الجسد إلى لغة شعرية تتراصّ فيها المعاني وتندفع الانفعالات في حمى مشهدية بازخة لها لسعة التحدّي - النشوة. فالراقصون والراقصات على المسرح إنما يكشفون عن لغة العالم الواحدة التي تتشكل في إسقاطات العاطفة - الجسد وتنتشر بإيحاء من العلاقات الإنسانية المعقّدة بجلّ التباساتها و نتوءاتها وانجرافاتها الصاخبة. هكذا يصير للجسد سلطة الشعر واكتماله في كوكبة المرئي. هكذا ينتصب الكلام في أبهته البصرية سيدا للخشبة و يجاوز حدود القول باتجاه حافات الصرخة. هكذا نطقت أجساد ألفين أيلي بصوت العالم واستحق أصحابها لقب" سفراء أميركا الثقافية" الذي أطلقه عليهم عمدة مدينة نيويورك بلومبرغ.
الجسد المتوسطي
تكاد جنى الحسن، الأستاذة والباحثة في أنتولوجيا الحركة الإنسانية ولغة الجسد في الجامعة اللبنانية، أن تكون واحدة من أنضج الأجساد العربية - إن لم أقل الأصوات - الداعية إلى التوكيد على أهمية النص الراقص ودور القراءة البصرية في التعريف بثقافة مجتمع ما وترجمة تجلّياته. تعتقد الحسن بفلسفة خاصة لجسد المرأة المتوسطية وتقول في هذا الشأن:" أصبح من الضروري، لتفهّم موقع المرأة وحيثياتها، أن نحللها في ذاتها أي من خلال أدواتها: المرأة تتحرك، ترقص، تغزو القلوب بصورها الإيقاعية. هي أيضاً آلة جسدية استمرت مع العصور كشهرزاد اللوحة الواحدة". وتردف الحسن قائلة:" المطلوب من المرأة في الشرق الحالم إما الصمت، أوالأداء ضمن مساحة صغيرة ذات قوالب جامدة، ونظم قمعية، وثقافة تستخدمها وتتبادلها في نفس الزي والكوريغرافيا. وأنا لا أستثني الرجل من هذه اللعبة إلا لكونها قد مورست عليه في مستويات أقل قهرا". فالرقص الشرقي ابتداء بالدراويش، مرورا برقص السماح الأندلسي، والفولكور الشعبي وفنون الدبكة والسيف والترس، وصولا إلى المسرح الراقص المعاصر في العالم العربي إنما يسجّل لتاريخ من التلوين على الإيقاع المياّس للجسد بغية التأسيس لحوار جمالي معرفي بين المتلقّي على الأرض، والراقص على الخشبة، في ظل غياب تقاليد منظومة ثقافة مسرحية. فالمسرح فن وافد على العالم العربي وليس متأصلا كما حاله لدى الغرب الوارث لتاريخ المسرح الأغريقي المديد، ناهيك عن "تابو" المتعلقات بالجسد وتبعاته هناك. تقول الحسن:" في عرضي المسرحي الراقص "برمة الحوض" كان عليَّ الإمساك بزمام الصور التي تكشف عن المساحة المغلقة في حياة المرأة العربية من خلال إبراز عناصر العلاقة الغرامية بين حبيبين. فجاء هو ولهان وهي متيقّظة، هو متقلّب وهي ساجدة، هو يخطو وهي تترقّب هي ليلى وهو مجنون ليلى. من المستحيل تغيير نظرة الآخر لواقع المرأة وجسدها إلاَّ من خلال تفهّم واستيعاب علاقتها التاريخية بالرجل ".
هكذا يعرّي الجسد فكرته ليستعيدها إيقاع حركة، مستحضِرا خيوط المبهم الباطن في شطحات صاخبة وصادمة للناظر، حيث الراقص يجاهر بحكمة بهلوان الوقت في موالفة الأضداد، في احتجاز الضوء، و اجتراح القصيدة بطعنة من جسده في فراغ.
#مرح_البقاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقامات التنوير في موسيقى الغرب
-
شعر: نحن الذين لا ينتظرنا أحد
-
كونشرتو الكلمات
-
بيان الثقافة
-
شعر: أنثــى الســــؤال
-
هاجس البيئة في سلطة الإبداع
-
الهنود الحمر بين وهم الأسطورة و فعل المعاصرة
-
تهجين الثقافات
-
شعر قصيدة كواليس
-
التعددية الثقافية
-
المرأة.. ومحظور الفن
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|