عماد عبد اللطيف سالم
كاتب وباحث
(Imad A.salim)
الحوار المتمدن-العدد: 3381 - 2011 / 5 / 30 - 11:31
المحور:
الادارة و الاقتصاد
ا الأداء الاقتصادي للقطاع الخاص في العراق
( الخصائص والمحددات والمعطيات الرئيسية )
أولا : المحددات التاريخية والسياسية – الأيديولوجية - للدور والوظيفة .
رغم أن هناك أسباب عديدة لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي في البلدان النامية , فأن معظم أدبيات التنمية تركز بالذات على خصوصية المرحلة التاريخية التي تجد الدول النامية نفسها في خضمها والتي تدفع بها الى الهيمنة على الاقتصاد .
ومن هنا بدء اختلال العلاقة بين القطاع الخاص والدولة في البلدان النامية حيث لم تنجح اغلب الدول النامية في أدراك حقيقة مفادها أن هوية القطاع الخاص وانتماءه أنما تتحدد وتتكرس من خلال آلية الربح . وبالتالي فأن على الدولة التي تريد تحقيق عملية تفعيل دور هذا القطاع في الاقتصاد والمجتمع أن تجيد أدارة هذه الآلية من خلال عمليتين مترابطتين : الأولى هي حسن أدارة عملية الانتقال ألى اقتصاد السوق , والثانية هي حسن أدارة عملية الإصلاح الاقتصادي وخاصة في البلدان التي تطول فيها عملية الانتقال أكثر مما يجب لأسباب تتصل بتكريس نظرة المجتمع للدولة , كراعية وأبوية , وضامنة لاستدامة الرفاه والتشغيل والدخل , ولا تهدف الى الربح . وأثبتت معطيات التاريخ الاقتصادي للكثير من البلدان النامية (ومنها العراق) أنه ليس بالإمكان بناء , أو إعادة بناء , أو تفعيل دور القطاع الخاص , من خلال المنطق الخاص للأداء السياسي وحده , بل من خلال منطق الربح ذاته , ورفع الدولة لشأن هذا المنطق , لأنه لا يمكن تصور وجود القطاع الخاص بدونه .
وفي العراق بالذات فأن ما أعاق تلقائية الأنشطة الخاصة وشوّه نمط التراكم الخاص بها وعمل على تحجيم عملية تكوينها وأنضاجها كطبقة فاعلة مجتمعياً , لم يكن سوى تدخلات السياسة الاقتصادية . وحين أرتبطت هذه التدخلية لاحقاَ بسعي الدولة ألى إعادة تشكيل النظام الاقتصادي وفقاً لمقتضيات النظام السياسي وتوجهاته الأيديولوجية , تم تحجيم دور النشاط الخاص على نحو ملحوظ .
لقد وفرّت مشاريع " مجلس الأعمار" منذ أوائل الخمسينات من القرن الماضي , آليات داعمة للقطاع الخاص كان من أهمها زيادة معدلات الإنفاق الحكومي وما يترتب على ذلك من توفير لرأس المال الاجتماعي وتخفيض لكلفة الاستثمار الخاص . وخلال المدة 1958 – 1973 أدى التحول في بنية الدولة , بالارتباط مع التأثيرات الناجمة عن مد حركات التحرر الوطني , وأشتداد حدة الحرب الباردة (على الصعيد الدولي) وتأثير التجربة الناصرية (على الصعيد الإقليمي ) الى التحول باتجاه زيادة درجه تدخلية الدولة في النشاط الاقتصادي .
وفي هذه المدة حاولت الدولة السيطرة على تراكمها المحلي باستخدام آليات معينة . فقامت بتكييف قوة العمل عن طريق الإصلاح الزراعي (غير أنها لم تنجح في تحقيق تنمية زراعية قادرة على تجهيز السوق بفائض كاف من حيث الكم وبأسعار تتوافق مع مقتضيات ضمان ربحية رأس المال ),وحاولت الهيمنة على تمركز الفائض المالي عن طريق بناء مؤسسات وطنية في الميادين المالية (غير أنها لم تنجح في توجيه الموارد المالية المتوفرة لتحقيق تنمية سريعة لقوى الإنتاج المحلية ), وحاولت السيطرة على السوق الوطنية وتكريسها للإنتاج الوطني , واستخدمت التخطيط و التخصيصات القطاعية المنحازة للصناعة لهذا الغرض ( غير أنها أخفقت في تحقيق إنتاج أوسع للسلع الاستهلاكية كي تواجه الزيادة في مجموع الأجور, وقامت بتضييق مصادر تدفق هذه السلع بتأميمها للصناعات الخاصة الكبيرة ).
ويرتبط بهذه المحاولات و بالأخفاق في تحقيق الأهداف المرجوة منها , ذلك السعي السريع إلى بناء قطاع عام صناعي كبير (نسبياً) , مما جعل الدولة تفقد تدريجياً سطوتها على التكنولوجيا المستوردة , بإضعافها لقدرة القوة الاقتصادية المحلية على إعادة تكوينها دون الحاجة إلى استيراد جميع عواملها .
وخلال المدة 1974- 1980 تغير نمط الدولة بالكامل, وأتخذ القطاع العام من خلاله شكلاً تؤدي به الدولة وظيفة إنتقالية محددة نحو "اشتراكية خاصة " . ولهذا الغرض قامت الدولة بالسيطرة على المصادر الرئيسة للفائض الاقتصادي , عن طريق الهيمنة المباشرة على الموارد النفطية , وحاولت استخدام هذه الموارد "كسلاح نوعي " لتحقيق انتقالها الخاص نحو الاشتراكية .
وفي سبيل تحقيق هذا الانتقال الخاص تم تحجيم النشاط الخاص أولاً , ثم تكييفه ثانياً , ثم إعادة بناءه ثالثاً , وبما يكفل مساهمته في إنجاز أدوار ووظائف محددة بدقة من جهة , وعدم السماح له بممارسة دور اقتصادي – تنموي فاعل من جهة أخرى . وفي الجزء الثاني من هذه المدة (1981-1990) ترافقت الحرب العراقية- الإيرانية مع تراجع صادرات وأسعار النفط الخام , لتؤشر تراجعاً سريعاً في معدلات النمو الاقتصادي , ولتضع النهاية المنطقية لسعي النظام السياسي لتحقيق أنتقاله الخاص نحو الاشتراكية . وبنهاية هذه المدة كان أصرار نمط الدولة الوطنية على تحقيق هيمنته المطلقة على مصادر التراكم المحلي , وعلى الامكانات المتعددة لاستخدامه , قد خلّف وراءه قطاعاً خاصاً هشاً وعاجزاً عن القيام بأي دور فاعل في النشاط الاقتصادي . وكان هذا العجز نتيجة منطقية لعزلة القطاع الخاص , و إنفصاله عن مصادر تراكمه المحلي , وأيضاً عن منعه من الوصول إلى الأمكانات المتعددة لهذه المصادر التي احتكرت الدولة توزيعها واستخدامها .
وأدى هذا العجز , وهذه العزلة ,إلى فقدان الشرائح الصناعية والتجارية العراقية لقدرتها على تحقيق انتقالها الطبيعي نحو اقتصاد السوق , إضافة لعجزها (المنطقي ) عن المساهمة في تحقيق انتقال " رأسمالية الدولة الوطنية " , عبر طريق خاص , نحو الاشتراكية .
وهكذا أدت عملية إعادة بناء القطاع الخاص ألى تغيير بنية هذا القطاع أولاً وألى تراجع قوته الاقتصادية تدريجياً اعتباراً من منتصف السبعينيات من القرن الماضي . و استناداً الى بيانات الجدولين (1) و (2) يتضح لنا بأن القطاع الخاص الذي كان يقوم بتشغيل 82,2 % من إجمالي عدد العاملين في الاقتصاد الوطني ويساهم ب 45,1 % من تكوين رأس المال الثابت الإجمالي , وينتج 76% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1965 ,لم يعد يساهم في عام 1980 ألا بما نسبته 66,8 % من إجمالي العاملين و 19,6 % من تكوين رأس المال الثابت الإجمالي و 21,0 % من الناتج المحلي الإجمالي .
وبالرغم من تراجع القوة الاقتصادية للدولة الوطنية (بتراجع عائداتها النفطية) فأن مساهمات القطاع الخاص في عام 1990 كانت لا تزال أقل من مساهماته في عام 1965 على صعيد الناتج والتشغيل وتكوين رأس المال الثابت . وكان القطاع السلعي الوحيد الذي يهيمن القطاع الخاص هيمنة حقيقية عليه هو القطاع الزراعي , أما في القطاع الصناعي فقد أسهم الناتج الصناعي بما نسبته 30% من إجمالي الناتج الصناعي في عام 1990 وهي أقل من نصف مساهمته في عام 1965 والبالغة 62,2% .أما حصة الناتج الخاص الى إجمالي الناتج المحلي (غير النفطي ) فقد تراجعت من 64% في عام 1965 الى 48,5 % في عام 198 وبلغت 59,6% في عام 1990 .
و في القطاع التجاري أيضاَ لم يكن بإمكان "الشرائح التجارية الجديدة " أن تعوّض حيوية التجار القدماء ,أو تستطيع اللحاق بقدرات الدولة غير المسبوقة على استيراد مختلف السلع . وهكذا انخفضت الأهمية النسبية لاستيرادات القطاع الخاص الى إجمالي الأستيرادات من 59,3 % في عام 1968 ألى 8,6 % فقط في عام 1980 وبلغت 21 % في عام 1990 . ورغم ضآلة الصادرات العراقية (باستثناء النفط الخام والكبريت والفوسفات) فأن حصة القطاع الخاص فيها كانت قد انخفضت من 44,7 % في عام 1971 ألى 4,4% فقط في عام 1980 . وبعد أن ارتفعت ألى 69,7% في عام 1989 عادت هذه النسبة وانخفضت ألى 47,1 في عام 1990 .
و في قطاع الخدمات أيضا انخفضت حصة القطاع الخاص ألى إجمالي ناتج قطاع الخدمات الاجتماعية والشخصية من 11,4% في عام 1965 ألى 5,2% فقط في عام 1980 وبلغت 8,4% في عام 1990 .
لقد ارتبطت طبيعة هذه المساهمات بطبيعة تكوين بنية القطاع الخاص خلال المدة 1958-1990 , وبالطريقة التي تم بها توزيع الأدوار بينه وبين القطاع العام في مختلف الأنشطة الاقتصادية وكذلك بدور الدولة في إعادة بناءه وتحديد وظائفه وفقاَ لمقتضيات التغيير في ظروفها الخاصة في مراحل تاريخية معينة . وهذا هو ما قامت الدولة بإنجازه تحقيقاً لريادتها للنمط الانتقالي للتنمية في العراق آنذاك .
ثانياً: الأداء الاقتصادي للقطاع الخاص (1991 -2003) : المحددات والمعطيات الرئيسة .
ترتب على حرب الخليج الثانية دمار هائل في البنية التحتية العراقية . وترافق ذلك مع عقوبات اقتصادية قاسية أدت الى إيقاف تام للصادرات النفطية مع حظر تام على الأستيرادات تم فرضه بقرارات صادرة من مجلس الأمن الدولي.وانعكس كل ذلك سلباً على البنية الهشة للقطاع الخاص , الذي دخل مرحلة الحصار الاقتصادي منهكاً من عقود عديدة من التطفل على الدولة وأنفاقها العام وبنيتها التحتية وأنظمة الدعم والحوافز المرتبطة بها . ورغم استمرار القطاع الخاص في الهيمنة على الحصة الأكبر من توليد الناتج المحلي الإجمالي خلال التسعينيات من القرن الماضي (راجع الجدول رقم 5 ) . ألا أن هذه الحصة كانت نتيجة منطقية لتراجع حصة الصناعة التحويلية من أجمالي الناتج المحلي وزيادة حصة القطاع الزراعي الذي يعد تقليدياً نشاطاً حصرياً للقطاع الخاص في العراق ( راجع الجدول رقم 6 ). ولأن مؤشر قوة الأداء يكمن في القطاع الصناعي (وليس في القطاع الزراعي الذي كان نمط الإنتاج البدائي – التقليدي هو السائد فيه في تلك المدة ) , فأن القطاع الخاص فقد ما يمكن أن نطلق عليه "عتبة الانطلاق " نحو دور أكثر تأثيراً واستدامة في النشاط الاقتصادي . فالظروف القاسية للحصار الاقتصادي ألقت بظلالها الثقيلة (والمميتة) على القطاع الصناعي الخاص . وبفعل حظر مطلق على استيراد جميع مستلزمات الإنتاج الصناعي وتدمير مصادر الطاقة المحلية (أو شحتها ) وأنغلاق الفرص الاستثمارية أمام المنتجين , وضيق مجالات التسويق المنظم لمنتوجاتهم , تم تعطيل الجزء الأكبر من طاقات الإنتاج الصناعي وتسريح أعداد كبيرة من القوى العاملة الصناعية , وانخراطها في أنشطة هامشية لا تمت لخبراتها المتراكمة بأية صلة . وكانت النتيجة المباشرة لذلك هي تراجع كفاءة الموارد البشرية , خطورة وعدم أمكانية الاستفادة من هؤلاء في إعادة بناء الطاقات الإنتاجية مستقبلاً .
وظهر خلال هذه المدة نمط خاص من الصناعات التي لا تلتزم بأدنى معايير الحفاظ على البيئة والبعيدة عن رقابة المؤسسات الحكومية , فزادت مظاهر الغش الصناعي , واستخدام المواد الأولية رديئة النوعية ( والمعاد تدويرها من منتجات مستهلكة ) . وظهرت من جديد "أجيال منقرضة " من الصناعات البدائية , وأنتكس أداء النشاط الصناعي الخاص (الذي كان متقدماً على نظرائه في منطقة الشرق الأوسط منذ خمسينيات القرن الماضي ) الى عصور ما قبل الصناعة .
وهكذا لم تزد حصة ناتج الصناعة التحويلية الى إجمالي الناتج المحلي عن 8,5% لمتوسط المدة 1990 – 1995 , بينما لم تشكل حصة ناتج الصناعة التحويلية للقطاع الخاص ألا ما نسبته 5,6% من الناتج المحلي الإجمالي لمتوسط المدة ذاتها (راجع الجدول رقم 7) .
ومع انعدام القدرة على بناء تراكمات رأسمالية في بنية صناعية كهذه وانخفاض الطلب على الائتمان المصرفي وعدم استقرار أسعار الصرف , تراجع تكوين رأس المال الثابت في القطاع الصناعي الى معدلات متدنية جداً بحيث لم تزد نسبته عن 8,5% من إجمالي تكوين رأس المال الثابت لمتوسط المدة 1990 -0 1995 ( راجع الجدول رقم 8 ) .
ثالثاً : محددات وأمكانات الأداء الاقتصادي للقطاع الخاص 2003 – 2010
أدى احتلال العراق في العام 2003 , و ما ارتبط به من وقائع , الى خسائر فادحة في رأس المال الاجتماعي , وازدادت مظاهر عدم الاستقرار السياسي والأمني , وتعرض التماسك الاجتماعي لتهديدات خطيرة . وفي بيئة كهذه كان من الصعب الاتفاق على رؤى محددة بشأن الأصلاح الاقتصادي والأولويات المرتبطة به . و لا زال العراق عاجزاً حتى الآن عن تحقيق إجماع حول توصيف النظام الاقتصادي في المرحلة الانتقالية , وحول وجهة الانتقال النهائية , وحول دور الدولة والقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي وعملية التنمية الاقتصادية .
ورغم أن السنوات العشر "اللاحقة للنزاع " على وشك الأنقضاء , فأن معدلات النمو الاقتصادي وحصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ونسبة الفقر المدقع بين السكان ( وغيرها من مؤشرات الاقتصاد الكلي الرئيسية) لا تزال ضمن حدود غير مقبولة ( أو مرضية) بالمعايير الدولية . ومارس التوظيف السياسي للموارد النفطية الى تكريس نزعة " توزيع الريع" بهدف الحصول على الدعم الشعبي و " الصوت الانتخابي " , مما عزز من دور الدولة في الاقتصاد بدلاً من حصول العكس .
وتشير أفضل معطيات الأداء الاقتصادي الى أن حصة ناتج القطاع الخاص من إجمالي الناتج المحلي لا تزال في مستوياتها الدنيا حتى في قطاع خدمات التنمية الاجتماعية والشخصية . بينما تتراجع مساهمة القطاع الصناعي في توليد الناتج لتصل الى أدنى مستوياتها لمتوسط المدة 2000 – 2010وتشكل ما نسبته 1,7% فقط من الناتج المحلي الإجمالي . ومع هذه النسبة المتدنية فأن نسبة مساهمة ناتج الصناعة التحويلية للقطاع الخاص في إجمالي ناتج الصناعة التحويلية لم يزد عن 3,5% في العام 2009 ,وهي اعلى نسبة مساهمة مقارنة بالأعوام 2005 و 2008 ( راجع الجداول9 - 12) .
ولم تنجح الدولة في تحقيق الحد الأدنى من متطلبات التنويع الاقتصادي المطلوب . لذا استمر إنتاج النفط الخام في هيمنته على الحصة الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي , والتي تراوحت بين 85,3% و 77% و 63% للسنوات 2005 و 2008 و 2009 على التوالي .( الجداول 9 - 11 ) .
وتشير بيانات تكوين رأس المال الثابت الى تدني نسبة مساهمة القطاع الخاص في هذا التكوين الى مستويات ضئيلة جداً , لا يمكن معها للقطاع الخاص أن يمارس أي دور ذي شأن في الانتقال من الاقتصاد المركزي الى اقتصاد السوق , ناهيك عن ممارسة دور فاعل في عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي ككل . وهذا يعني أن عملية الانتقال الى اقتصاد السوق برمتها معرّضة للفشل , والانتكاس اذا بقيت أقيام ونسب المساهمة في تكوين رأس المال الثابت الإجمالي (للقطاعين العام والخاص معاً ) على ما هي عليه الآن ( راجع الجداول 13-18 ) .
وهذه المؤشرات تعكس بدورها اقتصار نشاط القطاع الخاص على المنشآت الصغيرة ذات الإنتاج المتواضع الاستخدام المحدود للأيدي العاملة ( راجع الجدول رقم 20 ) . وتؤشر البيانات الواردة في جداول الناتج المحلي الإجمالي وتوزيعه حسب الملكية والأنشطة الاقتصادية ( الجداول9 -12 ) وجود تشوّه هيكلي على المستوى النوعي للقطاعات الإنتاجية , يترافق مع استمرار تراجع مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي , وتصاعد الدور الاقتصادي للدولة في الإنتاج والتوزيع والخدمات . وتم تكريس هذه المعطيات من خلال تصاعد وتائر الإنفاق الحكومي المموّل بالريع النفطي أو باستخدام أساليب تصرف وسياسات قصيرة الأجل ألحقت ضرراً فادحاً بالقطاع الخاص ( العاجز عن تأسيس أنظمة حوافز مناظرة للقطاع الحكومي واللحاق بمديّات أنفاقه المفتوحة ) من جهة , وأدت الى غياب تام للكفاءة في أدارة التصرف بالموارد الاقتصادية , من جهة أخرى .
رابعاً : الدولة والقطاع الخاص : تقاسم الدور والوظيفة في معالجة المشكلات و الأختلالات الاقتصادية الرئيسية .
1- مشكلة البطالة
لأسباب عديدة ( أهمها البيئة غير الملائمة لممارسة الاعمال ) لم يمارس القطاع الخاص أي دور في تقليص الأحجام المطلقة , أو المعدلات النسبية للبطالة في العراق بعد العام 2003 . لقد أنخفضت معدلات البطالة من 28% في العام 2003 الى 15% في العام 2010 بسبب طبيعة سياسة التشغيل التي تبنتها الحكومة بعد العام 2005 , والهادفة الى زيادة أعداد المشتغلين في المؤسسات الحكومية ( وأهمها الأجهزة الأمنية ) .
وهذا الأمر لا يمكن أن ينسب الى " ضعف كفاءة سياسة التشغيل في الاستجابة لمتطلبات سوق العمل العراقي , وذلك لأبتعاد الأخيرعن النواظم الأقتصادية التي تتحكم بمسار مكوناته " ( كما ورد نصاً في خطة التنمية الوطنية للأعوام 2010-2014 ) بل يعود لمنطق الفوضى والتخبط ( سواء على مستوى الواقع الاقتصادي , أو مستوى القرار الاقتصادي ) . وهو المنطق الذي يستحيل معه بناء أي سياسة تشغيل , مهما كانت طبيعتها , ليس في القطاع الخاص وحده , وإنما في القطاع الحكومي أيضاً .
حجم ومعدلات التشغيل حسب الأنشطة والقطاعات الاقتصادية .
. يقدر المجموع الكلي للمشتغلين في العراق ( وللقطاعين العام والخاص ) بـ 7.664مليون في العام 2007 .
. يستحوذ القطاع الخاص على نسبة التشغيل الأكبر للقوى العاملة في العراق والتي قدرت ب 85.3% في العام ذاته ( مقارنة ب 14.7% للقطاع الحكومي).
ان هذا التباين في نسب توزيع قوة العمل ما بين القطاعين العام والخاص رافقه تباين واضح المعالم في توزيع المشتغلين من قوة العمل حسب الأنشطة الأقتصادية , حيث كانت نسب التشغيل الأكبر للقطاع الخاص في كل من أنشطة الزراعة والصيد وتجارة الجملة والمفرد بواقع 98% لكل منهما ( مقابل 2% للقطاع العام ) و 90% في أنشطة التشييد والبناء (10 % للقطاع العام ) , و82% في أنشطة النقل والاتصالات (18% للقطاع العام ) و 66.5% في الصناعة التحويلية (33.5 % للقطاع العام ) ,في حين سجل القطاع الخاص مستويات تشغيل متدنية في كل من قطاع التعدين والاستخراج(14.5 % ) والماء والكهرباء(18.5 % ) وقطاع الخدمات ( 35% ) , بينما توزعت نسب التشغيل مناصفة ً بين القطاعين الحكومي والخاص في نشاطي التمويل والتأمين .
وتعكس هذه المؤشرات والنسب أهمية عمل القطاع الخاص ومدى قدرته على توسيع نطاق التشغيل في أنشطة معينة قابلة للنمو والاستدامة , رغم انها لا تسهم حالياً ألا بحصة متواضعة في توليد الناتج المحلي الاجمالي (9.2 % للزراعة و 2.3% للصناعة في العام 2007 ) . ولو تمت مقارنة حصة القطاع الخاص بحصة التعدين والمقالع والاستخراج ( أي النفط الخام بدرجة أساسية ) في توليد الناتج المحلي الإجمالي المقدرة ب 85.8% لأتضح لنا أن حصة القطاع الخاص في توليد الناتج المحلي الإجمالي لا تزيد عن 15% , وهي حصة متدنية جداً في اقتصاد يفترض أنه شرع في عملية الانتقال نحو اقتصاد السوق الحر منذ العام 2003 .
. أن حصة قطاع الصناعة التحويلية ( من إجمالي عدد المشتغلين في جميع القطاعات الاقتصادية ) لا تزيد عن 13.7% في العام 2008 . وهذا يعود الى مساهمة هذا القطاع المتواضعة في توليد الناتج المحلي الإجمالي والمقدرة بـ (2.3 %) . وهذا يعني أن منح القطاع الخاص ( المحلي والاجنبي ) حوافز حقيقة لتنمية هذا القطاع ( ضمن بيئة أعمال ملائمة ) بحيث ترتفع حصته في توليد الناتج الى حدود معقولة ( تفي على الأقل باحتياجات السوق المحلية ) سيكون كفيلاً باستيعاب عدد كبير من العاطلين عن العمل , مقارنة بمعدلات استيعابه المتواضعة حالياً .
2- تكوين رأس المال الثابت
. يقدر حجم تكوين رأس المال الثابت في العراق بما قيمته 33.8ترليون دينار للعام 2007 , ( بالأسعار الجارية ) أي ما يقرب من 28 مليار دولار .
. تقدر حصة القطاع الخاص فيه ب 258 مليار دينار ( ما يقرب من 215 مليون دولار فقط ) , أي ما نسبته 4.5% من أجمالي تكوين رأس المال الثابت.
. وهذه الحصة المتواضعة تتوزع على الأنشطة السلعية بنسبة (28 %) والأنشطة الخدمية بنسبة (41%) والأنشطة التوزيعية بنسبة (31 % ) .
. يتضح من ذلك أن القطاعات الأساسية المكونة لرأس المال الثابت هي القطاعات السلعية المتمثلة بالنفط الخام والتعدين والمقالع والكهرباء والماء الى جانب خدمات التنمية الاجتماعية التي تقدمها الدولة ( كالصحة والتعليم والصرف الصحي ) .
وهذا يفسر هيمنة القطاع العام على القرار الاقتصادي, بما في ذلك القرارات المتعلقة بسياسات التشغيل الكلية ( أو على مستوى كل قطاع) . فلا يمكن لقطاع هامشي ( كالقطاع الخاص ) أن يمتلك أية قدرة للتأثير في النمط احادي الجانب لصنع القرار الاقتصادي في العراق . وبالتالي فأنه لايمتلك أية قدرة على فرض تصوراته بصدد طبيعة سياسة التشغيل التي تتسق ومصالحه , والتي يفترض بصناع القرار أخذها بنظر الأعتبار .
. قدر صندوق النقد الدولي مجموع الاستثمار الخاص ( المحلي والاجنبي ) في الاقتصاد العراقي ب 1080 مليون دولار , وبما نسبته 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2004 . وارتفعت قيمته المطلقة في العام 2005 ليصل الى 1161 مليون دولار . غير أن نسبته انخفضت إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي . ولم تتحسن هذه المعطيات كثيراً في السنوات اللاحقة , مما يعكس قصوراً في دور القطاع الخاص في تمويل التنمية في العراق ( لأسباب معروفة للجميع) .
3- سياسة التشغيل في القطاع الخاص في أطار خطة التنمية الوطنية
( 2010-2014)
. أن جميع إستراتيجيات وسياسات وخطط التنمية والتشغيل المعدة في العراق لا تمتلك أية فرصة للتطبيق ( أو النجاح ) على أرض الواقع . ولا يعود ذلك الى المغالاة في صياغة مؤشرات دالة الهدف , بل الى الواقع الذي يؤشر عدم ظهور أي مشروع أستراتيجي طيلة الأعوام السابقة , ولم تظهر أية تجديدات ذات قيمة , تسمح بالإرتقاء بالوضع المزري للبنى التحتية والخدمات , ولم تشرع المؤسسات المعنية بخطوات فعلية وفاعلة على صعيد تطبيق مفردات خطة التنمية خاصة مايتعلق منها بالمشاريع الإنتاجية الكبيرة .
. ولهذه الأسباب ( وغيرها ) تراجع القطاع الزراعي , لا عن دوره التقليدي في التشغيل , بل حتى عن دوره في تأمين الغذاء . وأصبح العراق يستورد 85% من احتياجاته الغذائية , بينما يؤمن القطاع الزراعي 15% فقط من هذه الاحتياجات .
. ولا يزال دور القطاع الصناعي محدوداً وضعيفاً ويعاني من معوقات عمل وترهل وإنتاج تقليدي وبطالة مقنعة . كما يعاني السوق من إغراق سلعي خارجي منظم لم يشهد له العراق مثيلاً من قبل .
. و بدلاً من قيام الحكومة بإنفاق 186 مليار دولار لإنجاز مشاريع خطة التنمية الوطنية للسنوات 2010 – 2014، وبما يسمح بزيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة (9.38 %) كمعدل نمو سنوي , وخلق ما بين 3 – 4.5 مليون فرصة عمل جديدة , وتنويع الاقتصاد العراقي من خلال دعم القطاعات التي يمارس النشاط الاقتصادي الخاص دوراً تاريخياً فيها , ويتمتع في بعض فروعها بأمكانات تنافسية جيدة ( كالزراعة والصناعة والسياحة والبناء والتشييد ) ... فأن واقع تنفيذ هذه الخطة يشير إلى عدم تطابق المدة المتبقية لتنفيذ الخطة , مع حجم المشاريع المقررة فيها . كما تم تكريس معظم تخصيصات الموازنة العامة الأتحادية لتلبية إحتياجات ربما كانت بعيدة ( وبعيدة جداً ) عن تحقيق معدلات نمو اقتصادي حقيقي .
. وهكذا مارست البيئة التنظيمية دوراً اساسياً في أخفاق الخطة ( حتى الآن ) في تحقيق أهدافها , حيث لم يلتزم الشركاء الأساسيون فيها ببنود الخطط المساعدة الهادفة الى رفع معدلات النمو الاقتصادي , رغم وفرة التخصيصات المالية والخبرات والكفاءات وقدرات التنفيذ .
. قدرت خطة التنمية الوطنية قيمة الاستثمار المطلوب تأمينه لتحقيق أهدافها بحوالي 186 مليار دولار خلال مدة الخطة , يموّل 100 مليار دولار فيها من الموازنة الأتحادية , و 86 مليار دولار من القطاع الخاص ( المحلي والأجنبي ) بحيث تكون مساهمة القطاعين الحكومي والخاص (53.7 %) و (46.3 % ) على التوالي .
. تم توجيه 5% من إجمالي تخصيصات الاستثمار الحكومي على مدى سنوات الخطة الخمسة الى قطاع الصناعة التحويلية . والهدف من ذلك هو ترك هذا المجال وعلى أوسع نطاق ممكن للقطاع الخاص ( المحلي والأجنبي) . وتعد هذه أوطأ نسبة تخصيص مقارنة ً بقطاعات النفط والكهرباء والزراعة التي استأثرت ب 15% و 10% و 9.5% من إجمالي تخصيصات الاستثمار الحكومية والمقدرة ب ( 100مليار دولار ) .
. أن نشاط الصناعة التحويلية ( عدا النفط ) يشهد تراجعاً غير مسبوق في نسبة مساهمته في توليد الناتج المحلي الإجمالي ( بالأسعار الجارية) . فبعد أن كانت هذه النسبة 6% عام 1979 و 13.9% عام 1988 و 3.8% عام 1990, فأنها لم تزد عن 1.7% في عام 2008 .
. أن حصة نشاط الصناعة التحويلية للقطاع الخاص ( عدا النفط ) لا تزيد عن 1% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2008 . وهذا يعكس ضآلةحجم الاستثمار الصناعي للقطاع الخاص حيث لم تزد نسبة مساهمته في تكوين رأس المال الثابت عن 4% لعام 2007 ( وبالأسعار الثابتة لسنة أساس1988 ) .
ولعدم حدوث أي تحسن سواء في هذه المؤشرات والمعطيات أم في بيئة ممارسة الأعمال , فأن بإمكاننا الجزم بأن القطاع الخاص لن يتمكن من الإيفاء بالتزاماته المفترضة في هذه الخطة(هذا أذا تمكن من الحفاظ على مؤشرات أداءه الحالية دون انتكاسات وتراجعات جديدة) .
أن وجود الفرص ( وتتيح الخطة فرصاً كبيرة في العديد من المجالات ) لا يعني بالضرورة قدرة القطاع الخاص على أستغلال هذه الفرص . فحين تؤكد الخطة على الحاجة لوحدات سكنية ملائمة تقدر ما بين 1- 3.5مليون وحدة سكنية فأن القطاع الخاص ( المحلي والأجنبي) لن يتمكن من تحويل هذه الأحتياجات المخططة الى فرص استثمارية حقيقية ما لم يتم تهيئة بيئة أعمال منظمة ومستقرة وضامنة للاستثمار طويل الأجل ومعززة بإطار مؤسسي مناسب وفعال.
كما أن هذه الفرص ليست معزولة عن إطارها الاقتصادي والاجتماعي الأوسع . ولما كان 23% من السكان هم تحت خط الفقر الوطني ( المقدر بـ 77000 دينار شهرياً ) فأن هذا يعني أن حجم الطلب المحلي سيكون له دور محدود في تحفيز القطاع الخاص ( المحلي والأجنبي) على القيام باستثمارات منتجة طويلة الأجل , وكفيلة بتحقيق مستويات تشغيل مقبولة ومستقرة ومستدامة .
4- أنماط وسياسات التشغيل في القطاعين العام والخاص : المحددات والأمكانات والأهداف الرئيسة .
• أن نمط التشغيل الحالي هو انعكاس للبنية الاقتصادية القطاعية,والخصائص التقنية والتنظيمية للاقتصاد العراقي . وهذا النمط مبدد للموارد النفطية من خلال استيعاب جزء يسير من العاطلين بفرص عمل زائفة , بدلاً من استخدام هذه الموارد في إنجاز تنمية حقيقية تتيح فرص تشغيل متزايدة ومستدامة .
لقد تدهورت جميع مؤشرات نمو القطاعات الإنتاجية منذ العام 1990 . وبعد العام 2003 تعرض ما تبقى من النشاط الخاص الى ضربات مميتة أدت الى انحسار كبير في قدرته على التشغيل , في ذات الوقت الذي تفاقمت فيه معدلات البطالة المقنعة في القطاع الحكومي .
• وهكذا فأننا لم نحافظ لا على قدرات التنظيم البيروقراطية – المركزية السابقة التي نجحت الى حد ما في استيعاب جزء من قوة العمل , ولا على ديناميكية القطاع الخاص الذي وجد نفسه ضائعاً في خضم عملية تحول ( لم تنجز ابداً ) من الاقتصاد المركزي الى أقتصاد السوق .
وهذا يعني أن دور الدولة في التشغيل بعد العام 2003 ( وبالذات في القطاعات المنتجة – وهي قطاعات التنمية الحقيقية ) قد تراجع , بينما لم يتمكن القطاع الخاص ( العراقي والأجنبي ) من ملء الفراغ .
• وفي حين لم تتمكن الدولة ( بكل إمكاناتها ) من مواجهة تحديات تشغيل ثلثي السكان في سن العمل ( بإنتاجية مقبولة ومستمرة, وبما يسمح بمستوى معيشي لائق ومستقر) فأن السؤال الجوهري هنا هو كيف يستطيع القطاع الخاص ( ببنيته الاقتصادية والمؤسسية الحالية ) تحقيق ذلك ؟.
• أن مواجهة هذا التحدي تتطلب ضمان مستويات مرتفعة من الاستثمار تقترب من 35 % من الدخل الوطني , مما يتطلب تخصيص 45 % من موارد النفط للاستثمار , ومغادرة نمط تخصيص موارد النفط للاستهلاك العام ( تحت تأثير الالتباس في فهم معنى نظام الاقتصاد الحر في العراق, وإقتصار هذا المعنى على تكريس السياسة التجارية لخدمة نزعة الاستهلاك الاستيرادي المنفلت والسيء الأثر بكل المقاييس ) .
وهذا الالتباس يتيح للدولة تخصيص الجزء الأكبر من الموارد النفطية للأنفاق العام ( التشغيلي ) – الاستهلاكي على إفتراض أن القطاع الخاص هو الذي يتولى ( تلقائياً ) خلق فرص الاستثمار والإنتاج والاستخدام على المستوى الكلي , مقابل إيمان الدولة ( وإيمانها فقط ) بضرورة الأنتقال من الاقتصاد المخطط مركزياً الى اقتصاد السوق .
• أن من المستحيل تكليف قطاع أو أنشطة مستنزفة وهزيلة و متشظية الامكانات كأنشطة القطاع الخاص العراقي ( الهامشية والطفيلية بكل المقاييس) بحجم هائل من المسؤوليات الاقتصادية الحكومية الرئيسة (كدعم وتفعيل قطاعات الزراعة والري والطاقة والبناء والتشييد والأرتقاء بالوضع المزري للبنى التحتية ) .
• أن تفعيل هذه القطاعات هو الشرط الضروري – بل والكافي حالياً - لخلق بيئة ملائمة لتشغيل نام ومستقر يتجاوز بمراحل قدرات وأمكانات الحكومة العراقية الحالية ( على الصعيد التنظيمي المؤسسي , وعلى صعيد توفير التمويل اللازم , المرتبط هو الآخر بالنمط المتخلف لإدارة الموارد الاقتصادية ). فكيف يمكن للقطاع الخاص العراقي ( أو حتى الأجنبي) أن ينجح في تحقيق ما لا يمكن للدولة العراقية المتخمة بالريع النفطي تحقيقه ( في ظل ظروف ومعطيات معينة معروفة للجميع ) ؟
• أن مشكلة التشغيل في العراق هي أكبر وأهم من مشكلة البطالة . فحين يجسد نمط التشغيل السائد الطابع اللا إنتاجي للاقتصاد العراقي , ويعمل على إعاقة عملية التنمية الحقيقية ( من خلال التركيز على تهيئة فرص العمل الزائفة في القطاع الحكومي ) , فأن هذا النمط ذاته سيعمل على تفاقم مشكلة البطالة وعلى أستدامتها , وسيصبح هو أساس مشكلة البطالة بدلاً من أن يكون أحد الحلول الرئيسة , هذا أذا لم يكن هو الحل الناجح الوحيد لها .
• وتشير تقديرات موثوقة ألى أن عدد سكان العراق سيكون في حدود 33 مليون نسمة في العام 2011 . ومع وجود نمو سنوي مركب للسكان يقارب 3% . ومع أستقرار متوسط حجم الأسرة عند 6.9 من مدة طويلة , فأن هذا يحتم على الجميع ( الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني ) الالتزام الصارم باشتراطات ومسؤوليات وأعباء وتكاليف عملية تحول العراق من أمة مستهلكة وطفيلية وفاسدة ومبددة للموارد الى أمة صناعية منتجة .
أن أول ما ينبغي أصلاحه هو نمط التشغيل الحكومي السائد , فهذا النمط لا يشكل فقط نمطاً معيباً وشاذاً للتصرف بالفائض الاقتصادي , بل أن مخاطره تتجاوز ذلك بكثير لتصل الى حد تخريب نظام الحوافز في القطاع الخاص ( والذي يعد الأجر المكتسب فيه واحداً من اهم عناصر ديناميكيته الذاتية ) .
• وأنها لمفارقة محزنة – و كارثية – أن تتمتع الأسر التي يعمل أثنان من أفرادها في القطاع الحكومي ( دون أي إنتاجية تذكر) بمستوى معيشي مُرضي بينما ينهش الفقر وعدم أستدامة الدخل , والأفتقار الى الاستقرار الاقتصادي أسر العاملين في القطاع الخاص , وذلك في تعارض صارخ مع ما يحدث في جميع الأمم والدول المنتجة في العالم ( بما في ذلك الكثير من الدول النامية ).
• أن الدولة العراقية تنتهج نمط تشغيل يقوم على الإعانة . و لأنها لا تمتلك نظام لإعانة البطالة ( بسبب تخلف أساليب التنظيم الاقتصادي بشكل عام ) فأنها تستبدل هذا النظام بنظام تشغيل زائف يعمل على تكديس الالآف من الموظفين في مؤسسات متخمة بالبطالة المقنعة والسافرة على حد سواء .
• أن حل مشكلة التشغيل يتطلب تغيير بيئة الأعمال في العراق تغييراً جذرياً . وهذه المهمة تتجاوز قدرات القطاع الخاص ( الحالي ) بكثير . فالمتطلبات والاشتراطات والأمكانات ذات الصلة بخلق هذه البيئة ليست اقتصادية فقط . أنها مؤسسية – قيمية – سلوكية – ثقافية . وأن وجود هذه البيئة يفترض الالتزام بضوابط ومدونات سلوك , و آليات لبناء الثقة بين جميع الأطراف ذات العلاقة . وبدون ذلك لا يمكن أن يتحقق الأمن الاقتصادي للجميع , ولن يتحرر المستثمر من رعب المخاطرة . ولا توجد أي فرصة حقيقية للإنجاز في غياب الإيمان بضرورة الإيفاء وعلى نحو سريع بجميع هذه الاشتراطات بإرادة اجتماعية وسياسية واضحة ومعلنة وملزمة للجميع .
• ورغم مرور ثمان سنوات على ما يفترض انه بداية الانتقال الى اقتصاد السوق , فأن التقرير الذي أصدره البنك الدولي بخصوص واقع أداء الأعمال في العالم , قد كشف عن تدهور موقع العراق في الجدول الخاص بذلك ليصبح تسلسله 166 من أصل 183 دولة مشمولة بالمسح في العام 2011 , فيما كان تسلسله 153 في مسح عام 2010 .
• ولأن التقدم , أو التراجع , في مؤشرات هذا المسح تمثل , أو تشكل , معياراً لمدى التحسن في البيئة الاستثمارية بالنسبة للقطاع الخاص (المحلي والأجنبي ) , فأن هذا التراجع يعد بمثابة صدمة لهؤلاء الذين يفكرون في إمكانية إستغلال الفرص المتاحة أو الواعدة في الاقتصاد العراقي .
• أن من أهم مشاكل العراق الحالية هو عدم وجود إرادة سياسية قادرة على دعم وتعزيز جهود المختصين ( سواء أكانوا خبراء محليين أم منظمات دولية ) لتمكينهم من توجيه أو تصويب مسار عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ككل , أو عملية الاستثمار بشكل خاص , وبما يسمح لهؤلاء الخبراء والمختصين بتوقع تغيرات سوق العمل والتنبؤ بها , لتشكل دليل إرشادي , وخارطة طريق يمكن للقطاع الخاص (المحلي والأجنبي) الأسترشاد بها والعمل على وفقها , بدرجة معقولة من التوكد من المستقبل .
• إن العمل على وفق هذا المنظور طويل الأجل , يسمح بتبني مشاريع استثمارية تستديم من خلالها فرص الإنتاج والتشغيل , ولا تبقى محصورة في مشاريع طفيلية تحاول اقتناص فرص آنية قصيرة الأجل ليس لها أي تأثير إيجابي على واقع التشغيل في العراق .
• أن تحليل تأثير السياسات على الوظائف هو من المهام الرئيسة لمنظمة العمل الدولية ( وبقدر أقل للبنك الدولي) . ومن دواعي القلق هو أن هاتين المؤسستين لاتكادان تملكان أي تأثير على الأداء الاقتصادي للحكومات ( وبالذات في مجال صنع السياسة العامة ) , وبما يجعل هذه الحكومات مطلقة اليد في صياغة الأهداف الوسيطة والنهائية للسياسة الاقتصادية على نحو يخدم التوجهات السياسية الآنية ( التعبوية -الشعبوية ) على حساب المنظور الأكثر جدوى واستدامة , أي المنظور طويل الأجل .
خامسا - التوجهات المقترحة : القطاعات المستهدفة وسياسات
الدعم
1- القطاعات المستهدفة
. أن الجزء الأكبر من النمو الاقتصادي في العراق يعود الى النمو في إنتاجية القطاع النفطي ( أي صادرات النفط الخام ) فنمو حصيلة الصادرات النفطية (بفعل زيادة الإنتاج والأسعار ) هو المحدد الرئيسي للنمو الاقتصادي في العراق . وهذا النمو لا يسمح بتوفير فرص تشغيل كافية ( حتى بأفتراض استمراره بالتصاعد) لسبب بسيط وهو أن قطاع إستخراج النفط هو من أقل القطاعات تشغيلاً للأيدي العاملة .
. ولهذا ففي بلد شبه مدمر كالعراق فان قطاع البناء والتشييد ( وهو قطاع يستطيع النشاط الخاص المحلي والأجنبي أن يعمل فيه بيسر وكفاءة ) هو القطاع القادر على توفير أفضل فرص التشغيل الممكنة , وبأقل قدر من تكاليف الإعداد والتدريب , ولخلق أفضل مصادر الدخل للعاطلين كلياً أو جزئياً عن العمل .
. ويمكن من خلال إصلاح واقع عمل قطاع البناء والتشييد ( شديد التخلف حالياً ) إستيعاب مليون ونصف المليون مشتغل , في حال عملت الحكومة على تطوير إمكانات هذا القطاع , والنهوض بمستوى القدرات الوطنية المرتبطة به ( بتشابكاتها القطاعية الأمامية والخلفية) .
. ونقطة الأنطلاق في هذا التوجه , هي الدعم الحكومي لتأسيس شركات متخصصة في مختلف فروع قطاع البناء والتشييد الكبيرة والقادرة على توظيف أحدث التقنيات وأساليب الإدارة والتنظيم .
. وتستطيع الحكومة طرح أسهم هذه الشركات للاكتتاب , وبما يسمح للقطاع الخاص بإدارتها وملكيتها تدريجياً , على أن يتسق ذلك مع تحول الحكومة الى جانب العرض في هذا القطاع من خلال برامج دعم سخية لمشاريع إنتاج المواد الأنشائية المختلفة , وذلك بدلاً من الكلفة المرتفعة لاستيراد هذه المدخلات من الخارج .
2- سياسات الدعم
يمكن أيجاز أهم سياسات دعم القطاع الخاص بما يأتي :
. سياسة أقتصادية واضحة الرؤية , تقوم على توصيف دقيق لطبيعة النظام الاقتصادي في العراق , وتوزيع للدور والوظيفة على وفق هذا التوصيف , وبما يضمن إنجاز عملية التحول الى اقتصاد السوق على مراحل وبأقل كلفة اجتماعية ممكنة .
. سياسة استثمارية تدعم فاعلية الاستثمار الخاص المحلي والاجنبي من خلال الأرتقاء بقطاع البنى التحتية والخدمات الاساسية في الاقتصاد العراقي .
. سياسة تشغيل وطنية يتم بناءها على أساس الإيمان بأن القطاع الخاص هو القطاع الخالق لفرص العمل والمعزز للنمو المستدام .
. سياسة للتدريب وأستراتيجية للتعليم ( بمختلف مراحله) لا تجعل المخرجات عالة على سوق العمل , وتأخذ أحتياجات واولويات القطاع الخاص الآنية والمستقبلية بنظر الإعتبار .
إن برامج التدريب الحالية غير فاعلة في مجال التشغيل الخاص , ومبددة للجهد والموارد , لأن المتدربين فيها يجدونها وسيلة لتسهيل توظيفهم في القطاع الحكومي حصرا . وحين لاتتوفر لهم هذه الفرصة ,فأنهم سيقبلون بأية فرصة متاحة للعمل , بغض النظر عن مجالات تدريبهم السابق .
كما ان مخرجات التعليم هي أبعد ماتكون عن احتياجات سوق العمل . وتتسم هذه المخرجات بالعشوائية وانعدام الكفاءة المهنية . وعلى وفق بيانات وزارة العمل والشؤون الأجتماعية ( أيلول – سبتمبر 2010 ) فأن عدد العاطلين المسجلين في قاعدة البيانات التابعة لدائرة العمل , من بين الخريجين , بدءا من العام 2003 وحتى العام 2009 قد بلغ 1.5 مليون عاطل .
. سياسة تشغيل وسياسة لتحديد الحوافز والأجور في القطاع العام تعمل على تصحيح مسار نمط تخصيص الموارد لكي يتحول من جديد نحو القطاع الخاص الأكثر ديناميكية والأكثر مرونة في الإستجابة لتحديات التشغيل واحتياجات سوق العمل .
. ولا تحظى الأطر المؤسسية – القانونية بدور فاعل في تنظيم عملية التشغيل العشوائية في مختلف الأنشطة والقطاعات الاقتصادية . ولايبدو ان أحدا يأبه في العراق لكل هذه الفوضى وغياب المعايير الموضوعية عند إقرار أنظمة الأجور وأنظمة الحوافز في القطاع العام , ودورها في عرقلة عملية التشغيل في القطاع الخاص , في جميع أوجه النشاط , وللأجلين القصير والطويل معاً .
. أن هناك حاجة ماسة لأستحداث " هيئة وطنية للتشغيل وتخصيص الموارد البشرية " , تعمل على تطبيق أصلاحات جذرية في قطاع التوظيف بهدف التأسيس لنهج أكثر عدلاً في هذا المجال : نهج يعتمد المتغيرات الديناميكية في سوق العمل , ويعزز آليات الربط بين الأجور والإنتاجية , ويحترم قواعد التنافسية وقيم السوق, ويعمل على بناء الثقة بين الدولة والقطاع الخاص ( على الأقل في مجال إختصاصه الرئيس ) .
وينطبق الأمر ذاته على غياب الأفق المعرفي , والتصور الواضح لدى صناع القرار , أو المشرعين , بصدد توصيف النظام الاقتصادي الانتقالي , وما يترتب على هذا الإلتباس من قرارات وقوانين وإجراءات وتدابير وسياسات تقرها وتعمل على نهجها السلطات التنفيذية , رغم تعارضها الصارخ مع أبسط متطلبات عمل القطاع الخاص , وخاصة فيما يتعلق بأنظمة الأجور والحوافز وسياسات التشغيل والنمط المتحيز للقطاع العام في تخصيص الموارد .
سادسا - الأطار العام للسياسات والتوجهات الكفيلة بريادة القطاع الخاص للنشاط الاقتصادي .
لا يمكن للقطاع الخاص أن يمارس دوره ووظيفته في ريادة النشاط الاقتصادي ما لم يكن النظام السياسي مؤمناً بهذا الدور وهذه الوظيفة . وبالتالي فأن دور الدولة سيكون حاسماً في تحديد قدرة القطاع الخاص في العراق على ممارسة دوره بكفاءة وفاعلية بهدف التصدي لجميع مظاهر الخلل والقصور القائمة حالياً في الأداء الاقتصادي . ويمكن تلخيص الإطار العام للسياسات والخطط والاستراتيجيات التي ينبغي للدولة العمل في إطارها لتحقيق هذا الهدف بما يأتي :
1- تحقيق الانتقال من حالة النزاع وعدم الاستقرار ( بمختلف مظاهرها) والشروع على الفور بمرحلة تأهيل وإصلاح فاعلة لجميع الهياكل (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدارية) .
2- الانتقال من اقتصاد شبه مغلق تسيطر عليه الدولة الى اقتصاد حر , وموّجه نحو النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية , مع ضمان استدامة هذا التوجه من خلال أطر قانونية – مؤسسية – حاكمة وملزمة لجميع الشركاء في المجتمع العراقي .
3- الانتقال من اعتماد مفرط على النفط الى تنويع اقتصادي قادر على توظيف جميع الامكانات والموارد المادية والبشرية المتاحة في الاقتصاد والمجتمع .
4- إصلاح أنظمة الحوافز والدعم بهدف مساندة نمو أسرع وأكثر فاعلية لفرص العمل في القطاع الخاص من خلال بناء قطاع صناعي حديث وقادر على المنافسة .
5- إعادة بناء مرافق خدمات عامة تخضع للمسائلة وتستجيب لحاجات المواطنين مع ضمان حصول جميع الفئات الاجتماعية الضعيفة على الخدمات الحكومية .
6- أنشاء شبكات أمان رسمية قوية تتيح حماية الفقراء في إطار عملية تحديد الاسعار .
7- أنشاء أجهزة شفافة وخاضعة للمساءلة مهمتها إدارة موارد النفط وغيرها من الموارد العامة .
8- بناء القاعدة المؤسسية ( اقتصاد السوق في هيكله الإجمالي , والقوانين والأنظمة المعززة لها) بهدف إيجاد بيئة استثمار ملائمة وراسخة .
9- إنجاز تقييم سريع لأوضاع مؤسسات القطاع العام , والعمل على إعادة هيكلتها ( من الناحيتين الإدارية والاقتصادية ) والتحقق من قدرة المؤسسات ذات الطابع التجاري منها , على استعادة ربحيتها حتى في إطار اقتصاد منفتح للغاية تدخل اليه رساميل كبيرة من الاستثمار الاجنبي المباشر .
10- إصلاح أنظمة التسعير والدعم للتقليل من انعدام الكفاءة في الاقتصاد , وتحسين الحوافز المتاحة للمنتجين في القطاع الخاص , وتأمين موارد مالية عامة بهدف إنتاج سلع عامة ذات طابع حيوي.
11- وضع الآليات والسياسات والأجراءات الكفيلة بالحد من أساليب الأغراق السلعي , وتقنين الأستيراد للسلع الأستهلاكية , بما يترك فسحة معقولة من الطلب المستقبلي الفعّال على المنتجات المحلية في السوق الوطنية , دون الأضرار بالتنافسية المطلوبة لتحسين أداء القطاع الخاص المحلي .
12- وضع الأطار القانوني المناسب لدعم وتشجيع الشراكة بين القطاع الخاص المحلي والأجنبي , وتقديم الحوافز اللازمة لأنجاح هذه الشراكة , وبما يجعل نجاح هذه الشراكة مدخلا لجذب مقدار أكبر من الأستثمار الأجنبي المباشر , مقارنة بمعدلاته المتواضعة جدا حاليا .
13- توفيرالأرادة السياسية القادرة على تمكين الدولة من وضع السياسات والخطط والأستراتيجيات الكفيلة بأقامة مشاريع وصناعات بديلة للواردات السلعية . ويتم تمويل انشاء هذه المشاريع من خلال موازنة خاصة بها , وبالعائدات النفطية حصرا . ويتم حسم هذه العائدات أبتداءا من الأيرادات العامة المخمنّة للموازنة العامة الأتحادية للعام القادم , وتوضع في حساب ( أو صندوق خاص ) يتم السحب منه للأنفاق على هذه المشاريع على وفق سياقات صارمة وخاضعة للرقابة والمتابعة من الجهات المعنيّة بذلك .
14- وضع الآليات المناسبة لبيع وتداول أسهم هذه المشاريع ( في التوقيت المناسب لذلك) في سوق العراق للأوراق المالية , وبيعها للمستهدفين ,من قبل الدولة , بسعر التكلفة ( أوبهامش دعم يحدد على وفق طبيعة المشروع وأهميته ومدى تنافسيته مع المستوردات المناظرة) .
15- تحديد الأشتراطات والضوابط اللازمة لشراء هذه الأسهم من قبل الصناعيين العراقيين وعموم المواطنين والموظفين الحكوميين , وبما يحول دون المضاربة والأتجار بها , وعلى نحو يحقق التشاركية المطلوبة في ادارتها وتسييرها واستدامة انشطتها وتعزيز تراكماتها , بين الدولة المُنشئة لهذه المشاريع , من جهة , وبين المالكين الجدد , من جهة أخرى .
16- إبعاد هذه العمليات برمتها عن أي شكل من اشكال التوظيف السياسي , والتعامل معها كشأن اقتصادي صرف . وتتولى كوادر مختصة وعلى درجة عالية من الأحترافيّة مسؤولية انجاز المهام ذات الصلة بهذه العمليات في بيئة سياسية داعمة , على نحو مباشر وواضح , بعيدا عن الضغوط الشعبوية ( أيا ما كانت أشكالها ومظاهرها ) . ويدخل في اطار اختصاص هذه الكوادر , التوزيع القطاعي للمشاريع , ومراعاة أشتراطات التنمية المكانية ( الأقليمية ) وغيرها من الموضوعات الحساسة الأخرى .
#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)
Imad_A.salim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟