كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 3373 - 2011 / 5 / 22 - 14:50
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
يقدم الأخ الدكتور محمد على زيني اقتصاد السوق الحر باعتباره النموذج الملائم لبناء الاقتصاد العراقي وتطوير المجتمع. ويؤكد هذا الاختيار في كل صفحة من هذه الدراسة تقريباً. ويمكن متابعة ذلك في الحلقتين الثانية والثالثة على نحو خاص, ولكن القارئ يجدها في كل الحلقات الأخرى وبصيغ مختلفة.
حين انتهيت من قراءة هذه الدراسة المهمة اقتنعت بأن الزميل قد اختار هذا النموذج عن قناعة, وإلا لما احتاج إلى تأكيد هذا الخيار بهذه الغزارة في التكرار. ولا أشك, بل وأتفق معه, بأن الفترة الراهنة تتطلب اختيار اقتصاد السوق باعتباره يمثل مرحلة مهمة من مراحل التطور الاقتصادي في مجتمع ما زال يعاني من بقايا العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية بحدود كبيرة بعد أن أعادته سياسات البعث البائسة وحروبه العدوانية واستبداده المشين إلى الوراء, إلى ما قبل مرحلة إقامة مجموعة من الصناعات في العراق. وهو بالتحديد ما هدد ووعد به جيمس بيكر, وزير الخارجية الأمريكي, النظام العراقي حين رفض الدكتاتور صدام حسين على لسان طارق عزيز وبعنجهية فارغة طلب مجلس الأمن الدولي بالانسحاب من الكويت في العام 1991 وأصر على مواصلة الاحتلال وتعرض لذلك الانكسار العسكري والسياسي وتدمير البنية التحتية والصناعات الوطنية وما ارتكبه النظام من جرائم بشعة في أعقاب انتفاضة الشعب في ربيع نفس العام. ولكن الذي استوقفني في الدراسة تلك المواصفات التي قدمها الزميل زيني لاقتصاد السوق وشدد عليها وكأنها الصيغة الوحيدة المقبولة في اقتصاد السوق, بحيث اقترب بالفكرة كثيراً من مفهوم اللبرالية الجديدة وإلى حد التطابق تقريباً, وأن لم يذكر هذا المفهوم بالاسم, إذ أن المواصفات التي اختارها هي التي تسمح بتحديد هذه الوجهة. أرجو أن أكون مخطئاً في هذا الاستنتاج.
لقد برهنت العقود الثلاثة الأخيرة على فشل ذريع لسياسات اللبرالية الجديدة على الصعيد العالمي وكلفت العالم خسائر مادية وبشرية فادحة مما دفع بالكثير من الدول إلى التخلي عنها سياسياً واقتصادياً. ولهذا أرى بأن هذا التوجه نحو اقتصاد السوق بمفهوم اللبرالية الجديدة غير مناسب للعراق. وقد تسبب بالنسبة للبلدان التي انتهجته بالكثير من المنغصات والاختلالات الاقتصادية والاجتماعية. وكانت عواقبه سلبية على الغالبية العظمى من شعوب البلدان التي أخذت به وسارت عليه. وعلينا أن نتذكر سياسة الضربات الاستباقية التي مارستها إدارة بوش الأب وبوش الابن والتي اقترنت بإنزال الضربات الاستباقية العسكرية بـ "العدو المحتمل" وفرض سياسة الحصار الاقتصادي والمقاطعة الاقتصادية كأسلوب لممارسة التهديد بهدف تحقيق مصالح الولايات المتحدة. وقد دشَّنت الإدارة الأمريكية هذه السياسة في زمن بوش الأب ومن ثم واصلها بوش الابن, إضافة إلى المضاربات في الأسواق المالية التي تسببت في وقوع خسائر فادحة لعدد كبير من الدول في أمريكا الجنوبية وفي جنوب شرق آسيا, إضافة إلى النموذج السيئ الذي ما زال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يروجان له ويقدمانه إلى البلدان النامية منذ أكثر من ثلاثة عقود باعتباره النموذج الأفضل للأخذ به في بناء اقتصادياتها الوطنية, وهي السياسة التي مارستها الإدارة الأمريكية وبريطانيا منذ عهد إليزابيث تاتشر ورونالد ريگن في العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية والتي اقترنت أيضاً بأزمات مالية ومن ثم اقتصادية كبيرة في أمريكا اللاتينية وفي جنوب شرق آسيا. وأخيراً وليس آخرا بروز مظاهر الأزمة المالية والاقتصادية منذ العام 2007 والتي بدأت تزحف تدريجاً وتتفاقم حتى انفجرت في العامين 2009 و2010 التي ما يزال الاقتصاد الدولي يعاني من عواقبها, وخاصة اقتصاديات شعوب الدول النامية وتلك الاقتصاديات الضعيفة في الاتحاد الأوروبي التي يمكن أن نتلمسها في تفاقم الأزمة المالية والنقدية لليونان والبرتغال واسبانيا, وربما ستلحق بها بعض الدول الأخرى, على الرغم من الحجم الكبير جداً من الأموال التي ضخت وما تزال تضخ إلى هذه الدول لتدارك انهيارها الاقتصادي الكامل. وكل هذه الدعم المالي لم يحقق حتى الآن نتائج كبيرة ومهمة وسوف يكلفها غالياً الآن وفي المستقبل وسيتسبب في بروز تناقضات ونشوء صراعات سياسية واجتماعية غاية في التعقيد والحدة والتوتر في البلدان المذكورة وفي غيرها نتيجة ممارسة سياسات تقشفية بدأت بها وهي موجهة في الغالب الأعم ضد الفئات المنتجة للخيرات المادية والكادحة والفقيرة. ويمكن متابعة المظاهرات الشعبية في اليونان وإسبانيا والبرتغال التي تحتج على التقشف الموجه أساساً ضد الفئات الكادحة والفقيرة.
إنها الأزمة الخانقة التي فجرتها سياسات اللبرالية الجديدة, أي سياسات الاحتكارات الأمريكية في سوق العقارات والمضاربات العقارية وفي سياسات المصارف الأمريكية عموماً والعقارية منها بشكل خاص, ولكنها في المحصلة النهائية عمت الأزمة المالية والاقتصادية العالم كله ولم تنته بعد.
ومع ذلك فأن اختيار الأخ الدكتور محمد علي زيني لاقتصاد السوق الحر ليُمارس في العراق على وفق المواصفات التي حددها يبقى موضع احترامي, رغم اختلافي معه بشأن تلك الماصفات, وسأبدي رأيي في أسباب رفض بعض المواصفات المقترحة.
من حيث المبدأ أود أن أشير إلى ثلاث ملاحظات مبدئية في ضوء إشارة الدكتور زيني حول اقتصاد السوق الحر ودفاعه الشديد عنه واعتبار الاقتصاد الاشتراكي في الإنتاج قد فشل, إذ كتب ما يلي:
"وغني عن القول أن الاقتصاد الاشتراكي، بخصوص عمليات الإنتاج، فشل في جميع أنحاء العالم، ناهيك عن العراق، وأصبح الآن ضرورياً تفكيك معظم القطاع العام الفاشل، وفسح المجال أمام القطاع الخاص للقيام بمهمة الإنتاج." (راجع الحلقة الثالثة من دراسة خارطة الطريق). وتتلخص ملاحظاتي بما يلي:
1. إن الرأسمالية ليست نهاية التاريخ ولا يمكن أن تكون كذلك. وحين أصدر فرنسيس فوكوياما كتابه الشهير "نهاية التاريخ وخاتم البشر" (مركز الأهرام, القاهرة 1993) في إشارة منه لفشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وبقية دول أوروبا الشرقية واعتبار ذلك انتصاراً حاسماً للرأسمالية وللفكر الرأسمالي على الفكر الاشتراكي, وأن ليس هناك من نظام آخر غير النظام الرأسمالي الديمقراطي فهو نهاية التاريخ ولا تاريخ بعده. ولكن سرعان ما اضطر فوكوياما تحت ضغط الواقع والرؤية الموضوعية لجدلية الحياة والتحولات الاجتماعية وحركة التاريخ إلى التراجع عن تلك النظرية المتعجلة واعترف بخطأ مقولته غير العلمية. وعليه فأن الرأسمالية ليست نهاية التاريخ, بل سيبقى المجتمع البشري يناضل من أجل تحقيق حلم الإنسان وهدفه الرفيع في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية, بغض النظر عن التسمية.
2 . إن سقوط النظم الاشتراكية التي كانت قائمة في الواقع لا يعني في الجوهر: ** إن الفكر الاشتراكي أو فكرة العدالة الاجتماعية سقطت بسقوط تلك التجارب التي شهدها القرن العشرين من جهة, وإن سقوط تلك النظم السياسية وتجاربها لا يعني بأي حال انتصار الفكر الرأسمالي على الفكر الاشتراكي, أو الرأسمالية على الاشتراكية, بل هو سقوط لتلك النظم السياسية التي لم تستطع بناء الاشتراكية لأسباب موضوعية وذاتية. ويمكن الإشارة هنا وبسرعة إلى اقتصاديات ومجتمعات روسيا القيصرية وفي ما بعد دول أوروبا الشرقية والصين الشعبية وكوبا وكذلك الوعي الاجتماعي العام لم تكن ناضجة ولا تمتلك القاعدة المادية لبناء الاشتراكية. يضاف إلى ذلك الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها تلك النظم في الموقف من الحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان, وفرض سياسات وإجراءات لا تتناغم مع القوانين الاقتصادية الموضوعيةو إضافة إلى تفاقم البيروقراطية والهيمنة الحزبية وغياب التعددية الفكرية والسياسية وانتشار الفساد الذي ساد هذه البلدان .. الخ. وقد نتج عن كل ذلك تلك الثمار المرة, إذ نشأت عنها تلك النظم السياسية ذات النهج الشمولي التي فقدت تدريجاً القيم الإنسانية التي بدأت بها ثورة أكتوبر في العام 1917 وسعت لتطبيقها. وهو ما حصل أيضاً بالنسبة للنظم الديمقراطية الشعبية التي أقيمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية في أوروبا الشرقية والصين وكوريا وكوبا, وهي التي أودت بتلك النظم, أي الخراب الداخلي بشكل خاص.
3 . إن اقتصاد السوق الحر في مرحلة العولمة الرأسمالية الجارية وممارسة سياسة اللبرالية الجديدة وفي ظل سياسات المحافظين الجدد قد قاد إلى عواقب وخيمة في الدول الرأسمالية المتطورة, دعْ عنك العواقب السلبية لذلك على الدول النامية. وابرز تلك العواقب ليست الأزمات الاقتصادية الدورية ولا الأزمات العامة والبنيوية التي أصابت حتى الآن النظام الرأسمالي العالمي فحسب, بل في استمرار حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية التي عمقت دون انقطاع التناقضات الاجتماعية والمقترنة بمجموعة من الظواهر الملازمة لفعل تلك القوانين والتي هي نتاج التفاوت في مستويات التطور العلمي والتقني والإنتاج والإنتاجية في البلدان المختلفة وبسبب التباين بين مستويات تطور القطاعات الاقتصادية في ضوء حركة وفعل "قانون التطور المتفاوت" للرأسمالية, وكذلك بسبب تفاقم الفجوة في مستويات الدخل والمعيشة وظروف العمل والحياة بين طبقات وفئات المجتمع نتيجة حركة وفعل قانون القيمة وبقية القوانين الاقتصادية للرأسمالية. ونظرة واحدة على تقارير البنك الدولي وتقارير التنمية الدولية تمنح المتتبع معرفة دقيقة عن سعة الفجوة بين معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكية أو في غيرها من الدول المتقدمة ومعدله في القسم الأكبر من الدول النامية. يضاف إلى ذلك تفاقم البطالة المكشوفة وجيش العاطلين وتفاقم المضاربات المالية على حساب المجتمع والاقتصاديات الوطنية للشعوب الأخرى.
لقد أشرت إلى هذه الملاحظات لا لإقناع الدكتور محمد علي زيني بسوءات النظام الرأسمالي, فهو كاقتصادي وباحث علمي يعرف ذلك جيداً, بل لمن يعتقد بأن الرأسمالية هي الخيار الأول والأخير لشعوب الدول النامية, ومنها العراق, وبأمل أن لا نرتكب خطأ الاعتقاد بأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ لشعوب العالم, فهي ليست كذلك. ولكنها هي الخيار الراهن ولفترة غير قصيرة. وإذا ما ابتعدنا عن هذه الموضوعة, عندها يمكن البحث في موضوع اقتصاد السوق بالنسبة للدول النامية, وبالنسبة للعراق أيضاً باعتباره مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي.
كلنا يعرف بأن اقتصاد السوق له قوانينه الاقتصادية الموضوعية التي تنطلق من طبيعة علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تتميز بها وتسود في مجتمعاتها وتتحكم بتطورها, وهي من حيث المبدأ واحدة على الصعيد العالمي وفعلها ونتائج فعلها من حيث المبدأ ومن حيث الوجهة العامة واحدة, ولكن حركة وفعل ونتائج فعل هذه القوانين ترتبط بشكل ملموس مع مستوى تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية في هذا البلد أو ذاك وطبيعة السياسات التي تمارسها كل دولة, إضافة إلى مستوى تطور حركة النضال الشعبي في الدفاع عن مصالح الشعب في مواجهة رغبة تشديد الاستغلال لدى الطبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج, المالكة لرأس المال. فقانون فائض القيمة هو القانون الأساسي والرئيسي المتحكم في النظام الرأسمالي, ولكنه يعمل مع مجموعة كبيرة من القوانين الاقتصادية الموضوعية الأخرى, وهي علاقة جدلية ناشئة عن العلاقة القائمة بين العمل ورأس المال, أي بين العامل, الذي يبيع قوة عمله لصاحب رأس المال ليستخدمها في إنتاج السلع المادية والروحية, وبين البرجوازي المالك لرأس المال الذي يشتري قوة العمل في سوق العمل لتنتج له السلع المادية والروحية التي تنتج عبر عملية الإنتاج السلع المادية التي تتضمن مكونات الإنتاج, الأجر وتكاليف وسائل الإنتاج وفائض القيمة. القيمة الزائدة التي أنتجها العمل الأجير والتي لا تعود لمنتجها بل تصبح من نصيب صاحب رأس المال هي الجزء المغني للثروة الوطنية. ففعل هذا القانون واحد في جميع الدول التي يسودها النظام الرأسمالي ويتسبب في حصول الاستغلال عند تقسيم الدخل القومي بين الأجر وفائض القيمة (الربح والفائدة والريع). وكذا الحال مع بقية القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية. إنها تشكل الثروة الجديدة المضافة لثروة المجتمع التي تنشأ بفعل عمل المنتجين. أين يبرز الاختلاف ما دمنا نتحدث عن الفعل الواحد للقوانين الاقتصادية في الرأسمالية؟
الاختلاف في فعل القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية يبرز لأسباب أربعة:
1) بسبب التباين الكبير بين مستوى تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الاتحادية مثلاً من جهة, ومستوى تطور هذه العلاقات الإنتاجية في دول مثل العراق وسوريا والمغرب على سبيل المثال لا الحصر, من جهة ثانية.
2) وبسبب طبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتشريعات التي تضعها النظم السياسية الحاكمة المعبرة عن مصالح مالكي وسائل الإنتاج أو رأس المال.
3) وبسبب قوة أو ضعف الحركة النقابية والعمالية والحركة المطلبية لمنتجي الخيرات المادية والروحية وقدرتها على خلق توازن معين أو ميل لصالحها أو تعجز عن ذلك فيكون الميل لصالح أصحاب رؤوس الأموال. إنها التناقض والصراع بين العمل ورأس المال.
4) بسبب التباين في النظم السياسية التي تقود هذه البلدان, هل هي ديمقراطية ودستورية أم اتسبدادية تغيب عنها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
أشرت إلى إن الرأسمالية واحدة من حيث الجوهر ولكن عند تطبيقها في الدول المختلفة تظهر للمتتبع إن المسألة ليست ذات لون رمادي واحدٍ بل هي ذات ألوان عدة, يمكن للشعب والمشرع أو الحكم اختيار اللون الذي يناسب مستوى تطور هذا البلد أو ذاك, أي على وفق المرحلة التي تمر بها البلاد. وللتدليل على صواب ما أقول حول التفاوت في النظم السياسية للرأسمالية, وإنها في الواقع العملي ليست بلون واحد أورد المثال التالي: دول المحور الثلاث (ألمانيا وإيطاليا واليابان) التي شاركت في الحرب العالمية الثانية سادت فيها العلاقات الإنتاجية الرأسمالية, وكانت النظم السياسية السائدة فيها نازية وفاشية وعسكرية على التوالي. وفي المقابل سادت في معسكر الحلفاء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية أيضاً مثل بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها وكانت كلها نظماً سياسية ديمقراطية, إضافة إلى التحاق الاتحاد السوفييتي بها بعد بدء ألمانيا الهتلرية بغزو الأراضي السوفييتية.
ومن هنا فالتعامل مع اقتصاد السوق يفترض أن يختلف من بلد إلى آخر على وفق السياسة الاقتصادية للبلد المعني. فالعراق الذي يعاني من التخلف والتبعية الاقتصادية في مجمل العملية الاقتصادية, عملية إعادة الإنتاج, ويعتمد على الصادرات النفطية في تكوين القسم الأعظم من دخله القومي وعلى صرف القسم الأكبر من هذا الدخل على أغراض الاستيراد السلعي والخدمي لإشباع حاجات المجتمع, يفترض أن يختلف في تعامله مع اقتصاد السوق وآلياته وقوانينه عن بلد آخر مثل بريطانيا أو ألمانيا الاتحادية أو الولايات المتحدة أو غيرها. ولهذا, وبما أن العراق لا بد له أن يختار اقتصاد السوق في هذه المرحلة من تطوره الاقتصادي والاجتماعي ومستلزمات نهوضه موضوعياً, كما أرى, فإن عليه أن يحدد بشكل دقيق ماذا يريد من اقتصاد السوق وما هو اللون الذي يفترض فيه أن يستقر عليه ويستفيد منه لصالح تعجيل تطوره ولفترة غير قصيرة. وهذا الأمر لا يمس العراق فحسب, بل يمس جميع الدول النامية التي تجد نفسها في وضع مقارب للعراق أو إنها تحتلُ مواقع متخلفة على التخوم (المحيط) إذ إنها ستبقى طويلاً في إطار تقسيم العمل الاجتماعي الرأسمالي الدولي وتدور حول أو في فلك الدول الرأسمالية المتقدمة, المراكز الرأسمالية الثلاثة, الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان, التي يمكن أن تتسع في الفترة القادمة لتضم إليها الصين وروسيا مثلاً. وسيحتاج العراق سنوات طويلة للخروج من هذا الموقع المختل وسياسات أخرى غير التي تمارس اليوم وقوى أخرى غير التي تحكم اليوم.
وإذ نتفق جميعاً بأن العراق, كما هو حال أغلب البلدان النامية, بلد متخلف اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً وبيئياً, إضافة إلى كونه يعاني من علل نفسية عديدة نشأت عن معاناة طويلة الأمد تحت وطأة الاستبداد الشمولي والقمع والقسوة والحروب والحصار الدولي ومن ثم الخوف الدائم من الموت المتربص بالإنسان العراقي حتى الآن بسبب المحاصصة الطائفية والإرهاب والصراعات على المناصب والفساد السائد, كما لم يصل إليه التنوير الديني والاجتماعي والثقافي وتعشش فيه الأمية بنسبة عالية وخاصة بين النساء, رغم أن فيه الكثير من المثقفين والكوادر الفنية والعلمية المتخصصة والمتقدمة. ولا شك في أن القارئة والقارئ يميزان بين هاتين المسألتين.
وعليه فأن المهمة التي تواجه المجتمع هي حشد كل الطاقات والإمكانيات المتوفرة والكامنة الداخلية منها والخارجية لتنظيم وبرمجة عملية الخلاص من هذا التخلف الفكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتنويري ..الخ الذي تعرض له الدكتور زيني بشكل واضح وسليم.
إلا إن الخلاص من هذا الواقع يتطلب منا جميعاً رؤية واقعية تكشف عن المشكلات التي يواجهها العراق في المرحلة الراهنة بصورة ملموسة والتي هي نتيجة تراكمات السياسات الاقتصادية والاجتماعية السابقة والحالية. وبسبب تلك التراكمات والواقع الراهن ارتد العراق على مدى العقود الخمسة المنصرمة صوب العلاقات العشائرية وعاداتها وتقاليدها لا في الريف فحسب, بل وفي المدينة وفي علاقات النظام السياسي أو نظام الحكم البعثي الصدَّامي بشكل خاص مع المجتمع, كما تم التراجع عن الإصلاح الزراعي الديمقراطي الذي سن في العام 1958 واستكمل في العام 1970, فعادت علاقات الملكية الكبيرة إلى الريف وعاد كبار الملاكين إلى ممارسة دورهم القديم مقترناً بكونهم شيوخ عشائر أيضاً. ماذا يعني ذلك؟ إن هذا يعني بوضوح إن أمام المجتمع مهمة التخلص من بقايا العلاقات ما قبل الرأسمالية في الريف وتداعياتها وتجلياتها في علاقات المدينة وخاصة في المناطق التي بنيت عشوائياً والتي امتلأت بالفلاحين الفقراء الذين نزحوا من الريف والزراعة إلى المدنية وعاشوا على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية, والكثير من شبيبتهم قد جند في الجيش أو أجهزة الأمن والمخابرات والشرطة والحرس الجمهوري في فترة حكم البعث وما بعدها أيضاً. كما تعني هذه المهمة إقامة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية, أي الأخذ باقتصاد السوق. وهذا يعني بالضرورة, ولكي لا نفهم خطأ, إن العراق لا يقف اليوم أمام مهمة بناء اشتراكي بأي حال, بل هو أمام تنمية اقتصادية مستدامة ما تزال وستبقى لفترة طويلة أمام مهمة بناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية. وإذا كان هذا الرأي صحيحاً, وهو ما أشار إليه الزميل الدكتور زيني, فأين هو الاختلاف؟ أي ماذا يعني اقتصاد السوق في ظروف وأوضاع بلدان مثل العراق, أو أي اقتصاد سوق يفترض أن يسعى إليه العراق في المرحلة الراهنة.
أود هنا أن أؤكد رأيي الذي أشرت إليه في مقالات سابقة بأن جمهرة كبيرة من اقتصاديي العراق, وأنا أحدهم, قد انقسمنا في الماضي إلى مجموعتين, إحداهما كانت, وربما ما تزال, تدعو إلى اقتصاد يقترب في ملامحه من الاقتصاد الذي ساد في الدول الاشتراكية, والأخرى كانت, وربما ما تزال حتى الآن, تدعو إلى اقتصاد يقترب من ملامح الاقتصاد الرأسمالي في بريطانيا والولايات المتحدة. وكلانا كان على خطأ كبير, إذ أن النموذجين كانا لا يعبران عن واقع الحال في العراق ولا عن إمكانيات تنفيذ أحد النموذجين ولا يتناغمان مع واقع وإمكانيات وحاجات البلاد. ولكن كانت هناك مجموعة من الاقتصاديين التي كانت لها رؤية واقعية حول سبل تنمية وتطوير الاقتصاد والمجتمع في العراق.
نحن بحاجة إلى تجاوز الواقع المتخلف وبناء اقتصاد عراقي يمتلك ديناميكية ذاتية أو داخلية للتطور. وهذا ممكن من خلال إحلال العلاقات الإنتاجية الرأسمالية محل العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية التي ما تزال قائمة في العراق ولكن مع اختلاف في البعض من تلك المواصفات التي يطرحها السيد الدكتور زيني. فلو نظرنا إلى ما يسعى إليه الدكتور زيني سنجد إنه يدعو إلى اقتصاد سوق يعتمد كلية على القطاع الخاص ويلغي كلية دور قطاع الدولة في عملية التصنيع التحويلية وأن يكتفي بدور "المراقب" مرة و "الحكم" مرة أخرى, كما يريد انفتاحاً تجارياً كاملاً على الأسواق العالمية ومنافسة تامة مع تلك الأسواق التي تعني في ظروف العراق الملموسة تهيئة التابوت للصناعة الوطنية التحويلية, كما يدعو إلى فتح الأبواب أمام رؤوس الأموال الأجنبية بشكل تام على وفق ما جاء في الدراسة, دون توجيهها صوب قطاعات بعينها يحتاجها العراق أكثر من غيرها ووفق قواعد وشروط معينة. إنه يدعو إلى الانفتاح الاقتصادي الكامل الذي, كما أرى, سيغلق الأبواب بوجه التطور الاقتصادي, وخاصة الصناعة الوطنية, وسيرفع من حجم البطالة ويزيد من جيش العاطلين عن العمل, خاصة وأن معدلات النمو السكانية هي أعلى من معدلات نمو الإنتاج. إن دعوته للتصنيع المحلي لإغراض التصدير سوف تصطدم مباشرة مع سياسة الانفتاح الاقتصادي والتجاري الكاملين على العالم, أي الانفتاح على الاستيراد والبقاء في إطار تصدير النفط عملياً رغم إنه لم يقل ذلك صراحة بل هي حصيلة الوجهة التي يقترحها, إذ إنها ستقود أكثر فأكثر إلى ذلك, شاء الإنسان أم أبى, رغم دعوة الزميل زيني المهمة والواضحة والمتكررة لتطوير الاقتصاد الوطني وتصنيع العراق وتنويع مصادر الدخل القومي.
التكملة في الحلقة الثالثة.
22/5/2011 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟