|
شبح اللانهاية
هشام غصيب
الحوار المتمدن-العدد: 3371 - 2011 / 5 / 20 - 16:12
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
في القرن السادس عشر،وضع الفلكي البولندي،نيكولاس كوبرنيكوس، لغمًا، بدا صغيراً للوهلة الأولى، في قلب العلم القديم، الذي ارتبط بصورة أساسية باسمي ارسطوطاليس وبطلميوس الإغريقيين. وفي بادئ الأمر، ظن بعض الناس أن فكرة كوبرنيكوس مجرد نكتة سمجة أطلقها مجنون في عزلته. وظن آخرون أنها مجرد حيلة رياضية تسّهل عمليات الحساب الفلكية لكنها لا تمت بصلة إلى الواقع الكوني. واعتقد فريق آخر أنها اضعف من أن تؤخذ على محمل الجد لغياب الدلائل المقنعة عليها. ولكن، هل كان الأمر كذلك بالفعل؟ فلندقق النظر في أنموذج كوبرنيكوس وندرج انجازاته وصعوباته. ولنبدأ بالانجازات: أولاً، لقد أفلح كوبرنيكوس في بناء أنموذج فلكي شامل ودقيق ومتكامل ولا يقل بهاءً وتفصيلاً عن نظام بطلميوس الفلكي، بل ولا يقل دقة وقدرة على تفسير الرصدات والتنبؤ بها عنه. وبهذا المعنى، فقد أفلح كوبرنيكوس في خلق أنموذج بديل للأنموذج القديم الذي ساد لألف وأربعمائة عام خلت. ثانياً، يمكن القول إن نظرية كوبرنيكوس كانت اقوى من نظرية بطلميوس في تفسير البُنى والانتظامات الفلكية. وبصورة خاصة فقد استطاعت تفسير علاقات وانتظامات فلكية بدت مجرد افتراضات اعتباطية غير مبررة في نظرية بطلميوس. كذلك، فان تفسيراتها للظاهرات الفلكية بصورة عامة كانت طبيعية أكثر من نظيراتها البطلمية وأكثر انسجاماً مع المنطق الفيزيائي. ثالثاً، كانت نظرية كوبرنيكوس أكثر ترابطاً وتجانساً وتكاملاً في بنائها النظري من نظرية بطلميوس. ومن ثم، فقد كانت أقرب إلى كونها نظامًا متماسكاً من نظيرتها البطلمية. كذلك، فإن الكميات الأساسية فيها كانت على درجة أعلى من التحديد من نظيرتها البطلمية، وبخاصة أبعاد الكواكب عن الشمس وأزمانها. رابعاً، استطاعت أن تختزل عدداً كبيراً من حركات الأجرام السماوية إلى ثلاث حركات فقط للأرض، هي حركتها حول نفسها، وحركة محورها حول محور ثابت، وحركتها حول الشمس. ومثل هذا الاقتصاد في الوصف هو نقطة قوة في أي نظرية علمية. لكن صعوبات مهمة جابهت نظرية كوبرنيكوس. وفي مقدمتها: أولاً، لم تحقق هذه النظرية دقة في الوصف والتنبؤ أكبر من نظيرتها البطلمية. ثانياً، لم تستطع نظرية كوبرنيكوس أن تتخلص من الأدوات الرياضية البطلمية، التي سبق لكوبرنيكوس أن عبر عن تبرمه بها وأن عزا تهافت أنموذج بطلميوس إليها. إذ اضطر كوبرنيكوس إلى استعمالها وإعادة إنتاجها من أجل تحقيق درجة كافية من الدقة لأنموذجه. من ثم، فقد اضطر إلى إعادة إدخال عناصر التعقيد في أنموذجه والتي سعى أصلاً وحثيثا إلى إزالتها واستئصالها. أي إنه أوقع أنموذجه في تناقض ممض بين القديم والحديث لم يفلح في الخروج منه بتاتاً. وظل هذا التناقض مصدر توتر شديد في أوساط الكوبرنيكيين ( أنصار نظرية كوبرنيكوس) وأساساً قويا للتشكيك في صحة هذه النظرية حتى تمكن الفلكي الألماني، يوهانس كبلر (1571-1630)، من حله وتخطيه في الثلث الأول من القرن السابع عشر. ثالثاً، من الصعوبات الجمة التي جابهت نظرية كوبرنيكوس أنها كانت تناقض بصورة جلية الحواس ونظرية المادة والحركة السائدة والطاغية، أعني نظرية ارسطوطاليس. وبالطبع، فإنها لم تقدم، وما كان من الممكن لها أن تقدم، نظرية في المادة والحركة بديلة لنظرية أرسطو تشكل قاعدة صلبة لها. فمثل هذه الميكانيكا البديلة احتاجت إلى عبقرية غاليليو غاليلي (1564-1642) لكي تتبلر. رابعاً، استلزمت نظرية كوبرنيكوس أن تعاني النجوم إزاحات بالنسبة إلى المشاهد إذ تتحرك الأرض من أقصى مسارها حول الشمس إلى أقصاه. لكن أدق الرصدات آنذاك عجزت عن الكشف عن مثل هذه الإزاحات. لماذا لم تبد النجوم مثل تلك الإزاحات؟ كانت هناك إجابتان ممكنتان. فإما أن تكون الأرض غير متحركة، أي أن تكون نظرية كوبرنيكوس خاطئة، وإما أن تكون النجوم ابعد بعشرات الآلاف من المرات عما كان يظن، أو حتى يتخيل، سابقاً. وبالطبع، فإن الرأي العام العلمي واللاهوتي آنذاك لم يكن في جله مستعداً لتقبل هذه الفكرة المرعبة. لذلك عدّوا غياب هذه الإزاحات دليلاً على بطلان نظرية كوبرنيكوس. أما القلة القليلة التي كانت تناصر كوبرنيكوس، فقد اضطرت إلى اعتبار الكون أضخم مما كان يظن سابقاً بأكثر من عشرين ألف مرة على الأقل. بل وبدأ بعضهم يلمح إلى إمكانية أن يكون الكون لانهائياً، إحياءً لفكرة قديمة كانت مطروحة على استيحاء وظلت مهمشة في الثقافة العالمية لأكثر من ألف عام. لقد فتح أنموذج كوبرنيكوس نافذة صغيرة تطل على الطريق إلى اللانهاية، إلى الكون اللانهائي. فلئن تضخم الكون على يدي كوبرنيكوس فجأة أكثر من عشرين ألف مرة، فلا عجب أن عُدّ أنموذج كوبرنيكوس انفتاحاً على اللانهاية الفعلية، تلك اللانهاية التي دبّت الرعب لاحقا في قلب الفيلسوف والرياضي الفرنسي، بليز باسكال، الذي تكلم في كتابه، “الأفكار”، عن اللانهايتين: اللانهاية الكبرى واللانهاية الصغرى، بتأثير مجريات الثورة العلمية الكبرى. والجدير بالذكر أن إزاحات النجوم بفعل حركة الأرض حول الشمس لم يفلح العلم في الكشف عنها إلا منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر بفضل تطور تقانة التلسكوبات. وكانت نتيجة ذلك كله أن رفض جل فلكيي ذلك العصر نظرية كوبرنيكوس، عقب موته. لكن بعضهم أدرك نقاط القوة الرياضية في تلك النظرية فاتبعوها في حساباتهم الفلكية وفي وضع الأزياج، أي القوائم التي تبين مواضع الأجرام السماوية وتغيراتها، من دون أن يلتزموا بأفكارها الفيزيائية والكونية، بل مع الإعلان عن رفضها في كثير من الأحيان. لكن نظرية كوبرنيكوس كانت تزخر بالمنطويات الكونية والفيزيائية اللاهوتية والثقافية الخطيرة. وقد حالت صعوبتها الرياضية دون إدراك تلك المنطويات على الفور. وبرغم أن الكنائس البروتستانتية شجبتها مبكراً، إلا أن الكنيسة الرئيسية في أوروبا، الكنيسة الكاثوليكية، لم تتنبه إلى خطورتها ولم تحظر تداولها إلا بعد عام 1616. وقد تأخرت هذه النظرية وأفكارها الثورية في التسرب إلى خارج الأوساط الفلكية بفضل صعوبتها الرياضية. ولكن، ما إن شارف القرن السادس عشر على الانتهاء حتى أخذت تتغلغل في الرأي العام الأوروبي، بما في ذلك الأوساط الفلسفية واللاهوتية والأدبية، مثيرة عاصفة من الجدال الحامي ومعركة فكرية وثقافية حامية الوطيس انتهت بفوزها الساحق على قوى النقل وطغيان النص، برغم ما تعرض له مناصروها من اضطهاد وقمع. ولكن، ما هي هذه المنطويات التي أثارت هذا البركان الفكري الذي لم يخبُ سعيره حتى هذه اللحظة؟ أولاً، لقد نفخ كوبرنيكوس كون أرسطو المحدود عشرات الآلاف من المرات دفعة واحدة، موحياً بأن الكون قد يكون لانهائي الاتساع. وهذا بالضبط ما استوحاه كل من الإنجليزي، توماس ديغز (عام 1567)، والراهب الإيطالي الناري، جيوردانو برونو (1548-1600). وبصورة خاصة، فقد دمج برونو أنموذج كوبرنيكوس بالنظرية الذرية الإغريقية (لوكيبوس وديموقريطس وأبيقور ولوكريشس) ليخلص إلى القول إن الكون لانهائي الاتساع، وإنه يزخر بعدد لانهائي من الشموس والمجوعات الشمسية، وإن النجوم الثابتة ما هي إلا شموس كشمسنا، وإن هناك عدداً هائلاً من الكواكب الشبيهة بالأرض والتي تدب عليها الحياة. وهذا ما أعلنه برونو بجلاء عام 1584. وقد قرن هذه الأفكار الثورية بتصوره للذات الإلهية. إذ رأى أن الله هو طاقة خلاقة لانهائية لا ترضى بغير هذا الكون اللانهائي الزاخر بالحياة. ثانياً، في النظام الكوني القديم، نظام أرسطو وبطلميوس، كان يظن أن النجوم تدور كلها بالسرعة ذاتها حول الأرض ولا تتحرك بالنسبة إلى بعضها بعضاً. لذلك برزت فكرة أنها جميعاً تقع على كرة بلورية ضخمة تدور بحركة دائرية منتظمة حول الأرض. أما كوبرنيكوس فقد عزا هذه الحركة إلى الأرض، ومن ثم عد النجوم ثابتة بالنسبة إلى بعضها بعضا وبالنسبة إلى الشمس. لذلك لم يعد من الضروري في نظامه أن تكون النجوم كلها على بعد واحد من الأرض وان تقع على كرة بلورية واحدة، وإنما أوحت نظرية كوبرنيكوس أن النجوم مبعثرة على أبعاد متباينة عن الأرض في المكان الثلاثي الأبعاد. وهو الإيحاء الذي تبناه كل من ديغز وبرونو. ثالثاً، لقد رفع كوبرنيكوس الأرض إلى السماء وأنزل السماء إلى الأرض. إذ إنه أزاح الأرض من المركز الصلب الثابت المفترض للكون فجعلها مجرد كوكب يدور حول الشمس كغيرها من الكواكب. بذلك أزال كوبرنيكوس الفاصل النوعي بين السماوات والأرض، والذي ظل قائماً منذ بدء الحضارة البشرية وحتى القرن السادس عشر، ومن ثم أزال الفاصل النوعي بين قوانين السماء وقوانين الأرض. فوضع مهمة كبرى أمام عصره والعصور التالية: كيف نوحد بين قوانين السماء وقوانين الأرض؟ ما هي القوانين الكونية التي تحكم الكون الواحد الموحد؟ وهذا ما انبرى للإجابة عنه من خلفه من العلماء الكبار: تايكو وكبلر وغاليليو وغلبرت وديكارت وهويغنز وبوريلي وهوك ونيوتن. فبإعلانه أن الأرض تنتمي إلى السماء ألقى كوبرنيكوس ظلال الشك الكثيفة على نظرية أرسطو في الكون والمادة والحركة. رابعاً، إن نظرية كوبرنيكوس لا تقوم لها قائمة إلا إذا افترضنا أن الأحداث الطبيعية على سطح الأرض تحدث وكأن الأرض ساكنة. من ثم، فإن نظرية كوبرنيكوس تومئ بشدة صوب مبدأ النسبية ومبدأ القصور الذاتي، أي صوب فيزياء جديدة تقوم على هذين المبدأين. وهذا بالضبط ما انبرى لاكتشافه غاليليو وديكارت ونيوتن تحديداً. والحق أن الثورة العلمية الكبرى لم تكن سوى بلورة ما انطوت عليه نظرية كوبرنيكوس وما اوحت به من أفكار جديدة.
#هشام_غصيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الماركسية هي نقيض الصهيونية
-
دفاعاً عن الماركسية
-
لغز الكتلة
-
محنة المادية اليوم
-
فجر العقل الجدلي
-
من فلسفة الثورة إلى علم الثورة
-
نحن وعقيدة التنوير
-
المكان بوصفه مادة
-
تميز العقلانية المادية
-
مشروعنا الفلسفي
-
هندسة ريمان
-
المعزى التاريخي للحضارة العربية الإسلامية
-
من الفلسفة إلى علم الإنسان
-
فلسفة ماركس
-
سمير أمين مستغرباً
-
هشام غصيب في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: من الثورة ا
...
-
جدل العلم والثورة
-
الفلسفة والجماهير
-
الشيوعية وفخ الوجودية
-
المغزى النهضوي للفلسفة
المزيد.....
-
استأنفت نيابة العبور على قرار إخلاء سبيل عمال شركة “تي أند س
...
-
استمرار إضراب عمال “سيراميك اينوفا” لليوم السابع
-
جنح مستأنف الخانكةترفض استئناف النيابة وتؤيد قرار إخلاء سبيل
...
-
إخلاء سبيل شباب وأطفال المطرية في قضية “حادث الاستثمار”
-
إضراب عمال “النساجون الشرقيون”
-
تسعة شهور من الحبس الاحتياطي.. والتهمة “بانر فلسطين”
-
العدد 590 من جريدة النهج الديمقراطي
-
اليمين المتطرف يحتفل برحيل أونروا من إسرائيل
-
الفصائل الفلسطينية تفرج عن دفعة جديدة من الأسرى بينهم أربيل
...
-
تسع خطوات عاجلة لـ 10 نقابات مهنية مصرية ضد تهجير ترامب للفل
...
المزيد.....
-
الذكرى 106 لاغتيال روزا لوكسمبورغ روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثور
...
/ فرانسوا فيركامن
-
التحولات التكتونية في العلاقات العالمية تثير انفجارات بركاني
...
/ خورخي مارتن
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
المزيد.....
|