|
!تكريم وزير .. تحت الكوبرى
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1004 - 2004 / 11 / 1 - 05:31
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
اصبح من ثوابت " الثقافة " المصرية ان الوزير الذى " يغادر " كرسى السلطة سرعان من ينزوى فى دائرة النسيان وتنحسر عنه الأضواء وينفض عنه " الأصدقاء " الذين كانوا يحرقون له البخور بالامس القريب ويتكالبون على التودد اليه والتقرب منه والتزلف له بمناسبة ودون مناسبة . وعلى الأرجح فان العيب ليس فقط فى هذه النوعية الرديئة والانتهازية من البشر ، وانما العيب أيضا على ما يبدو فى " تعاقب " السلطة وليس "تداولها "، حيث تلد الحكومات بعضها البعض من نفس " النادى " ، وحيث ياتى الوزير ويذهب دون ان يكون للناس رأى فى الاستعانة به او الاستغناء عن خدماته ، وحيث لا " يترك" أحد كرسى السلطة وانما "يزاح" عنه بعد ان يكون قد التصق به سنوات طوال فى اغلب الأحيان. وما عليكم سوى ان تحاولوا تذكر أسماء الوزراء الذين خرحوا من دست الحكم بعد ان قضوا فيه سنوات أطول من ليل المريض .. وستجدون ان معظم هذه الأسماء قد فقدت بريقها الذى كانت تستمده فقط من المصابيح المسلطة على كراسى الجاه والسلطان . لكن لكل قاعدة استثناء .. والدكتور حسين كامل بهاء الدين من هذه الاستثناءات النادرة . فرغم ان الرجل خرج فى التعديل الوزارى الأخير .. فان عدداً من كبار المثقفين المصريين حرص على تكريمه . وجاء التكريم فريداً واستثنائياً هو الآخر . ولعلها هى المرة الأولي التى يتم فيها تكريم وزير تحت كوبرى! لكن هذا ما حدث.. حيث رفض الدكتور بهاء الدين ان يجرى تكريمه فى جهة رسمية او فى أحد فنادق الخمس نجوم . وكان الحل فى " ساقية الصاوى " التى تقع اسفل كوبرى 6 أكتوبر بالزمالك . فى هذا المكان البسيط – الذى ربما يرفض صغار كبار الموظفين الجلوس فيه- استقبل وزير التربية والتعليم السابق المثقفون الذين جاءوا ليحتفلوا به بعد خروجه من الحكومة . قال الدكتور يحيى الجمل أستاذ القانون المرموق والوزير السابق ان حسين كامل بهاء الدين يتميز بثلاث سمات : الجدية ، وعفة اللسان وعفة اليد . وهى تبدو خصالاً عادية لكنها أصبحت عزيزة فى هذا الزمن الوغد . نقيب نقباء الصحفيين ، شيخنا وعمنا كامل زهيرى ، صال وجال – كعادته – فى الزمان والمكان وعقد مقارنات بين حسين كامل بهاء الدين وبين طه حسين ، ثم كشف النقاب عن وقائع غير معروفة عن وزير التربية والتعليم السابق ، من بينها دوره فى الكفاح الوطنى ضد العدوان الثلاثى عام 1956 ، حيث شارك فى المقاومة الشعبية فى بورسعيد . أستاذ الأدب العربى الدكتور حسين نصار أعاد الى الأذهان دور الدكتور بهاء الدين ، إبان دمج التربية والتعليم مع التعليم العالى ، ودفاعه عن استمرار الأستاذ الجامعى فى العمل بعد سن الستين . وهو الأمر الذى تم تقييده بعد ذلك بالقانون 82 الذى أطلق عليه البعض اسم مذبحة الأساتذة ، على غرار مذبحة الصحفيين والقضاة فى الستينيات والسبعينيات . العالم الكبير الدكتور احمد مستجير .. أشاد بكتاب الوزير " فى مفترق الطرق " وقال انه بعد ان فرغ من قراءته كتب عنه مقالاً ضافياً لكنه وضعه فى الأدراج (وأحجم عن نشره خشية من مظنة نفاق الوزير) . أضاف ان الدكتور بهاء الدين اتصل به أثناء تأليفه للكتاب لتوثيق فقرة متعلقة بالوراثة . وهذا فى رأيه سلوك غير مألوف للوزراء الذين يتصرفون وكأنهم الأعلم بكل شئ . الكاتبة المتألقة إقبال بركة اعترفت بانه يصعب عليها حب أحد ومع ذلك فانها وقعت فى حب الدكتور حسين كامل بهاء الدين ، وقالت انه يكفيه دوره المتقدم فى الدفاع عن مساواة البنات مع الأولاد فى شتى المراحل التعليمية ، وموقفه المستنير فيما يتعلق بقضية الحجاب ، وهو موقف كان الوزير فيه سباقاً على فرنسا بجلال قدرها . الدكتور احمد مرسى امتدح الوزير بالشكوى منه إليه .. لانه هو الذى أقنعه بالعودة الى مصر بعد ان كان قد قرر الإقامة خارجها وتلبية عروض عمل مغرية فى أوروبا ! الأديب يوسف القعيد أسهب فى الحديث عن تفرد حسين كامل بهاء الدين بكونه من الوزراء " السياسيين" وانه صاحب أيديولوجيا ذات أبعاد اجتماعية وسياسية تتمثل فى انحيازه للفقراء ، والحفاظ على السلام الاجتماعي ، وهذا يفسر موقفه الحاد من " الدروس الخصوصية " باعتبارها إحدى المخاطر التى تهدد تماسك المجتمع ، كما تتمثل هذه الأيديولوجيا فى أيمانه العميق بالوحدة الوطنية ، وقيمة المواطنة بصرف النظر عن الدين او العقيدة ، فضلا عن أيمانه العميق بعروبة مصر ورفض التبعية لقوى الهيمنة . واختتم الأديب يوسف العقيد كلمته بالإشارة الى انه لم يكن من باب الصدفة فى رأيه ان يكون خروج الدكتور حسين كامل بهاء الدين من الحكومة بمثابة إشارة البدء لخصخصة التعليم . الدكتور مدحت الجيار .. قال ان إصلاح التعليم فى مصر شهد مرحلتين أساسيتين الأولى فى القرن التاسع عشر والثانية فى القرن العشرين . وكل مرحلة قامت على أكتاف اثنين من الرواد المصريين . المرحلة الأولى هى مرحلة رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك والثانية هى مرحلة طه حسين وكمال حسين بهاء الدين ! والدكتورة ملك زعلوك والدكتورة كامليا صبحى والأستاذة كوثر حسين أسهبن فى الحديث عن مآثر الوزير من الزاوية التربوية . وعندما طلب منى الدكتور احمد درة الحديث قلت ان لدىّ ثلاث مشاكل. الأولى هى ان الصحفيين عموماً – باستثناء كامل زهيرى – لايجيدون التعبير عن أنفسهم شفويا ، والثانية هى اننى على عكس كثير من الحاضرين لم تكن لى صلة شخصية بالوزير فى الفترة الناصرية حيث لم اكن عضواً فى الاتحاد الاشتراكي او منظمة الشباب الاشتراكي او التنظيم الطليعى ، كما لم تكن لى به صلة وظيفية أثناء توليه حقيبة التربية والتعليم . والثالثة هى أن مديح الوزراء ليس من بين هواياتى. لكن هذه المشاكل الثلاث توفر لى – فيما أظن – مساحة لكى تكون كلمتى عن الوزير أكثر موضوعية وأقل ذاتية. وباختصار فاننى أرى له ثلاث إيجابيات تستحق التسجيل والعرفان . الأولى حرصه أثناء توليه الوزارة على اقامة علاقة مستمرة بالجماعة الثقافية والفكرية. وأخذت هذه العلاقة فى الفترة الأخيرة شكلا شبه مؤسسى ، وشبه دورى ، حيث دأب على الالتقاء بكوكبة من المثقفين كان لى الشرف أن أكون بينهم فى عدد من اللقاءات التى استمع فيها الوزير إلى رأى النخبة المثقفة فى العديد من مشاكل التعليم . الإيجابية الثانية هو شجاعته الفكرية خاصة فيما يتعلق بمسألة العلاقة بين الدين والدولة . والثالثة هى إدراكه المبكر لعصر مجتمع المعرفة وضرورة لحاق مصر بهذا العصر وتنبيهه على ان التعليم هو القاطرة الأساسية للحاق بالثورة المعلوماتية ودخول مجتمع المعرفة. ورغم هذه الإيجابيات ، فضلا عن الإنجازات الكمية والكيفية التى تحققت فى مجال التعليم فى عهد حسين كمال بهاء الدين ، فان الوزير دخل الوزارة وتركها بعد 14 عاماً وقضية إصلاح التعليم تراوح مكانها وكثير من مشاكل العملية التعليمية مستمرة ، بدءاً من الأمية ومروراً بالدروس الخصوصية ووصولاً إلى المناهج والأبنية التعليمية وكثافة الفصول وأجور المدرسين الغلابة . اى أن هناك فجوة واسعة بين الخطاب وبين الواقع . ولذلك .. قلت للدكتور حسين بهاء الدين أن بعض الوزراء يستمدون قيمتهم من الكرسى الذى يجلسون عليه ، وعندما يحرمون من الكرسى يصبحون بلا أى قيمة ، وهناك وزراء آخرين قيمتهم الذاتية أكبر من المناصب والكراسى . وبدون مجاملة فانه ينتمى إلى الفئة الأخيرة . فهو مفكر .. يمكن أن تتفق أو تختلف معه .. لكنك لا تملك إلا أن تحترمه . ومن هنا فان تأملاته الآن فيما يتعلق بنجاحات وإخفاقات فترة توليه حقيبة التربية والتعليم ربما لا تكون أقل أهمية عن إنجازاته كوزير. وما يجعلنى أعول على أهمية تسجيل هذه الخبرات أن الإدارة المصرية تعانى من عيب مزمن هو الافتقار إلى التسليم والتسلم ، والتواصل الصحى بين السلف والخلف. ولا أظن أن هناك وزيراً جديداً يجلس مع سلفه ، كمالا أعتقد أن هناك وزيراً "راحلاً" حرص على الاجتماع مع الوزير الذى جلس مكانه ونقل إليه خبرته . ونتيجة لذلك نكاد ننفرد بين الأمم باستمرار نفس المشاكل رغم تعاقب السنين والمسئولين . وفى حوار أخير مع الدكتور عمرو سلامة وزير التعليم العالى ، نشرته "العالم اليوم" أمس الأول السبت ، سألت الوزير عن ذكرياته مع والده الذى كان بالصدفة وزير التعليم العالى أيضاً عام 1966 ، أى منذ 38 عاماً ، فقال لى بالنص أن هناك مشاكل بح صوت والده الدكتور عزت سلامة فى طرحها والبحث لها عن حلول ، مازالت هى نفسها تواجهه اليوم فى مطلع القرن الحادى والعشرين! المهم .. ان الدكتور حسين كامل بهاء الدين استمع الينا جميعا وفى نهاية اللقاء المنعقد تحت الكوبرى وضوضاء السيارات التى لا تتوقف حركتها عليه قال أنه سعيد بمطالبة المثقفين له بمواصلة دوره الفكرى. واهتم فى تعقيبه على الكلمات التى استمع إليها ان يركز على نقطتين : الأولى خاصة برأيه فى دور الأستاذ الجامعى بعد سن الستين، فقال ان إحالة الأستاذ الجامعى إلى التقاعد يمثل فى بعض البلدان ( ومنها الولايات المتحدة الأمريكية) جريمة وانتهاكا لحقوق الإنسان ، لأنه ليس جائزا حرمان المجتمع من خبرة العلماء بحجة الاحالة إلى المعاش. والنقطة الثانية عن مشاركته فى الحركة الوطنية فقال أنها تسبق إسهامه فى المقاومة الشعبية فى بورسعيد عام 1956 وتعود إلى أيام الطفولة حين كان يسكن فى المنيرة حيث كانت توجد معسكرات الإنجليز . وأنه ألف وهو فى سن الثانية عشرة كتيباً بعنوان "كيف نخرج الانجليز من مصر" وقام بتسليمه فعلا إلى أحد الضباط الأحرار. وقبل أن ينفض اجتماع "تحت الكوبرى" شاء الوزير وضيوفه من المثقفين ألا يكون هذا اللقاء مجرد تكريم تقليدى ، بل طرح الدكتور أحمد يوسف القرعى اقتراحاً بأن يكون جميع الحاضرين – بما فيهم الوزير – أعضاء مؤسسين لجمعية ثقافية أهلية يكون فى مقدمة اهتماماتها إصلاح التعليم .. ولم يكن هذا الاقتراح مجرد كلام أو فض مجالس ، بل ان الدكتور أحمد يوسف القرعى بدأ بالفعل اتخاذ الإجراءات القانونية لإشهار الجمعية . ولعلنا بمثل هذا المبادرات الأهلية .. نستطيع ان نتجنب ان يكرر إبن الدكتور عمرو سلامة وزير التعليم العالى ، نفس كلام والده بعد عشرين عاما ، وكلام جده الدكتور عزت سلامة بعد أكثر من نصف قرن!
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العم - ســام - .. والخالة - ســـاميـة -
-
مـدافـع رمضان .. ومدافع بوش وشـارون
-
ثلاثية الأوهام فى - رأس الشيطان -
-
ساويرس .. الآخر !
-
هل يتطوع العرب لإنقاذ رقبة بوش فى العراق؟!
-
الوطنى- وضع قدمه السياسية فى الجبس وقرر السير على ساق واحدة
-
التليفـزيون المصرى رسـب فى امتحان الحـزب الــوطنـى
-
!الحثالة السياسية
-
الوصاية الأمريكية على الدنيا .. والدين !
-
!سيادة الوطن .. واستعمار المواطن
-
- كولن باول - منافـق .. لكننا لسـنا ملائكـة
-
الطبقة السياسية اللبنانية تتنازل عن امتياز التغريد خارج السر
...
-
الحجـاب الفــرنســـى .. والنقـاب الامـريـكـى
-
-مقهى- ينافس وزارات الثقافة العربية فى فرانكفورت
-
دروس للعرب فى الإصلاح .. من أمريكا اللاتينية 3-3
-
(دروس للعرب فى الإصلاح .. من أمريكا اللاتينية (2-3
-
(دروس للعرب فى الإصلاح .. من أمريكا اللاتينية (1-3
-
الفلوس والثقافة العربية
-
يوسف بطرس غالي.. وفتوي الفتنة
-
ما هى الجريمة الكبرى التى تستدعى إطفاء أنوار العراق؟
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|