|
الرحيل من بغداد وهاجس المطاردة الأبديّة
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 3359 - 2011 / 5 / 8 - 12:40
المحور:
الادب والفن
ضمن المسابقة الرسميّة للأفلام الروائية الطويلة في الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائي اشترك المخرج العراقي قتيبة الجنابي (المقيم في لندن حالياً) بفيلمه الجديد (الرحيل من بغداد) وقد غادر فيه بعض السياقات النمطية التي عوّدنا عليها في أفلامه السابقة فبعد تجربة طويلة في التصوير الفوتوغرافي والسينمائي وإخراج عدد غير قليل من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة يلج المخرج العراقي قتيبة الجنابي عالم الفيلم الروائي الطويل ويؤسس لتجربة قد لا تبدو جديدة عليه لأنه منهمك في السينما ومنقطع إليها منذ أكثر من عقدين من الزمان. وعلى الرغم من الصعوبات الجمّة التي واجهها الجنابي سواء في جمع أحداث القصة السينمائية أو تصويرها في عدة مواقع، إلاّ أنه استطاع في خاتمة المطاف أن يطوي هذه الصفحة التي كانت تؤرقه على الدوام ويحاكم حقبة زمنية طويلة امتدت إلى خمس وثلاثين سنة كلّفت العراقيين ثمناً باهضاً في الأرواح والأموال والثروات. لا يميل قتيبة الجنابي فيلمه الروائي الجديد "الرحيل من بغداد" إلى فكرة التجنيس الصارم لأكثر من سبب، أولها أن الفيلم يتوفر على نبرة وثائقية، وثانيها أن جانباً من الفيلم مستوحى من السيرة الذاتية للمخرج الذي عمل على الصعيد الشخصي مصوراً فوتوغرافياً، ورحل من بغداد هارباً من عسف النظام السابق وجبروته، كما أنه فقد والده بسبب وحشية النظام الدكتاتوري السابق، وأكثر من ذلك فقد استقر به المقام في العاصمة الهنغارية بودابست وعاش فيها مدة خمس عشرة سنة أمضى الجزء الأكبر في الدراستين الجامعية والعليا. فلا غرابة إذن، حينما يقرر كاتب الفيلم ومصوره ومخرجه بأن فيلمه هو مزيج من الوثائقي الروائي أو الدرامي الوثائقي.
درامية القصة السينمائية دعونا نعترف منذ البداية بأن قتبية الجنابي قد نجح في كتابة سيناريو متقن إلى حدٍ ما أبعد الفيلم من مغبة السقوط ببعض الإشكالات التي لا تُحمد عقباها. وهذا النجاح هو الذي أمدّ الفيلم ببعد درامي قائم على تلاقح فذّ وجميل بين أحداث واقعية صادمة وأخرى روائية نسجتها مخيلة صانع الفيلم (ومصوره وكاتب قصته السينمائية). لا يعتمد الفيلم في بنيته الدرامية على شخصيات كثيرة، بل أن الفيلم برمته يقوم على شخصية المُصوِّر الفوتوغرافي صادق الذي كات يعتاش من مهنته في تصوير الحفلات والأعراس، لكن السلطة الدكتاتورية أجبرته على التخلّي عن مهنته الأولى والالتحاق بأجهزة الدولة القمعية حيث يصوِّر حالات التعذيب والقتل والإعدام للمناهضين لسلطة النظام البعثي. ومن بين الحالات المرعبة التي ركّز عليها مخرج الفيلم هو الجَلد وتعذيب المناوئين بالهراوات والقضبان المطاطيّة وبتر الأطراف والرؤوس بالسيوف والسواطير وإلقاء الضحايا من البنايات الشاهقة، وتفجير بعضهم بعبوات ناسفة توضع في جيوب قمصانهم وما إلى ذلك من وسائل تعذيب معروفة لدى العراقيين. أما الشخصيتان الأخريتان فقد رشَحَتا عن طريق الأب "صادق" وهو يروي لنا محنته، إذ كنا نسمع ردود أفعال زوجة صادق "أم سمير" من خلال عدد من المكالمات الهاتفية، ويبدو أنها كانت تعده بإيصال المساعدة المادية له، ولكنها كانت تخلف وعودها حتى أيقن المتلقي أن أم سمير لا تريد لزوجها أن يصل إلى لندن، فهي ترفضة جملة وتفصيلا ربما لأنه وافق على العمل مع النظام الدكتاتوري وأصبح جزءاً من ماكنته القمعية. أما الابن "سمير" الذي لم نره هو الآخر، فقد عرفنا من خلال الرسائل التي بعثها الأب إليه أنه إلتحق بالحزب الشيوعي العراقي الذي كان يعمل ضمن أحزاب كثيرة انخرطت في صفوف العمل المعارض للنظام، وأن الرفاق الحزبيين وبعض المسؤولين المقرّبين من الدكتاتور قد قرّعوا الأب على الجريمة التي ارتكبها الابن لالتحاقه بصفوف العمل المعارض. وبغية الإفلات من قبضة النظام الحديدة قرر الأب صادق أن يغادر العراق ويمر بعدد من بلدان أوروبا الشرقية، ويستقر مؤقتاً في بودابست قبل أن يتسلل إلى لندن لكي يجمع شمل العائلة المشتتة من جديد، غير أن (الرياح تجري بما لا تشتهي السفن)، فلا الزوجة أم سمير تبعث له النقود كي تنقذه من المأزق المادي الذي يعيشه بعد أن باع بعض كاميراته وملابسه الشخصية، ولا الابن الغائب يجيب على الرسائل التي يبعثها له الوالد ويحمّله فيها مسؤولية ما حدث للأسرة بكاملها من تشتت وتفكك وضياع.
اللعبة الفنية التجأ المخرج وكاتب النص إلى لعبة فنية متقنة حينما جعل هذا المصور الهارب مُلاحَقاً ومُطارداً في كل مكان يحّل فيه. يا تُرى، هل أن هذه الشخصية المُمتحنة مطاردَة فعلاً، أم أنها مسكونة بهاجس الملاحقة الوهمية، فالمطاردة تحدث في رأسه فقط، وهي غير موجودة على أرض الواقع؟ يقنعنا المخرج بالحالتين معاً، فثمة شخصية كانت تطارده بالفعل، وقد رأيناه غير مرة وهو يلاحقه في بعض الأمكنة في بودابست ويرصد تحركاته، بل أنه ذهب أبعد من ذلك حينما رأيناه وهو يتبعه إلى المنطقة الحدودية التي ستفضي به إلى النمسا ومن ثم إلى ألمانيا وفرنسا قبل أن ينتهي به المطاف في لندن حيث تقيم زوجته، لكن المخرج ارتأى أن يقوم هذا الشخص المُطارِد بإطلاق النار من قنّاصة حيث يرديه قتيلاً في الحال، تماماً مثلما أوهمنا المخرج بأن الابن الذي إلتحق بالمعارضة العراقية في شمالي الوطن ربما يكون قد ذهب إلى جبهة الحرب العراقية _ الإيرانية وفقِد فيها، لأن الأب أوهمنا مرة ثالثة حينما كتّفوا ذراعي ولده وشدّوا عينيه بقطعة قماش، وطرحوه أرضاً ثم ضربه أحدهم ضربة قاصمة فصلت رأسه عن جسده في مشهد مرعب بثّ الخوف في نفوس المتلقين الذي لم يألفوا هذا النوع من المشاهد المرعبة التي كانت تحدث على أرض الواقع في العراق. ولولا تجسيد المخرج لهذا النوع من الأوهام التي أربكت المتلقي وجعلته يعتقد جازماً بأن الأب قد قتل في نهاية المطاف من قبل مُطارِده، مثلما أيقنا بأن الابن إما أن يكون قد التحق بجبهة الحرب فعلاً وفُقد فيها أو أنه أعدم لسبب آخر يتعلق بتخاذله في ساحة المعركة أو هروبه من الجبهة وما إلى ذلك من أسباب يعرفها المتلقي العراقي أكثر من قرينه العربي أو العالمي. لا يمكن لنا أن ننسى الواقعة المشهورة التي حدثت في زمن النظام السابق حينما أقدم أب على إخبار الجهات الأمنية بأنه ابنه هارب من الخدمة العسكرية أو خائن للوطن بمعنى من المعاني، الأمر الذي أدى إلى إعدام هذا الابن (الخائن) وتقليد والده وساماً رفيعاً منحه أياه صدام حسين، رأس النظام الدكتاتوري آنذاك وقد جرت هذه الواقعة المرعبة جريان الأمثال على الألسن، ولا غرابة أن يفيد منها المخرج بطريقة ما لكي يوصل للمتلقي رسالة ما بأن الابن الذي يهرب أو يلتحق بمعارضة النظام الدكتاتوري إنما يجني على نفسه أولاً، وعلى أهله وذويه وأقاربه ثانياً. وما حدث لهذه الأسرة من تشتت وضياع إنما يرده الأب إلى (الجريمة) التي ارتكبها الابن حينما التحق بالمعارضة اليسارية ووضع الأسرة كلها في موقف لا تُحسد عليه. تجدر الإشارة إلى أن المخرج قد بنى الشخصية الرئيسة في الفيلم (صادق) وشحنها بأبعاد درامية كثيرة من بينها تأنيب الضمير حيث يقوم يومياً بتوثيق جرائم النظام مصوراً إيّاها على كاسيتات فيديو يفيد منها النظام بطريقة أو بأخرى كأن يرهب المؤازرين والمناوئين في آنٍ معا. وقد سبق للنظام أن عرض محاكمات مصورة لبعض المسؤولين الحزبيين الكبار الذين انشقوا على النظام أو تآمروا عليه. كان أداء صادق العطار مقنعاً جداً وقد تقمص الشخصية بنجاح أقنع المتابعين لهذا الفيلم من مختلف الأعمار والمراجع الثقافية. كان التصوير مقنعاً ومتماشياً مع حالة الخوف والقلق التي تعيشها الشخصية الرئيسة. وبهذا الفيلم الروائي الذي ينحو منحىً توثيقياً يطوي المخرج قتبية الجنابي صفحة من حياته الشخصية المليئة بالعذابات الفردية والجماعية آملين أن نرى أفلامه الجديدة وهي تتحرك من مناخات مغايرة ترصد الجوانب المشرقة في حياة العراقيين سواء داخل العراق أو في خارجه.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة نقدية في ستة أفلام روائية ووثائقية وقصيرة في مهرجان ال
...
-
فيلم (إيران، الجنوب الغربي) للفرطوسي يرصد أكبر كارثة بيئية و
...
-
(وداعاً بابل) لعامر علوان . . الحجر يتكلّم والمدينة تتقمّص د
...
-
التغريب والصورة الافتراضية للدكتاتور في فيلم (المُغنّي) لقاس
...
-
حيّ الفزّاعات لحسن علي محمود وتعدد القراءات النقدية
-
تعدد الأصوات والأبنية السردية في رواية -قفلُ قلبي- لتحسين كر
...
-
تقنية فن التحرّيك في النص الشعري
-
تقنية السهل المُمتنع في رواية (الزهير) لباولو كويلو
-
قضايا وشخصيات يهودية للباحث جعفر هادي حسن
-
أقول الحرف وأعني أصابعي. . . مَنْجمٌ للموضوعات الشعرية
-
علاقة الحرب بالثقافة البصرية. . أمسية ثقافية تجمع بين القراء
...
-
التعصّب القومي في فيلم -أكثرية- للمخرج التركي سيرين يوج
-
الأبعاد الدرامية في تجربة ورود الموسوي الشعرية
-
ورود الموسوي: أنا بسبع حوّاس، والمرأة المعذّبة هي جل اهتمامي
...
-
ورود الموسوي: أحمل روح السيّاب، لكني لا أحمل صبغته الشعرية(1
...
-
المخرج جمال أمين يلج دائرة العتمة الأبدية
-
مسابقة (أمير الشعراء) في دورتها الرابعة
-
مهرجان روتردام السينمائي الدولي يحتج على سجن المُخرجَين بناه
...
-
ثنائية العاشق والمعشوق في قصائد جلال زنكابادي (2-2)
-
ثنائية العاشق والمعشوق في قصائد جلال زنكابادي (1-2)
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|