|
استنقاذ الثورة
جمال البنا
الحوار المتمدن-العدد: 3357 - 2011 / 5 / 6 - 20:28
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
عشنا الأيام السعيدة من 25 يناير حتى 11 فبراير ، واندمجنا تمامًا في مجتمع الميدان الذي ألف بين قلوبنا فأصبحنا إخواناً متحابين وتركنا أنفسنا تكتسحها موجة من الفرح الهستيري عندما أعلن الطاغية تنحيه يوم 11 فبراير لأننا حققنا خلال ثمان عشر يومًا ما عجز آباؤنا عن تحقيقه خلال ثلاثين عامًا حتى ماتوا وفي حلوقهم غصة . كان يجب أن يكون معلومًا أن إسقاط النظام ــ وهو الشعار الموفق الذي رفعته الثورة ــ لابد وأن يستتبعه إقامة النظام الجديد ، لأنه لا يعقل أن نترك البلاد بلا نظام . ولكن شيئاً عجيبًا حدث هو أن الذين نجحوا في إسقاط النظام لم يتقدموا لبناء النظام الجديد . هل ألهتهم سكرة الانتصار في هدم دولة الظلم عن ضرورة إقامة دولة العدل ؟ كان الحاكم المنكود عندما أعلن تنحيه عن السلطة عهد بها إلى «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» ، الذي أعلن فورًا أنه لا يعمل لسلطة ، وأنه لن يمارس سلطة وأنه مؤمن بثورة الشعب ومطالبه ولن يظل يومًا واحدًا بعد المدة المقررة . أعتقد أنه كان واجبًا على الشباب الذين أشعلوا الثورة وأداروها بنجاح ورزقوا تأييدًا شاملاً وكاملاً من الشعب أن يتفقوا مع المجلس على طريقة إدارة شئون البلاد وتحقيق ما طالب به الشعب . وكان على الشباب أن يبينوا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن ما سيتخذ الآن على أعظم جانب من الأهمية لأنه سيحدد مسار العمل وطبيعته ، وأنه لا يمكن أن يقفوا موقف المتفرج بينما تتخذ أخطر القرارات على الثورة ، وكان يجب أن يتم هذا بسرعة ، وآثار تجمع ثلاثة ملايين مصري في ميدان التحرير لا تزال حية .. ماثلة . وكان يمكن أن يقترحوا على المجلس الأعلى للقوات المسلحة تكوين مجلس رئاسي من 25 فردًا مثلاً ، عشرة منهم من ائتلاف الثورة وثلاثة أو أربعة من الجيش والباقي من الشخصيات الوطنية العامة ويتولى هذا المجلس الرئاسي شئون البلاد . أعتقد أن المجلس ما كان يرفض هذا ، لأنه يقدم مشروعًا حسناً لإدارة الثورة تشترك فيه كل الأطراف ، وينجيه من تحمل المسئولية منفردًا ، وكان شبح الجمعة المليونية يترأى له ويحمله على القبول حتى لا يدخل مع الشعب في مشادة ، ولم يكن ائتلاف الثورة ليتعدى حدوده لو أنه بيَّـن للمجلس أن سلطته هي تأمين وحماية وليست سلطة تنفيذ وتطبيق ، وأن المرحلة تتطلب ممارسة ثورة يكون من الظلم له مطالبته بها . ولم تكن قضية مشروعية حكم هذا المجلس الرئاسي لتطرأ على أحد لأن من المسلم به أنه يمثل شرعية الثورة الشعبية ، وهي أسمى صور الشرعية ، وما الدساتير إلا بلورة لإرادة الشعب وكلها تنص على أن الأمة مصدر السلطات ، وهذه هي الأمة وهي تمارس سلطاتها . ولو تم هذا لكان أول ما يقرره هذا المجلس الرئاسي حل مجلس الشعب ومجلس الشورى والحزب الوطني واتحاد العمال وإلغاء دستور 1971م ، والتحفظ على أموال ونشاط ثلاثة آلاف كانوا هم المنفذين لسياسة عهد الفساد ، وإلقاء القبض على أكابر المجرمين وعلى رأسهم مبارك نفسه ، وتقديم هؤلاء جميعًا لمحاكمة عادلة ولكنها ناجزة لا تحرمهم حقاً ولكن لا تسمح لهم باستباحة الحقوق ، وتكون ممارستها ذات طابع ثوري ولو أنها قبضت على كل الضباط الذين عملوا في أمن الدولة باعتبارهم مدانين بالفعل في التعذيب وقهر الإنسان المصري وأن عليهم أن يبرئوا أنفسهم وإلا حكم عليهم بأقسى الأحكام ، لما كان في هذا حيفاً على العدالة ، بل كان هذا هو عين العدالة وهو الوسيلة الوحيدة التي تحول دون استغفال الأمة ، فلا تقوم ثورة إلا عندما يعم الفساد ويطم ويتعقد ويتمدد ويصعب حله ، وعندئذ فلا مناص من البتر ، وعندما تستخدم الأساليب التي وضعت لمجتمعات مستقرة .. آمنة .. على هؤلاء المجرمين ، فكأننا نتآمر على العدالة ونساعد المجرمين على الإفلات منها ، فضلاً عما في هذا من نزول بأسلوب الثورة إلى أسلوب التدرج والملاينة البرجوازي ، وهذا يعني القضاء على الثورة . وكان يجب على المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعيين لجنة من 30 إلى 50 عضو يمثل فيها شباب الثورة لتضع دستورًا محل الدستور المهلهل دستور المتناقضات دستور 1971 ، ولم يكن هذا ليتطلب أكثر من أسبوعين ، لأن دستور 1923 ودستور 1954 موجودة والمواثيق الدولية عن الحريات معروفة ، أما القضية الشائكة وهل سيكون وزاريًا أو سياسيًا ، فهذا ما أرادته الجماهير وزاريًا حتى لا يصنع فرعوناً جديدًا وكانت تلك فرصة للتخلص من نسبة 50 % عمال وفلاحين وسلطة مجلس الشورى .. إلخ . ويعرض الدستور على الشعب للاستفتاء ، وإذا وافق عليه أجرينا انتخابات مجلس الشعب ، وأجريت انتخابات رئاسة الجمهورية . وقد يتطلب ذلك مدة أكثر من الشهور المحددة ، فلا بأس ويجب على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يستمر مادام الشعب هو الذي طلب ، وقد صبر الشعب ثلاثين سنة ، فلا عليه إذا صبر ثلاثين شهرًا . كان هذا هو الواجب ، ولكنه لم يتبع ، فانظروا ماذا حدث ؟ وكيف انحرفت الأمور؟ عندما انفرد المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالعمل لم يحل إلا مجلس الشعب والشورى وترك الحزب الوطني واتحاد العمال ، ولم تتخذ الإجراءات التحفظية ، فكانت النتيجة أن هرَّب الجميع أموالهم وأخذوا يكيدون للثورة بمختلف الوسائل . وعندما قبضوا على أكابر المجرمين وزجوا بهم في السجون ، فإنها اعتبرتهم جميعًا مسجونون احتياطي يعامل معاملة خاصة ، وهو مبدأ سُـن ليطبق على متهمين متحضرين وليس على وحوش ومجرمين ، بل إن مأمور السجن يحيي (المتهم) العادلي وزير الداخلية المقبوض عليه التحية العسكرية . وارتبكوا أمام دستور 1971 وقرروا تعديل المواد الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية والتي وضعت (تفصيل) لكي لا يمكن أن يرشح إلا مبارك أو نجله ، وتطلب ذلك قرابة شهرين ، وعندما تم قدم للاستفتاء ووافقت الأغلبية التي تضم العوام والأميين .. إلخ على التعديلات عندما قيل أنها إذا رفضتها فسيوضع دستور جديد يستبعد المادة الثانية الخاصة بالإسلام . ثم ظهر لهم أن كل المواد الخاصة بالانتخابات تحتاج إلى تعديل ، فأصدروا إعلاناً دستوريًا . واستهلك هذا جزءً كبيرًا من حماسة الثورة وذخيرتها ، بل وشتت توجيهها بين «نعم» و «لا» وحال دون أن تستوي على الجودي فتضع دستورها الذي يكون عصمة أمرها ومصدر فخرها وملاذها في الأزمات والمواقف الحرجة ، والذي على أساسها تجري الانتخابات ، ولعله أن يكون الفرصة التي تخلصها مما جاء به دستور 1971 من قضايا لم يعد لها محل مثل تخصيص 50 % من المقاعد لعمال وفلاحين لا ينطقون إلا بكلمة «المنحة يا ريس» ، يقولونها مع كل احتفال بعيد العمال في مايو ، أما في الجلسات فهم وأبو الهول سواء ، أو تضع ضمانات تحول بعض دون ما أثبتته التجربة من فساد في انتخابات الأصوات بطريقة النظام الفردي . وهي اليوم غارقة إلى الركب في تحقيقات لا تنتهي وأكابر المجرمين يقضون أيامهم في حبسهم الاحتياطي وقد يظفرون بالبراءة لأن العيب يمكن أن يكون في قوانين وضعوها بأيديهم وحرصوا على وضع ثغرات يمكن أن تنجيهم عند الضرورة . والوزارة رغم نيتها الحسنة تنتقل من تخبط إلى تخبط ، ومن أزمة إلى أزمة ، لأنها لا تستخدم أسلوبًا ثوريًا ، وإنما تحاول الجمع بين الأضداد . فانظر كيف أن التهاون في البداية قد أدى إلى فساد النهاية ، لأن النهايات موصولة بالبدايات . فإذا طال الأمر بهذا الحال ، ولابد أن يطول لأن المحامين لهم وسائلهم ، ولأن المشكلات أكبر وأعقد من أسلوب المعالجات فلن تكون في النهاية ثورة ، وإنما محاكمات تقليدية وحلول جزئية كلها تفتقد الروح الثورية المبدعة المنشئة التي تقهر كل الصعاب وتقفز على المراحل وتجعل الشعب يعمل جنبًا إلى جنب الحكومة ، وفي النهاية يقيم دولة العدل ، وهو الجزء الإيجابي في إسقاط النظام . * * * هل معنى هذا أن هذه الثورة المجيدة التي صاغ لها الرئيس أوباما قلائد المديح وأعجب بها العالم كله قد تلاشت وتحللت !!! كلا .. فمادام الثوار أحياء ، ومادام الميدان موجودًا ، ومادام من الممكن حشد جمعيات مليونية ، فهناك أمل في استنقاذ الثورة بعد أن كاد الانحراف يؤدي بها . اقترح أن يعيد ائتلاف الثورة النظر فيما انتهت إليه الأمور وما يمكن أن تصل إليه ، وأن يدعو لمليونية «استنقاذ الثورة» من الانحراف التي دُفعت إليه ، وأن يكون هذا على أسس واضحة ومحددة ويوضح تاريخ ــ ولو تقريبي ــ لإتمامها . لقد ضاع وقت طويل ، ولكننا تعلمنا من منطق التجربة والخطأ دروسًا ثمينة يمكن أن تجعلنا نستنقذ الثورة وننتشلها مما تردت فيه ، والرجوع إلى الحق فضيلة ، فضلاً عن أنه الوسيلة الوحيدة لاستنقاذ الثورة .
#جمال_البنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإخوان والسياسة
-
التحقيق مع ضباط التعذيب له أصول أخرى
-
حديث «مُقرف» عن التعذيب 1 & 2
-
مهمة عاجلة تنتظر وزير القوى العاملة
-
قضية العمل والعمال بعد ثورة ٢٥ يناير ٢
...
-
من هو جمال البنا ؟وما هي دعوة الإحياءالإسلامي ؟
-
نقد النظرية الماركسية
-
ترشيد النهضة
-
الحركة الميثاقية
-
الثورة تجابه منعطفاً خطيرًا
-
نزولاً على إرادة الشعب
-
اقتراح
-
جمال البنا في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: التنوير وا
...
-
المسألة الشعبية بين جورج صاند وجوستاف فولبير
-
عندما ثار الأسطول البريطاني
-
الأديان لا ينسخ بعضها بعضًا ولكن يكمل بعضها بعضًا ( 3 3 )
-
كلكم سيدخل الجنة «إن شاء الله» إلا المارد المتمرد
-
مانيفستو المسلم المعاصر
-
الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل ( 1 3 )
-
الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل ( 2 3 )
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|