أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - أيهدم بيت الشعر في العراق!















المزيد.....

أيهدم بيت الشعر في العراق!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3357 - 2011 / 5 / 6 - 17:32
المحور: الادب والفن
    


أيهدم بيت الشعر في العراق!
الجواهري الكبير .. التحدي والتناقض والجدل!

تلقيت قبل أيام نداء من الصديق رواء الجصاني ابن أخت الشاعر الكبير الجواهري، والنداء موجّه الى المسؤولين العراقيين يطلب منهم التدخل لمنع هدم بيت الجواهري في بغداد، الذي هو جزء مهم من التراث الثقافي والوطني النفيس في العراق. وأصل الحكاية أن صاحب المنزل الذي سكنه الجواهري وضم أجمل ذكرياته وشهد نظم عديد من قصائده، وكان منتدى كبار المثقفين والوطنيين العراقيين، ينوي هدمه وتحويله إلى مشروع تجاري، الأمر الذي يتطلب من الجهات الرسمية والثقافية بشكل خاص التدخل للحيلولة دون استكمال هذا الإجراء، حفاظاً على الذاكرة العراقية، تلك التي حاول الجواهري أن يؤرخها شعراً على مدى قارب ثمانية عقود منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى وفاته عام 1997.
استعدت هذا النداء والمناشدة التي وجهها مركز الجواهري في براغ، المدينة التي أحبّها الجواهري الكبير ومعها تواقيع نخبة من المثقفين العراقيين، ممن يضمّون أصواتهم الى عدم المساس بمنزل الجواهري، وقارنتها برسالة كانت قد وردتني من جامعة فورنش الروسية قبل عامين، حيث طلبت مني إرسال رسالة ونص عن الجواهري وشعره كي يتم قراءتها بالروسية والعربية، مع نصوص ورسائل لأدباء عراقيين، بينهم الشاعر سعدي يوسف والصحافي محمد عارف، وقامت حينها محطة تلفزيون روسيا اليوم بتغطية الفعالية والاحتفالية بافتتاح نصب تذكاري نصفي لشاعر العرب الأكبر الجواهري، وكان مركز الدراسات الروسية ـــ العراقية قد تلقّى هدية من رئيس جمهورية العراق جلال الطالباني لنصب تمثال للجواهري هو الأول من نوعه خارج العراق، وحضر الاحتفال عدد من الأدباء ومتذوقي الشعر، ومسؤولون وأكاديميون روس وعراقيون.
قدّر لي أن أكون قريباً من الجواهري، رغم أن الاقتراب منه مغامرة مليئة بالاحتمالات وربما يصعب التكهن بنتائجها، ليس فقط على المستوى الشعري والإبداع الأدبي، بصفته "عالَماً شعرياً" خاصاً ومتشابكاً، ولكن على المستوى الشخصي أيضاً، فالجواهري شخصية حسّاسة، بل بالغة الحساسية وله مزاج خاص، ولذلك فالاقتراب من شاعر مبدع ومأزوم وحده سيكون امتيازاً لكنه محفوف بالمخاطر، ولا سيما إذا استمرت الصحبة متواصلة نحو ثلاثة عقود من الزمان ازدادت عمقاً وشمولاً، وعلى المستويات الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية في الآن، خصوصاً حين يسمح لك بدخول المناطق المحرّمة في غابته والإصغاء إليه وهو يتحدث عن معشوقاته أو يخبرك كيف كتب أشهر قصائده، وكيف دخل معاركه السحرية وحين اختصم وتحدّى، وتصارع وانقلب، وتواصل وتناقض، ثم كيف غضب وكيف صفح وما هي همومه وأحزانه وأفراحه، ثم تبدأ بعد ذلك بدراسته النقدية.
لعل المتتبع لحياته وشعره سيضطر إلى التحرّك في منطقة شائكة وعلى أرض مزدحمة بالشعر والهمّ العام. كنت أشعر بأنني أمام حالة شعر بكل ما تعنيه هذه الكلمة الواسعة بطقوسها وفضاءاتها وعبق شذاها، فالقصيدة لدى الجواهري هي التي تدلّك على مملكة الشعر أو صومعة الشاعر، حيث يمارس الخلق بجو أقرب إلى التبجيل والاحتفاء، وبمعاناة فائقة، فتراه غير عابئ باليومي والطارئ أحياناً، وفي أحيان أخرى تراه مستغرقاً لدرجة الانفعال بكل ما حوله، وفي أحيان أخرى منشغلاً بالحسّي والملموس، ومثلما يكون الآني جزءًا من المستقبلي متواصلاً معه أو منفصلاً عنه، يكون المستقبل والمستحيل جزءًا من الحاضر والراهن، لكنه في كل الأحوال لا يرغب إلاّ أن يراه ويتفحصه وكأنه يعيش فيه.
لم يكن الجواهري يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه. كان يريد أن يعيش كل لحظة، أي لم يرغب في أن يُبدّد ثانية فكان يريد الدنيوي والأخروي، الحياة والخلود، الحاضر والمستقبل، وإذا ما استعرت تعبيراً لمكسيم غوركي، فقد كان نصف عقل الجواهري، وربما إبداعه يعيش في المستقبل، للقادم الجميل، الذي كان يريده شفيفاً ومعافى وأزرق مثل لون البحر الذي يحبّه!
في حالة الجواهري لم نكن نحن أمام الشاعر، بل كنّا أمام غابة شعرية تحفل بكل الألوان والأصناف، قوامها نحو 20 ألف بيتٍ من الشعر، متوزعة على نحو ثمانية عقود من الإبداع، وكان كل ما فيه متغضّناً بأنفاس الشعر، حركته وأصابعه الممدودة وصوته، عندما يبدأ في مطلع القصيدة تشعر وكأن عناقيد من المعاني والمباني تتدلى من فوق رأسك، أو أن شلالاً بدأ ينهمر بكل ترانيمه، ثم تبدأ بعدها بالتأمّل لتسير مياه أنهاره وسواقيه وجداوله بعذوبة ورقّة لتصل نهري دجلة والفرات، رمزي بلاد ما بين النهرين "الميزوبوتاميا". ولعل هناك من أطلق على الجواهري باستحقاق "النهر الثالث" باعتباره رمزاً آخر للعراق.
الشعر لدى الجواهري أسهم في رسم أو إعادة تصوير حياتنا، بتفاصيلها وشخوصها وتاريخها ومعالمها، لا بنكهتها الواقعية وحسب، ولكن بإطارها المتخيّل والواهم أحياناً، مشتملاً على نكهة حبٍ ومذاق تحدٍّ وجوار تناقض، تلك التي شكلت سمة عنيفة للقصيدة الجواهرية.
كان يتراءى لي وأنا بصحبة الجواهري أنني لست أمام شاعر فريدٍ وحسب، أو حقبة كاملة، فقد كنت أحياناً أشردُ بخيالاتي لأتصوّر أنني أمام حزمة لقرون من الشعراء المبدعين أو حقبة شعرية تاريخية كاملة، متجسّدة في شاعر اختزن من التاريخ نحو ألف عام ما بعد المتنبي، لكأن جذوره ممتدة من الفترة الأموية ـــ العباسية، على حد تعبير الشاعر سعدي يوسف، التي شغلت القرن الـ20 كله في مغامرة ممتدة بهارمونية جمعت التناقض المحبب والأضداد المتجاورة بتناسق باهر وليس له نظير.
لم يكن بإمكان الجواهري ألا يستجيب لإغراء المغامرة والتحدي بما جمعه من متناقضات، بصعوده ونزوله، بقوته ونقاط ضعفه الإنسانية، بشبابه وشيخوخته، فلم يرغب الجواهري في الجلوس على مقاعد مطلية بالذهب، لأن خياره كان الشعر والمغامرة، فهذا الهاجس الأول والأخير له، ذهناً ومزاجاً وفناً، فقد كان يكفيه أنه جالس على قمة الشعر، ماسكاً بحلقته الذهبية الأخيرة، ناظراً بطريقته البانورامية ومن خلال مشغله الشعري لمشهد الجمال والخلق.
عرفت الجواهري عندما كنتُ طفلاً وكانت دواوينه تملأ مكتبة الأعمام والأخوال، وكنت كلما أذهب إلى مدرستي "السلام" الابتدائية أمرّ من أمام جامع الجواهري في "منطقة القباب الزرق" المدفون فيها جدّه الأقدم صاحب كتاب "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام"، المتوفي عام 1850، وهذه المنطقة معروفة بمحلة العمارة في النجف في الفرات الأوسط، والنجف حاضنة شعرية وأدبية ومنارة علمية مضى على تأسيس جامعتها أكثر من ألف عام، وحين وصلها الإمام الطوسي عام 449 هـ كانت صرحاً شامخاً، أسهم هو في ترسيخه وتأطيره حتى توفي عام 460هـ، وظلّت تحمل من بعده مشعل التنوير رغم محافظتها الشكلية، لكنها ضمّت "الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق" على حد تعبير الشاعر مصطفى جمال الدين.
قابلتُ الجواهري لأول مرة في مطلع عام 1959 في ساحة الكشافة ببغداد واجتمعت به بعد عودته من براغ، حيث قضى سبع سنوات عجاف هناك، لكن علاقتي به توطدت وتوثقت خلال السبعينيات في براغ، المدينة الأليفة ذات القباب الذهبية، كما تعززت وتعمّقت علاقتي به خلال الثمانينيات في دمشق، وكنت قد سألت الجواهري في إحدى المرّات: وماذا كان هناك في الغربة يا أبا فرات: أهو زمهرير المنفى أم فردوس الحرية؟ فأجاب بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيكارته التي لم تكن تفارقه: الاثنان معاً .. أي والله ..!
وكنت قد أصدرت عنه كتاباً بالتعاون معه عام 1986 عن دار طلاس، الموسوم بـ "الجواهري في العيون من أشعاره"، وهو عبارة عن ذائقة لسبعة عقود من الزمان، وتضمن الكتاب نحو 700 صفحة مع مقدمة كتبها له وبيبلوغرافيا، ومن المفارقة أن أذكر أنني نشرت قصيدة كان قد كتبها لجلال الطالباني، لأول مرة في هذا الكتاب، جواباً على رسالته التي يستثيره فيها على أن "يُغنّي" بعد صمت غير قصير، فما كان من الجواهري الاّ أن يجيبه بعنوان مضاد قابلاً التحدي، وهو "ماذا أغني..؟" وهذه القصيدة أرسلها الجواهري في 10/12/1980 إلى صديقه الطالباني الذي ظل يحتفظ بصداقته منذ الخمسينيات ـــ كما أعرف ـــ وضمتني معهما أكثر من جلسة. ثم عدتُ ونشرت هذه القصيدة مرّة أخرى في كتابي عن الجواهري، الذي صدر في طبعته الأولى وهو ما زال على قيد الحياة، في عام 1996/1997، وكان بعنوان "الجواهري جدل الشعر والحياة"، أما طبعته الثانية المزيّدة والمنقّحة فقد صدرت في مطلع عام 2009 عن دار الآداب في بيروت، وصدرت الطبعة الثالثة عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، عام 2010. ولديّ حوارات مطولة نشرت قسماً منها وأستعد لنشر القسم الآخر الأهم والأوسع.
سعى الجواهري إلى تجاوز المألوف والعادي من الأشياء إلى ما هو خارق أو مستحيل في السلوك والتمرّد والتدفّق الشعري والنفي والترحال بموهبة باهرة، حيث ظلّ مبحراً بسفينته ضد التيار، ولم يكن ذلك بمعزل عن تفجّر ذاتي ومعاناة مذهلة وأزمة شعر وشاعر، كانت القصيدة معه تأتي غيمة فضية قبل أن تنقدح عن شرارة البرق التي تخطف البصر، كما قالت الدكتورة نجاح العطار.
أنا العراق لساني قلبه ودمي
فراته وكياني منه أشطار
وهو القائل:
حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
ظلّ الجواهري خارج حدود التصنيفات التقليدية، لكونه شاعراً تجاوز مكانه وزمانه بنزعته الإنسانية وإبداعه المتميّز والعبقري، أفلا يجدر أن يتحوّل منزله إلى متحف ومكتبة عامة تضم دواوينه وما كتب عنه، يتمتع متذوقو الشعر بزيارتهما، أسوة بمجايليه من المبدعين في العالم ـــ كما تفعل الأمم المتحضّرة، فبيت الجواهري هو بيت لكل المثقفين، وهو إرث ثقافي ومعلم حضاري ينبغي الحفاظ عليه ورعايته، لا هدمه!!



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد 50 عاماً على اعلان تصفية الكولونيالية
- دور المجتمع المدني بعد انتفاضات الشباب
- السمات العشر للانتفاضات العربية
- المواطنة بضدها
- الجنادرية والتويجري والأسئلة
- جاذبية التغيير
- الاستمرارية ميزت الجنادرية وهذه القضايا باتت ملحة
- مفارقات غولدستون: لماذا تراجع وأين الحقيقة؟
- روفائيل بطي.. إرهاص حداثي مبكّر!
- دستور مصر ووصفة السنهوري
- السياسة بوصفها علماً
- الشباب والتنمية!
- العراق من الاحتلال العسكري الى الاحتلال التعاهدي
- النيل وحرب المياه
- العرب وإسرائيل: أي جدل قانوني؟
- حرية التعبير و-حرية- التشهير
- جدلية الضعف والقوة
- - النموذج- العراقي وعدوى التغيير!
- سبع رسائل لاستهداف المسيحيين
- الموجة الثالثة للتغيير


المزيد.....




- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...
- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - أيهدم بيت الشعر في العراق!