البحرين
لا يمكن لأحد أن ينكر بان زمن الهواجس والمخاوف قد تراجع، بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني، إلاّ إن هذا الزمن ما لبث أن يطل برقبته حاملا أثقالا بعد تحرره من مواطن ضعف لسلطات دينية أو دنيوية وتحولت الآمال العريضة إلى بؤس صراع الذات والآخر. ففي خضم أجواء الانتخابات النيابية وتسارع الأنباء والتحليلات عن هذا الحدث التاريخي القادم، أطلت على الساحة رؤوس وأقلام تعيد خطاب ما قبل الميثاق بأثواب مختلفة المقاسات محاولة الاستفادة من الوضع المتأزم بين الفاعلين السياسيين لأغراض فردية آنية بعيدة كل البعد عن الصالح العام والخير المشترك الذي يتمناه كل مواطن يعيش على ارض هذا الوطن، معتقدة أن دعواتها التي تطلقها بين حين وآخر والمغلفة بشعارات وطنية وأمنية هي كافية لاسترجاع سلطتها البائسة وشرعيتها الهشة في استغلال الناس عن طريق محاصرتهم، كما تم في السابق، في خنادق اتهامات فكرية علمانية أو دينية. إلاّ إن ما يثير الحيرة، إن محاورة تلك الأصوات السلبية لمسيرة الإصلاح السياسي التي يقودها عظمة الملك، كانت غائبة أو شبه معدومة في صحافتنا، مما يشغل الذهن بالأسئلة ويبث الشكوك ويراكم أعراض وضع سياسي غير صحي في هذا البلد الذي يطمح الصعود في عالم الديمقراطية. وقد يفسر هذا الصمت، بالتجاهل أو الخوف من الاتهام في إثارة النعرات الطائفية وغيرها، إلاّ إن التغاضي عنها كليا يشكل ضعفا في العمل الجاد من اجل ترسيخ أقدام الديمقراطية حيث يؤدي ذلك إلى شعور تلك الأصوات بقدرتها على اختراق الأسوار وان هناك قوى وسندا غير مرئي من المجتمع مؤيد لكلماتها. إن هذه القضية تطرح مشكلة المساواة في هامش حرية التعبير الشفهي (جمعيات، أماكن عبادة، مجالس... الخ) أو الكتابي (الصحافة وغيرها) التي هي جزء من مفهوم الديمقراطية والتي لا تحقق إلاّ على أساس المساواة في الإمكانيات والوسائل، حيث إن القصد الظاهري للديمقراطية الذي بدأ يرسخ في أذهان أبناء البحرين هو الوصول إلى أوضاع تنحسر فيها المحاباة والظلم الاقتصادي والاجتماعي. وان هذا الهزال الذي أصاب الحوار والمساجلات قد يؤدي إلى تعبئة (أصولية) وقتل للتطلعات والآمال وإضعاف حرية الصحافة وتقليص مساحاتها التي هي وسيلة الضعفاء في إيصال أصواتهم في الوقت الذي يستطيع الأقوياء الدفاع عن مصالحهم سرا أو علانية. إن تشكيل صورة الذات و إعطائها مرجعية يقاس بها الآخر المختلف تضع الهوية أمام مجتمعين متناقضين، مجتمع الولاء والإخلاص مقابل مجتمع التمرد، المرتبط بالخارج وبأفكاره (المستوردة) والخارجة عن الإجماع! إن هذه القضية تطرح إشكالية تترعرع في باطنها أسئلة خطيرة عن الهوية وصفاتها: صراعية، اقصائية أمام تواصلية قادرة على قبول الآخر فإذا بقيت هذه الثنائية دون زحزحة وتفكيك، فإنها ستبث الخوف والرعب في القلوب وخاصة إذا ما قدر لها أن تتحول إلى ثوابت وعمل دائم في تشكيل صورة الآخر المخالف وتحديد حدوده ومحاربته. إن الحقيقة المطلقة التي تنطلق من هذه الدعوات قد تجر إلى تهديد التفاعل والتواصل مع الآخر ورفضه سواء كان ينتمي لطائفة أخرى أو تجربة حضارية مغايرة. هذا التفاعل والتواصل، البعيد عن التشبث بالنظرة الواحدة إلى التنمية والفكر والقانون والرأي هو مفتاح لانطلاقة البحرين القادمة ورص بناء تجربتها السياسية الوليدة التي هي في حاجة لثقافة وفكر نسبي وطرق تفكير وتحليل مستندة إلى العلم. إن الفرد قد يحمل هوية تتغذى من انتماءاته الثقافية والاجتماعية المتعددة وهويته المرتبطة بالحياة اليومية، ولكن تظل الهوية المتميزة هي التي ترتبط بالآخر عند تعارضها معه وان الفجوة التي قد يولدها الاختلاف مع الآخر لا يمكن القضاء على تهديداتها إلاّ بإشاعة الثقافة التي تعمق مفهوم الهوية الأكثر شمولا واتساعا والاشتغال على الموضوعات والأهداف العملية المشتركة التي يمكن الوصول إليها من خلال التعاضد والتضامن بين الذات والآخر. ولئلا نقع ضحية الالتباس أو التأثير السلبي من الاستخدامات والممارسات الخاطئة أو الجزئية لمفهوم الديمقراطية، لابد من نشر ثقافة القبول بالآخر واحترام الحريات والتنوع والآراء وشجب أعداء التفرقة السياسية والاقتصادية. وقد لا تكون مجموعة الضمانات المؤسساتية شروطا كافية لترسيخ الديمقراطية لهذا لابد من تأكيدا مبدأ الاعتراف بالآخر والقدرة علي العيش معا رغم الاختلاف. فهذا العيش هو الضامن للتواصل، وان التفريط بالتنوع هو القاتل للنمو والارتقاء، كما إن احترام الاختلافات لا يعني رفع راية السلطات العقائدية الفكرية والطائفية، بل لابد من اشغال العقل واعتماد الحكم النقدي والقبول بالقواعد التي تصون حرية الأفراد. إن تشابك أيدي هذه المبادئ الثلاثة معا (احترام الاختلاف، اعمال العقل، حرية الأفراد) سيشكل نقطة لقاء توفيقية ومحصلة قوية لدعم تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والالتزام بالقوانين المحددة للحقوق والالتزامات ونشر أفكار التسامح والقبول بالآخر وأرضنة مبدأ المساواة. لاشك أن قلقا يسود أوساط الفاعلين الاجتماعيين وفئات من (الكتلة الصامتة) نتيجة الرهبة في اقتحام تفسير الوقائع والأحداث المعاشة دون اتباع رأي آخرين أو الارتهان للموروث ومبادئه. هذا الموروث الذي كبل أيديهم بقيود ثقيلة أبقتهم قابلين بإلغاء الحواس والزمن وتركهم غير قادرين علي الخروج برؤية جديدة تستطيع تفسير ما يدور علي الساحة المجتمعية من احداث نشاهدها تتغير وتتراكم اعضاؤها مكونة ظواهر مغايرة وجديدة في حاجة الي دراسة وتأمل بعين تختلف عن عيون الماضي والموروث لبلورة وطرح التساؤلات بصورة عقلانية ومستفيدة من معين التجارب والخبرات والأفكار المحلية والعالمية. فالمشكلة المطروحة (الذات والآخر) تتطلب نظرة جديدة مقبولة من مختلف افراد المجتمع حيث ان النظرة او الرؤية القديمة عاجزة وغير قادرة ان تؤدي دورها علي الوجه السليم، وتفاديا للظروف التي قد تقود السفينة عنوة الي مجاهل وشواطئ غير معروفة وآمنة، فلابد من تجربة جديدة تؤدي الي انزال المفاهيم (ادوات التفسير) الي الحدث ليعاد تشكيلها وتطويرها من خلال تكوين ذاتها عبر تكوين الآخرين حيث لا توجد طريقة واحدة بعينها تقود الي الحقيقة بل هناك طرق متعددة قد تصب بعضها في البعض الآخر. ان صياغة جديدة لاشكالية العلاقة بين الذات والآخر، هي تصور يتحمل التصديق والتكذيب اي يستبعد مبدأ عدم التناقض وعدم القبول بالتماهي والتطابق الكامل او ترجيح رأي احد الطرفين وإلغاء وعزل الآخر. ان هذا المنطق الاحادي والتبسيطي الذي تعالج به الامور، لا يتواجد إلاّ في داخل اسوار العقائد والمذاهب. لذا تتطلب الصياغة الجديدة، العمل والانخراط والاشتغال من التجربة المعاشة للديمقراطية كقوي فاعلة للتغيير الاجتماعي وتطوير هذا المفهوم في الحياة اليومية ومؤسساتها الصغيرة والكبيرة، البيت المدرسة، العمل وساحة الوجود وما يحمله من هموم وحاجات وصراعات ورهانات، لابداع الحلول المناسبة التي تتفاعل بايجابية وفطنة من اجل ان تتأرضن الأفكار التي تعمل علي تقليص مظاهر الفروقات واللامساواة الفردية والجماعية دون الحاجة لالقاء مشاكلنا علي الماضي وتركته او اللجوء إليه واعتباره ملجأ لحل قضايانا، بل قد نعود إليه لنقرأه ونتجاوزه بأسئلتنا واشكالياتنا ونبني مفاهيم حياتنا الجديدة.