|
إعتزال
أمل جمعة
(Amal Juma)
الحوار المتمدن-العدد: 3355 - 2011 / 5 / 4 - 11:53
المحور:
الادب والفن
تحدثني بلا انقطاع عن زيارتها المثيرة لحديقة الحيوان، طفلةٌ صغيرة انفصلت وإياها عن باقي المجموعة لنركض في الطريق الجبلي الوعر. تعالي نسير بظهورنا، أقول منتعشة، تقلدني وأنا أصرخ أرأيت كيف نسير ونحن نشاهد خلفنا. لكن،لا أحب النظر خلفي تقول بلهجة مدرسية:"إذا سرت الأمام فلا تنظر مطلقاً خلفك ". صوتها خافتٌ ومنغمٌ كالموسيقى،يحملُ حزناً مبكراً وضحكة تقف دوماً جوارها. إنظري: أمامنا صار خلفنا، تضحك ونحن نرى بقايا ظلّنا مرهقاً ومتعباً من سيرنا الغريب، الجميل بهذا السير إننا نرى القمر طوال الوقت ( أقول لها مشجعة ) وربما لأقنع طفولتها بسخف ما أفعل، نقف لتستريح ظلالنا ولنشاهد عمق الوادي الغارق بأول الليل. تقول فجأة :لماذا لا تعاودين الرسم ؟؟ أقول ولكنني رسمت كثيراً ومللت ولم أعد قادرة على مزج الألوان ،أريد تَعلم الموسيقى مثلك ،تبتسم :"سأعلمك العزف على الكمان ( هو صعب جداً ) ولكن علميني الرسم والرقص وكيف أصير سيليسيا تماماً مثلك في الليل" . أسهو عنها بعيداً وبسرعة، أجدني أعزف على الكمان وأمامي سيدة كبيرة بِحزن وافر وابتسامة خجولة نسير في طريق جبلي ذات مساء. كان الذئبُ برتقالياً، والثعلب أزرقاً والنمر لا تكفي كل الألوان لتعطيه الوهج كاملاً ،وكان النعاس يجتاح قلبي وجسدي، لحظات قبل أن أترك لوحتي المنصوبة على الحامل الخشبي وقد أضعت قصدي ،أرمي ألواناً فوق اللوحة بلا ترتيب ،وأقرر ساعتها أن أعتزل الرسم تماماً ... علي أن أهاتف سيليسيا وأنتزعها من طقس الرقص اليومي ( هي بالعادة لا تتمرن على الرقص بل كما تقول ،أنا أرقص طوال الوقت ) لا تؤمن أبداً أن عليها احتراف الرقص أو حشوه بأفكار وابتكارات) رغم براعتها الشديدة لا ترى فيما تفعله أمراً فارقاً،ولا تعير اهتماماً لمشجعيها ،تكره بشدة السؤال الغبي :"من علمك الرقص؟؟ سيليسيا أصرت على الرقص رغم موت نصف البلد بوباء غريب (ولم تذهب لبيوت العزاء الكثيرة ) لم تشارك في الجنازات التي توالت تحمل صناديق بيضاء وسوداء وخرجت من نصف بيوت البلدة ، لبست ثوبها المزركش وخرجت لأطراف الجبل ،عجزت عن الإيتاء بأية حركة تصلب جسمها فجأة وصار مثل لحم مرضوض ،عندما شهدناها في طريق الصعود كانت ساهمة وتشعر بالبرد ، التقطت سيما كمانها وبدأت بالعزف بلا مقدمات (عادة تفعلها كلما رأت سيليسيا ) كانت تضحك سابقاً وتبدأ التمايل بهدوء فقط لتتسع ابتسامة سيما المتكئة على برودة الكمان وخدها محمر قليلاً .ماذا ينقصنا تقول بحماس طفلة (راقصة ورسامة وعازفة كمان) تعزف سيما ويملأ صوت الكمان فراغ الوادي الكبير ، تشاركها أصوات غريبة بانسجام غريب (ضفادع ،صراصير الليل ،خشخشة ورق الشجر، كل كائن كان هناك تحرك،وكل جماد أشع ،وكل ميت عاد للحياة. لا أدري كيف لحقَ بنا لؤلؤ بأعوامه الخمسة الفائرة واللاهثة ،كيف انفلت من رقابة أمه الشديدة ، ووصل لطريق صعودنا:" لم يعاتبنا لتركه، ولم يحفل كثيراً لنظرات الاستهجان والغضب ،كالعادة سدد طفولته في المساء الجبلي واختطف المشهد من سيما وفمه المرتجف قليلاً من الغضب والبرد يكسر الكلام ،وهو يتناوب القبلات بيني وبين سيليسيا، كمان سيما يعزف عالياً سيليسيا تعاودها الرغبة والواني تتضح الذئب برتقالياً والثعلب ازرقاً ، نحلق راقصين في ظلالنا الغارقة بالقمر ،دوران دوران ودوران. تكبر سيما ويكبر لؤلؤ تنفر شعيرات ذقنه ويمحو لؤلؤ كل الألوان من ذهني وهو ينمو بسرعة ويحطم الكمان تسقط سيليسيا أرضاً ،تتكور بجانب الصخرة . ساكنة سيليسيا وظلها يرقصُ وحده في الفراغ ،ينسحب ظلي مني يرسم ذئباً برتقالياً ،يسقط ظل سيما وكمانها أيضا عازفاً بقوة وصاخباً ، الظلال صارت تسير ونحن جامدات كصخر الجبل، الظلال تتلون وتهرب منا الألوان ،ينزُ دم أحمر تشربه الظلال فتصير غامقة جداً ،لؤلؤ يطلق النار على ظلالنا بعشوائية ،لؤلؤ يمسح بعنف عن وجنتيه أثار قبلات قديمة ،لؤلؤ يصرخ أنه لا يرى شيئاً :لقد عميّت،هل عميّت ،من أعماني ؟ يبكي كطفل وساعده الفتي يتحرك بالهواء . يُطلق النار بكل الاتجاهات، تتساقط الأشجار والطيور والصخور تهرب من مكانها، تصمت الضفادع ويسكت جدول الماء الصغير، تعوي كلاب بعيدة، لؤلؤ يصيح لقد عميت لقد عميت ويطلق الرصاص بكل الاتجاهات.
#أمل_جمعة (هاشتاغ)
Amal_Juma#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سِر الغَجرية
-
تلك الأشياء الصغيرة
-
الذي لا يأتي
-
ندم الخميس
-
الطائرة ألقت بكومة رسائلي
-
نص - مملكة اليمامات
-
الخوف
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|