|
أم السباع - سيرة مكان
ثامر سعيد
الحوار المتمدن-العدد: 3347 - 2011 / 4 / 26 - 22:26
المحور:
الادب والفن
تدهور النسق الجمالي لمعالم المكان خلال زمن الحصار في سوق البصرة القديمة فلم يكن بمنأى عن التدهور العام في حياة الناس في مدينة صارت سمتها محو الذاكرة المستمر بتخريب مقصود أمتدّ طويلا ، وفي كون مزدحم بصور المكان وأمزجته كهذه السوق الكبيرة نرى اضمحلال كثير من معالمها عبر تتالي الأزمنة وتراجع المناخات الاقتصادية والسياسية، ولكي نستحضر الصورة الأولى لما تبقى من شواهد كانت قد حصدت نصيبا من الشهرة في هذه السوق علينا أن ندخل بعضها ومنها باب مقهى أم السباع العتيق: لا أدري لماذا العامّة أطلقوا على هذا المقهى صفة التأنيث ! في كل حاضرة من حواضر الدنيا تنتشر العشرات أو ربما المئات من المطاعم والمقاهي بشتى الأصناف والأسماء لكن القليل منها يلقى نصيبا من الشهرة الواسعة والانتشار العريض لسبب أو لآخر ، فقد يلعب هذا المقهى أو ذاك دورا سياسيا أو أدبيا أو فنيا في زمن ما فيكون محط اهتمام الناس ، وهذا المقهى واحد من هذه الأسماء التي ذاع صيته محليا وإقليميا بل تعدى ذلك ، بسبب رواده البارزين من رجالات أدب وفن وسياسة وما احتفظت به جدرانه المتآكلة من أرشيف صور ووثائق من سيرته الحافلة بالأحداث ... سحب أدخنة السجائر تثقل هواء المكان فتلفح وجهك وتدخل أنفك بقوة وأنت تلجه من بابه المطلّ على السوق مباشرة ، الذي انتصبت عند جهته اليسرى بسطة سجائر حتى صارت جزءا منه ، وحين أنتقل الباب إلى جهة المقهى الشرقية بعد أن تحولت الواجهة الزجاجية العريضة المطلة على السوق الى دكاكين جزارة انتقلت البسطة معه أيضا ، قطع الدومينو العاج تطلق إيقاعها التراتبي وهي تطرق بعنف على المناضد الخشب فيشتبك الإيقاع مع جلبة اللاعبين وصخب المذياع بهرمونية متصاعدة . الحاج جعفر حسين (أبو صبيح) يجلس عادة في ركن منه بأعوامه التسعين ليدير عمل الساعيين الثرثارين ويجمع أثمان المشروبات من الزبائن ، بشرة بيضاء محمرّة وقلنسوّة بيضاء تغطي صلعته وما تبقى له من شعر أشيب ، الرجل المولود في عام 1917م الذي باشر عمله في هذا المقهى منذ عام 1968مازال يتمنطق حزاما جلديا سميكا تجاوز عمره عقدين من الزمان على دشداشته البيضاء ويحتفظ بعدد كبير من الرسائل كانت ترد إليه من معجبين زاروا المقهى أو سمعوا به قاصدين معلومات عنه وعن رواده من المشاهير . المقهى هذا ، هو من أقدم مقاهي البصرة أسسه الراحل الحاج ناجي ناصر أبو العِشر في عام 1933 ، صاحب خان كبير لتجارة المحاصيل الزراعية وكان يدير السوق القديمة بسلطة لايعرف من أين قد حصل عليها , ويتقاضى من الباعة ضريبة (العِشر) التي كان يفرضها على بضائعهم ، فسمّيَ بأبي العِشر . كانت حديقة (عز الدين) وما يحيط بها من حانات و مطاعم ملتقى كثير من الباحثين عن الأنس لا يضاهيها في ذلك إلا ساحة (أولكة) التي اختفت كثير من أطلالها القريبة من جامع الكوَّاز ، كانت حديقة عز الدين لوحة جميلة مسيّجة بسياج حديد أنيق تحاذيه من الداخل دائرة شبه مغلقة من أشجار الآس المزينة بمنتهى الروعة ، تطلّ عليها الحانات الشهيرة : حانة بشير وأبي نشوان وفائق عيسى ومطاعم شعبية ربما أشهرها مطعم (أبو شهاب) الذي أشتهر ببيع السمبوسة الحارة الذي تعلم صناعتها من الهنود الوافدين إلى المدينة في تلك الأيام ، وعصير الزبيب الذي يصنعه بطريقة خرافية ، ومقهى أم السباع كان من أجمل الشواهد التي تطل على حديقة عزالدين حيث كان يحرس بوابته تمثالان من الجبس الأبيض لأسدين كبيرين بسببهما سمّيَ بهذا الاسم ، وكانت تحيط بالمكان عيادات أشهر الأطباء في العراق والمنطقة منها عيادة الدكتور كشيشان الذي شهرته تمتد إلى دول الخليج العربي وإيران وهو يعالج حسبما أُخبرتُ به جميع الأمراض البشرية من باطنية وجلدية و أسنان وغيرها ، بعض الفلاحين القادمين إلى عيادته من قرى وقصبات بعيدة لايدفعون مقابل معالجته لهم مبالغ نقدية ، بل يجلبون له الخضار والدجاج والبيض الطازج ومشتقات الحليب ، وعيادة الدكتور الشهير ستاوري الذي كان يغادرها باستمرار متأبطا حقيبته الجلدية الحمراء تاركا طوابير المرضى تنتظر ليعالج بعض أثرياء المدينة ووجهائها ، والدكتور جمال الدين الفحّام وهو طبيب سوري مقيم في العراق . قبل أن تطَّرد العمارة في عزالدين وتأخذ هندستها الملفتة في عصرها الذهبي الذي لم يدم طويلا . جاء في مذكرات المرحوم محمد رؤوف الشيخلي التي نشرها في عام 1941 تحت عنوان (مراحل الحياة في العراق) عن ولاية البصرة التي عاش فيها فترة غير قليلة من الزمن ، عرج على محلة عزالدين ذاكرا فيها مستشفى تسمى (مشفى الغرباء) لأنها تعالج الفقراء والغرباء الذين يأتون إليها من أطراف المدينة وقصباتها البعيدة أو من المدن المتاخمة والبادية الحافة تخومها القصية ، بعضهم يرقد فترات طويلة وحيدا وحين يستعصى علاجه يموت غريبا. كان المكان بحديقته ومقهاه وحاناته ومطاعمه يوتوبيا باذخة يلجأ إليه المتعبون من أبناء المدينة الوادعة أو الوافدين إليه من أماكن أخر ، من يزوره اليوم من زواره القدامى يقرأ ، على ملامحه خراب معاول السنين. إذا جاز لي العودة بالزمان سبعة قرون إلى الوراء ( متخيّلا ) ومؤسسا من بعض الشواهد المرممة عشرات المرّات ، فأني سأتجول حتما بين بيوتات القصب والبردي أو تلك التي شيدت من كتل الفخار العريضة ، حيث لم تكن الشناشيل قد أنشئت بعد ، وأمرّ بالدروب المبلطة بالآجر أو المتربة وببساتين النخيل والترع والجداول الأكبر منها وعلاوي القصب والتمور والخضار ، تصادفني وجوه المئات من البصريين بسحنها المختلفة ، فبين المكان الذي يُعتقد أنه ضريح التابعي علي بن يقطين عند مدخل الشارع الشمالي الذي أطلق عليه اسم الشاعر البصري بشار بن برد قريبا من القطانة وبين ضريح الزاهد محمد أمين الكواز حيث تقبع بين الضريحين المذكورين (مملكة عزالدين) كما أسماها الروائي البصري الراحل كاظم الأحمدي ، وعزالدين هذا هو يوسف عزالدين أحد نقباء البصرة المعروفين بالزهد والتصوّف بن السيد رجب الكبير نقيب البصرة (مرقده اليوم شاخص في منطقة السبيليات في أبي الخصيب) يتصل نسبه بأبي الفواضل علي بن محمد رفاعة الحسن المكي بن أبي رفاعة المهدي حفيد الصالح الأكبر بن أبي موسى (أبو سبحة) بن إبراهيم المرتضى المجاب بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الأمام محمد الباقر بن الإمام السجاد بن الإمام الحسين ، وكان كثير من الأهالي في زمنه يسمونه (أبو حَمرة) وللتسمية هذه قصة حدّثني عنها الشيخ جمال حسن فالح قبل وفاته بعام ، فحواها أن السيد يوسف عزالدين كان يمتلك الكثير من الكرامات التي حباه الله بها لزهده وتصوفه وإيمانه العميق بالله ، وهذه الكرامات لم تكن غريبة أو عجيبة لدى كثير من الزهاد والمتصوفة فمن كراماته أنه كان يسخّن ( صاجا ) من الحديد إلى أن يحمرّ لونه فيحمله بكلتي يديه دون أن يصيبه ضرر ، ويحكم به بين الناس بأن يقدمه إلى الشخص المتهم بتهمة ما ، فان احترقت يده ثبتت التهمة عليه ، وإن لم يصبه ضرر فهو بريء ، فتبرأ ساحته علنا وسط تهليل وتكبير الحاضرين ويرد له اعتباره ، توفي السيد يوسف عزالدين في سنة 750 هجرية ودفن في المكان الذي كان بستانا تزيد مساحته على عشرين دونما تملكه عائلته ويفصله عن بساتين آل باش عيان نهر صغير ، بنيت فوق قبره قبّة من الطابوق المعقود مع بعضه من قبل أهله وكثير من مريديه وطليت من الخارج بالأخضر ، وبعد وفاة نجله السيد حسن الملقب بأبي الفضل دفن إلى جواره فصار مزار كثير من الناس وسميت المنطقة التي يرقدان فيها باسمه (عزالدين ) ، إذا ارتأيت زيارة المرقدين اليوم عليك الولوج من بابه العتيق الساج المثبت بمسامير ضخمة وهوعلى شكل نصف دائرة ثبت في أعلاه لوحة معدنية مكتوب عليها ( آية الكرسي ونصر من الله وفتح قريب وعبارة توكلت على الله ) يفضي بك إلى الفناء المنشأ تحت القبة والمفروش بالسجاد صيفا وشتاءا يتوسطه القبران حيث غطّي كل منهما بقماشة خضراء كتب على التي تغطي قبر السيد يوسف عبارة ( لااله إلا الله الملك المبين ، محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين ) وقد رسم عليها سيف عربي معقوف وهلالان ونجمتان ، وكتب على القماشة التي تغطي قبر ولده حسن أبي الفضل عبارة ( لا اله إلا الله ، محمد رسول الله ) ورسم عليها مثلما رسم على مثيلتها ، فيما انتصبت على الحائط قبالتك لوحة كبيرة تحمل نسب السيد يوسف ، وعلى يسارك يشخص باب صغير من قضبان حديد مغلق بقفل حديد كبير يوحي شكله أنه مصنوع قبل أكثر من سبعين سنة ، إذا فتح فسيأخذك مباشرة إلى داخل التكية الرفاعية التي أسسها في عام 1953 الشيخ أحمد عبد الرحمن القريشي شيخ الطريقة الرفاعية القادرية في البصرة وهي على شكل سقيفة ممتدة على الفضاء المجاور المرقدين وملاصقة سقيفة سوق السمك ، هدمت بسبب مياه الأمطار وبنيت مرة أخرى على شكل قبّة مستطيلة في بداية تسعينات القرن المنصرم . في أيام السيد هاشم النقيب كان الأهالي يستخدمون البستان للبيع والشراء وأصبحت المنطقة المحيطة بالمرقدين مكانا لبيع الحطب مما حدا بالسيد هاشم النقيب إلى بيعه بسبعة عشر دينارا عراقيا فلم يبق سوى الدونم الوحيد الذي يحيط اليوم بالمرقدين والتكية التي كانت تمارس طقوسها من ذكر ودروس صوفية ، بعد أن توفي السيد أحمد عبد الرحمن في سنة 1994 تسلم إدارة التكية والمرقدين بعده الخليفة جمال حسن فالح ثم سلمت إلى السيد جاسم عبد القادر الرفاعي الذي صار نقيب السادة الرفاعية في البصرة ، في بداية ستينات القرن الفائت أغلقت التكية والمقام بسور من الطابوق بسبب انتشار أماكن البغاء حوله ثم أعيد فتحه بعد حين انحسارها وابتعادها عنه بمقدار مايسمح للزوار والمريدين الوصول إليه دون المرور بها . المبغى الذي زرع عنوة في قلب المدينة أزدهر كثيرا في زمن سعدي عياش عريم محافظ البصرة ، بعد مواسم من الزهو وأخرى من الاندثار بعد صدور مرسوم تحريم البغاء ، لكنه بقي يتوق إلى حوانيته وخمّاراته وبدوياته وحضرياته في زمنه الرائق ، واتسع أكثر إبان سني الحرب العراقية الإيرانية ، ولم يغلق حتى صيف عام 2003 ، بيد أنه في زمن الحرب كانت السلطة تستخدمه مصيدة جنود متسربين من جبهات القتال حيث تطلق بأوقات غير معلومة مفارز الانضباط العسكري معززة بعناصر حزبية واستخبارية ، تبدأ المصيدة بغلق المنافذ التي تفضي إليه بعدها يدخل نائب الضابط الطويل بقبعته الحمراء وشاربيه الكثّين متأبطاً خيزرانة التبختر مع مجموعة من عناصره المستأسدين الذين لم يقتربوا من حدود الجبهات اللاهبة في يوم من الأيام ، القوادات الجالسات عند دكّات بيوت البغاء يستقبلنهم بالعبارات ذاتها التي تعودنَ إطلاقها في مثل هكذا أوقات ، لكن نائب الضابط المتبختر كان يطمئنهنّ بأن الصيد لن يطول كل الزبائن وسيترك لهنّ كثيرا منهم ليسترزقنّ بهم ، تنتهي المصيدة بعد أن تملأ سيارة الكاز 66 ذات الخط العريض الأحمر بحفنة جنود متهالكين . في إحدى ظهيرات صيف عام 1984 حدثت معركة كبيرة في المبغى بين مفارز الانضباط العسكري ومجموعة من جنود المغاوير الذين دخلوه بوشاية من أحد المخبرين ، فطوّق المبغى بشكل كثيف لم يسبق له مثيل واقتحم رجال الاستخبارات والانضباط العسكري بيوت اللّذة ، فاشتد الصراخ والعويل وتطايرت الألفاظ الفاحشة في الهواء حتى انتهت المعركة بنقل أعداد من رجال الانضباط ورفاقهم إلى عدد من المشفيات فيما ابتلعت الأزقة والدروب الضيقة رجال المغاوير بهدوء . قبيل مطلع الثلث الأخير من القرن العشرين وخلال سنواته الأولى ، أسس المنزول نظاماً إنسانياً غريباً ، توزعت ملامحه بين الملهاة والمأساة والفوضى ، جنس وحشيش وخمرة ، دعارة فاضحة تقابلها لقطات إنسانية بائسة رسمتها بعض شخوصه المغلوبة التي نزحت إليه تحت القهر الذي لامناص منه إلى هذا العالم الضـّاج خلف باب طويل من أعمدة (القوق) وألواح الصفيح المضلَّعة ، الذي ما كنت تلجه حتى تواجهك ليلى المسترجلة ، بقميصها المرقش بالنجوم والأزهار ، وبنطالها (الكاوبوي) ، وصدرها الذابل ، وكوفيتها التي تعتمرها ليلاً ونهاراً ، وهي تثخن زوايا المكان بعراكها وسبابها المستمرين وتحرشها بكل من يلج المبغى ، ليحسب الجميع حسابهم لها ، وبالتالي يمكنها الحصول على درهم أو درهمين لقاء وصولهم إلى أي لون من ألوان اللحم المباح . أما البغايا الصغيرات أو الأخريات الجديدات ، فليس لهنّ إلاّ أن يطعنها طاعة مطلقة ، لأنها كما هي تدعي ، سيدة المكان ، ولكي تبقى سلطتها تلك عليهنّ قائمة ، عليها أن تختار من يساندها بجبروتها ذاك ، وليس أفضل من (نجية ناجي) المومس القديمة ، لتحمّل المهمة تلك ، فلم تكن مهمة نجية سهلة قط إذ عليها أن تسوح بين الفينة والأخرى بين البيوت المتلاصقة مع بعضها التي تشبه واجهاتها ودكّاتها واجهات ودكّات بيوت رعاة البقر في الأفلام الأميركية القديمة ، تتقصى أخبار الغرف المحتدمة بالزفرات الشبقة والإيحاءات الفاحشة ، تعدّ الداخلين إليها والخارجين منها ، لتعود بعد كلّ جولة من جولاتها بالأخبار التي تجلب المزيد من الدراهم لسيدتها التي تقبع في ركنها الركين قرب باب الصفيح الطويل . ترجرج موقف السلطة إزاء هذا المبغى الذي صار في حقبة من الزمن دالة من دالات المدينة متأتياً من مزاجاتها وهواجسها الأمنية والسياسية ، فبين زرعه في هذا المكان الذي تحفه كثير من دور العبادة ومساكن العائلات المحافظة إلى مراقبته اليومية من خلال فتح مركز شرطة قبالته مباشرة إلى غض النظر عن استفحاله كندبة متقيحة في جبين المدينة في أحايين كثيرة إلى قمعه بأساليب انتقامية بشعة مثلما كان في حادثة ذبح البغايا بسيوف فدائيي صدام في آخر سنة من القرن المنصرم وتركهنّ مرميات في حلوق بعض منافذه أثار دهشة الناس من جنون السلطة مع مواطنيها . لكن بعضهم يعتقد أن هناك قصديّة باطنة من قبل السلطة لبقائه من أجل أن يصطبغ المكان الذي ظهرت في أطرافه حركات دينية ملتزمة ، بصبغة غير أخلاقية ، أو لخلق جو من الفوضى يسمح بخرق تلك النشاطات من خلال المراقبة المزدوجة . يرقد اليوم السيد عزالدين في مكانه الذي أصبح سوقا شعبية كبيرة بين هرج ومرج الباعة والمتبضعين ورائحة الزفر التي تطلقها أطنان الأسماك المتراكمة ، مفردات المكان تنفتح على بعضها بحرّية مطلقة غير مبالية بالفراغ المزدحم حولها ، سوق السمك يذوب شيئا فشيئا في سوق الخضار من خلال تداخل البسطات مع بعضها ، رائحة البهار الحار تضوع من محال العطارين وباعة الطرشي المحلي فتدخل دكاكين البقالين والجزارين دون استئذان ، رائحة الشاي والنومي بصرة تنفتح على المكان أيضا من مقهى أم السباع الصاخب ، الذي رأت سباعه أزمنة متداخلة ومتناقضة فأول من عمل على إدارته هو السيد عبد الوهاب أبو الشوربة الذي أدخل إليه لعبة البليارد ، أبو الشوربة هذا كان عضوا بارزا في حزب الاستقلال الذي كان رئيسه في البصرة السيد محمد أمين الرحماني اتخذ من المقهى قاعدة لنشر أفكاره السياسية والوطنية وكان يدعو دائما إلى تحرير فلسطين بعد أن اغتصبت من قبل الصهاينة . ومثلما كان للمقهى عاداته اليومية التي ألفها رواده الدائميون والطارئون ، هواؤه الرطب برائحة التبغ الكثيفة ، توهج الجمر تحت الأباريق المصطفة كطابور جند ، حركات الزبائن وشرود بعضهم في زواياه القصيّة ، نداءات سعاته وثرثراتهم ، كانت له أسراره وخفاياه ، بعض رواده يزاحمون كراسيه وهم يجتمعون بحذر بالغ ، حركتهم المتسارعة في الدخول والخروج لم يعتد عليها المقهى في أيامه الأخريات ، أحاديثهم الصاخبة تستحيل بغتة إلى همس مستمر أو متقطع ، يحدث هذا قبل أو خلال كل حدث سياسي كبير في المدينة مثل الذي حدث في عام 1953 قبل أيام من إضراب عمال شركة نفط البصرة . بعد أبي الشوربة تسلم إدارة أم السباع السيد كاظم العاني تلاه الحاج حسن هزاع فالسيد خليل السلوم ثم السيد حسين (أبوعلي) حتى الحاج جعفر الذي يحكى أنه كان مخبرا سريّا قبل أن يتولى إدارة المقهى . أم السباع لم يكن المقهى الوحيد في السوق الكبيرة لكنه وخلال أكثر من سبعة عقود من الزمن كان المركز الذي تدور حوله كل أحداثها وتباح في داخله أسرارها ، تسيل من أرائكه ومناضده الخشب الحكايات التي تراكمت مع الأيام والسنين ، أما لو كنت أنت من زائريه لقرأت حالا خصوصيته المهيمنة التي ترسمها ألفة الأشياء على تفاصيله كافة ، كل أريكتين تحتضنان منضدة واحدة كما تحتضن الذراعان شيئا محبوبا بدفء ، الجرائد التي كانت تقرأ تدور بألفة بين الجالسين وهم يستقبلونها بألفة أكبر ، صخب المذياع القديم كان مألوفا أيضا ، حتى حضور التلفاز إلى المكان في منتصف عمره لم يخدش ألفة الأشياء ، نشرات الأخبار ... سلطنة الأغاني القديمة ... مباريات المنتخب العراقي ... نزالات عدنان القيسي ... العلم للجميع وتمطق كامل الدباغ وهو يقرأ آخر الأخبار العلمية ... موسيقى حلاق اشبيليا وهي تعلن عن برنامج مؤيد البدري الشهير الرياضة في أسبوع ، ساعييا المقهى الثرثاران لم يتوقفا أبدا عن معاكسة رواده الدائمين ولم يتوقفا أيضا عن عادة طرق الماعون الصيني بعجيزة استكان الشاي قبل تقديمه إلى الزبائن ، مقهى أم السباع يهدأ في أوقات ويصخب في أخر وهو يستقبل زبائنه المختلفين ، ففي ساعات الصباح الباكرة يرتاده على عجل عمال المسطر القريب من مركز الشرطة الذين يعودون إليه تارة أخرى حين لم يقتنصوا فرصة عمل ليقضموا نصف يومهم ذاك في لعب الدومينو وإدخان السجائر بنهم مع استكانات الشاي التي يتكبد أثمانها الخاسر منهم في اللعب ، ويرتاده أيضا عناصر شرطة المركز والمخبرون السرّيون الذين يعرفهم الجميع والتجار الصغار ، أما في الضحى فيرتاده حفنة من المتقاعدين وبعض المتبضعين وآخرون ، وفي أوقات الظهيرة يركن إليه المتسولون وبعض أصحاب الدكاكين وسائقو سيارات الأجرة والسمّاكون ، وهؤلاء ينتظرون دبيب السوق تارة ثانية بعد سكون الظهيرة حيث ترتدي ضجيجها وزحامها من جديد ، وفي المساء حتى ساعات الليل يرتاده زبائنه الدائميون وهم من صنوف شتى . السيد هانئ علي العمران رجل في بداية عقده السادس وهو من قدامى رواد أم السباع أخبرني مرة : ( كان المقهى منتدى أدبيا وفنيا يتشكل تماشيا مع الموسم الذي فيه شتويا أم صيفيا حيث تشرع واجهاته صيفا وتغلق شتاءا ، أدخلت إليه الأرجيلة ولعبة الدومينو وكانت أصوات أم كلثوم وحضيري أبي عزيز ومحمد عبد الوهاب وزهور حسين تصدح فيه على مدار اليوم من الاسطوانات القديمة وكان ملتقى الحركات الرياضية في المدينة . حين زار الملك غازي البصرة استقبلناه صغارا عند واجهة المقهى حيث فرشت الطريق حتى بيت السيد عبد القادر آل باش عيان عضو مجلس النواب يومذاك التي يزيد طولها على مائتي مترا بأثمن أنواع السجاد الفارسي ، ترجل الملك الشاب من سيارته الفارهة عند ساحة عزالدين برشاقته وأناقته المعهودتين وشق طريقه إلى بيت آل باش عيان الذي كان يضم أضخم مكتبة في المدينة وكان يحيي المتجمهرين بيده وابتسامته العريضة الناصعة وهو يلج الزقاق الذي تظلله شرفات الشناشيل المزينة بفسيفسائها الساحرة ) . من يتذكر الأغنية العراقية الشهيرة ( الأفندي ) تسحبه الذاكرة فوراً إلى مقهى أم السباع ، هذه الأغنية التي غنّتها المطربة الحلبية ( حياة ) سنة 1912 م في ملهى ( أولكة ) في البصرة القديمة ، ثم غنّتها صديقة الملاية التي كان أسمها الحقيقي (فرجة بنت عباس) على أسطوانة ( بيضافون ) في منتصف العشرينات من القرن المنصرم ، ثم غنّاها عبد الله أفندي وسجلها على أسطوانة حاكي ( كرام فون ) سنة 1928 م . ونقلا ًعن المؤرخ البصري الأستاذ حامد البازي الذي يروي قصة صبري أفندي والأغنية الموسومة باسمه إذ يقول : ( كانت هناك مغنية حلبية أسمها حياة ، وكان والي البصرة – الدروبي – قد أحبها حباً جمّاً ، لكنها لم تأبه لحبه فلذلك أراد الانتقام منها ، فساق ولدها الى الخدمة العسكرية ولم يكن قد بلغ السن القانونية ، وكان صبري أفندي بحكم وظيفته المالية عضواً في لجنة السوق العسكرية ، فقد استاء من فعل الوالي فرفض قرار السوق مما أدى إلى أزمة بين الوالي وصبري أفندي انتهت بأن دفع صبري البدل النقدي عن ابن المغنية كحل وسط ، إذ ساء أن يرى الوالي ينزل إلى درجة الانتقام من المغنية بالخروج على القانون ... وعلى أثر هذا الحادث نظمت المطربة حياة الأغنية بنفسها واعتقدت أن صبري أفندي يحبها فحاولت التحرش به ، ولما رفض ذلك أشارت عليه أن يعاشرها سرّاً لكنه رفض ذلك ، وقد غنت حياة الأغنية في حديقة في المكان الذي تقام عليه اليوم بناية محاكم البصرة في محلة الساعي ، ثم عاد في موضع آخر وقال في ملهى أولكة ) . وفي مكان آخر قرأت نقلاً عن الباحث فخري حميد القصاب قصة أخرى عن الأفندي والأغنية حيث قال بلمحات فلكلورية عن بعض الشخصيات التراثية كشخصية صبري أفندي: ( إن قصة الأغنية كانت العامل الأكثر أهمية في شهرة صبري أفندي وذيوع صيته فأسرته تؤكد أن المغنية الشعبية – حسنية – هي التي خلدت ذكراه في أغنية الأفندي بعدما مدّ لولدها يد المساعدة نافحاً إياه مبلغا نقديا بدل إعفائه من الخدمة العسكرية إبّان العهد العثماني ، واعترافاً منها بهذا الجميل غنّت له هذه الأغنية ثم تناقلتها المطربات الأخريات المتواجدات في الساحة الغنائية منهنّ صديقة الملاية التي سجلتها بصوتها في دار الإذاعة) . وأنا أرجح رواية البازي على رواية القصاب لأنها أكثر حضوراً لي خلال بحثي القرائي والشفاهي عن الموضوع . صبري أفندي هو صبري بن محمد بن سلمان بن درويش البصري ، الشخصية البصرية المعروفة المولود في العام 1872 ، اختلف في ولادته المؤرخون والناقلون ، فقد ذكر المرحوم عبد الحميد الكنيسن أن صبري أفندي ولد في بغداد ( محلة القراغول ) وتوفي في البصرة ، من أب بصري وأم بغدادية ، فيما ذهب الأستاذ البازي إلى أنه من مواليد البصرة وتوفي فيها في العام 1962 وقد بلغ التسعين ، أما وفاته فقد أكدها الكنيسن قائلاً : ( توفي الأفندي في البصرة ، وقد أكدت عائلته أنه توفي في العام 1963 في داره في محلة التحسينية قرب بناية المحكمة المقابلة محلة السيمر إثر شلل الأمعاء والقناة الهضمية ، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير ) ، كان الراحل صبري من رواد مقهى أم السباع الدائمين ، حول شخصيته وأغنية الملاية نسجتْ كثير من الحكايات المختلفة ، في ذلك الزمن الصاخب بلا حدود ، فيحكى أنه واكب أحداثاً كثيرة مرّت بالبصرة منها عهد الفوضى أو ما يسمى بعهد ( الهيونطة ) ، كما واكب عهد الوالي حسين فخري المسمى (أبو الكواني) إذ كان يقيد اللصوص ويضعهم في أكياس المؤونة (الكواني) ويرميهم في نهر العشار حتى يهلكوا ، كان ذلك في حوالي سنة 1904 الميلادية . ومما وصلني أيضاً عن صبري أفندي رائد أم السباع الأشهر أنه اشترك في حزب الإتحاد والترقي ، وفي طفولته نشأ نشأة دينية وحفظ القرآن في الكتاتيب ، ثم تلقى علومه في المدرسة الرشدية في البصرة ، وهي الوحيدة التي يومذاك ، تعادل المدرسة المتوسطة ، غير أنها كانت تقبل التلاميذ الذين تعلموا في الكتاتيب ، تخرج فيها وعمره أربعة عشر عاماً ، وكان من أذكى التلاميذ ، وفي سن الخامسة عشر عين في ( السنية ) بوظيفة ( رفيق ثالث ) في شعبة المحاسبة بمرتب شهري قدره مائتا قرش – والحديث للقصاب أيضا – وبعد ثلاث سنوات أصبح مدير مال لواء البصرة ، وزيد مرتبه إلى أربع ليرات ، ولم تمض سنتان حتى ترقى إلى وظيفة (صندوق أميني) ، أي أمين صندوق البصرة ، فأصبح مرتبه تسع ليرات لذكائه ونشاطه في العمل ، ثم عين بوظيفة ( قضاء كاتبي ) ، أي كاتب القضاء ، بعدها عين بوظيفة ( مدير سنية ) في العمارة ، وأعيد مرة أخرى إلى مدينته البصرة بوظيفة ( كاتب مصارف محاسبة لواء البصرة ) إلا أن لقب ( صندوق أمين ) ظل ملازماً له حتى وظيفته الأخيرة . لقد ذاع صيت الأغنية واسعاً في تلك الأيام مثلما ذاع صيت المقهى الذي كان يرتاده الأفندي صبري ، لقد شاهدت صورة صبري أفندي ضمن مجموعة من الصور التراثية في أحد البيوت التراثية في محلة نظران في البصرة القديمة الذي أصبح فيما بعد مقراً لإتحاد أدباء البصرة .. رجلاً في نهاية الأربعينات من العمر ببذلة بيضاء وطربوش غامق وشارب كثّ واقفاً يضع يده اليمنى على كتف كرسي جلدي ربما كان أسود فالصورة قديمة (باللونين الأبيض والأسود) ، متجهماً أمام الكاميرا كأنه في خصومة مع المصور ، لم يكن وسيماً إلى الحد الذي تكتب بوسامته مثل تلك الأغنيات التي تحمل كل هذا الفيض الطافح من العاطفة وكل الغزل المتشظي من كلماتها الرقيقة العذبة ، ولم يكن بأناقة عبد الله صائب بك نائب البصرة الذي قتله الأتراك ، وأناقة عمر فوزي بك رئيس حزب الإتحاد والترقي في البصرة ولا يوسف عابد ، التاجر اليهودي ذائع الصيت ، وأناقة ياسين المير أو عبد الرضا الجبيلي صاحب جريدة الثمرات ، الذين علقت صورهم إلى جانب صورته في البيت المذكور ، وقد ظلّ أفندياً ولم يحصل على درجة ( بك ) مثل هؤلاء أو غيرهم حتى خروجه من الوظيفة . لقد ارتبطت أغنية الأفندي بالمقهى ارتباطاً كبيراً بسبب ارتباط صبري أفندي بالمقهى ذاته . البصرة في أيام زهوها كانت واحة جاذبة كثير من الخليجيين خاصة أولئك الذين من أصول بصرية يقصدونها للترويح أو للتبضع وساحة عزالدين حالها حال الغابات في أبي الخصيب وبراري الأثل في ساحة باريس والبرجسية والنجمي كانت مزار عطاشى الأنس ورفقائهم ونداماهم ليغرفوا من الزمن ساعات أثيرة ، البراري تلك قبل أن تفقد عذريتها خلال السنين التالية تسحب إليها الكثير من صيّادي الغزلان والأرانب والباحثين عن الكمأ أيام الربيع من شتى البقاع ، فمن يقصد عزالدين منهم لابد له أن يقصد أم السباع بعد أن يسوح في مطاعمها وحاناتها الكثيرة ، عوض دوخي وعبد اللطيف الكويتي المطربان الكويتيان الشهيران كانا من أبرز رواد المقهى العتيد في نهاية كل أسبوع تقريبا ، قال لي الحاج جعفر مرة أنه يوم كان مخبرا سريّا فوجئ ذات مساء بالفنان عوض دوخي موقوفا في مركز شرطة البصرة بعد أن أوغل في الشرب تشاجر مع أحد رواد المقهى قبل أن يطلق بعد ساعات بكفالة أحد الوجهاء . شعراء وكتّاب وسياسيون وفنانون ومؤرخون شاركوا في رحلة أم السباع الطويلة في بحار الزمن ، الكاتب الدكتور الراحل عبد الوهاب لطفي ، السيد جعفر البدر رئيس فرع الحزب الوطني الديمقراطي في البصرة ، قيادات حزب الاستقلال في البصرة ، المؤرخ المعروف حامد البازي ، الشاعر عبد الخالق محمود ، عازف العود الشهير منشد ، محمد بهلوان ، المصارع المعروف الذي كان يتباهى دائماً بفوزه على أحد المصارعين الأتراك ، وكثير من رياضيي البصرة المعروفين ، ومن رواده المعروفين أيضا السيد عمر عطا عبدالهادي أمين سر اتحاد عمال فلسطين في البصرة في مطلع سبعينات القرن الفائت وهو مقيم في المدينة منذ عام 1948 حدّثني عن ذكرياته في المقهى قائلا : (منذ أن كنّا شبابا ويافعين نلتقي أنا ومجموعة من الفلسطينيين منهم قريبي المسرحي الفلسطيني المعروف عبد الرحمن عبد القادر وكان يستهوينا الأدب ويستبد بنا بشكل كبير إضافة إلى اهتماماتنا السياسية ،فنقيم مطاردات شعرية بيننا يشاركنا بها بعض الأخوة العراقيين تستمر ليوم تقريبا وجلسات حوارية كثيرة تسوح بين التشكيل والمسرح والفن والأدب ونستعرض ونشرّح كل ما نقرأ تحت هذا السقف العتيق ، كان كثير من السياسيين يرتادون هذا المكان فمازلت أحتفظ بكثير من المنشورات التي وزعت وبعض فتاوى السيد محسن الحكيم التي أصدرها إبان حكم عبد الكريم قاسم ) . لمقهى أم السباع عالمه السفلي كذلك الذي رسمته كائناته الظلَّية التي مازالت تتثاقل في الخروج من رؤوس بعض زبائنه القدامى الذين لم يجرؤا على البوح بما سطرته في دفتر أيامه لاعتقادهم بأن ما اقترفته لايليق به أن يقال ، لكنك حين تحفر عميقا في داخله البعيد تستطيع أن تستنتج أن هناك خيوطا تمتد بين أم السباع وما يحفّه من أماكن سيما السوق والمبغى ، كائنات عالمه السفلي أناس طبيعيون حين تراهم لأول وهلة ، يجلسون كالآخرين ويتحاورون حوارات مألوفة مع بعضهم أو مع الآخرين في حضورك حين تكون غريبا عن المكان ، ربما يطلب أحدهم منك عود كبريت أو يسألك عن الوقت بأسلوب جد مهذب ، وهم يشكلون نسبة جد ضئيلة من رواده الكثار لكنك ستكتشف حتما طبيعتهم إذا تكررت زيارتك إلى المقهى ، لهم القدرة على اكتشاف فرائسهم بأسلوب عجيب فيصطادونهم بتؤدة وحذر ، قوادون ومثليون ومقامرون ، كل صنف يتفنن بالوصول إلى ضالته التي عرف بالفراسة غاياتها من خلال حركة أو سؤال أو نظرة فهم ( أسطوات ) مثلما قيل لي في عملهم ذاك ، أسماء مجانين ومتسولين ونشالين حفظتها ذاكرة المقهى خلال عقوده الثمانية الماضية ، نفقوا أوقاتا غير قصيرة من حيواتهم فيه ورسموا بهيئاتهم الملفتة للنظر أجزاء من ديكوراته المتكررة . أشهر مربي الحمام في المدينة الصاخبة أحتضنهم هذا المكان الطاعن بالتناقضات الكثيرة الذي بدأ منذ سنين يفقد كثيراً من أنفاسه القديمة ، حواراتهم الطويلة ما زالت مسجلة في ذاكرة الأرائك والمناضد والجدران والزوايا التي عششت فيها الأدخنة والأنفاس المتعبة ، مثلما عششت فيها كثير من أحلامهم الضائعة . طالما كانوا يتحدثون بتباهٍ عن حمائمهم التي يطلقونها من أماكن بعيدة في المدينة أو من مدن مجاورة ، وعودة تلك الحمائم إلى أكنانها بسلام قبل أن يعودوا هم من تلك الأقاصي ، يتحدثون عن ولع بعض الخليجيين الكبير بأنواع فريدة من تلك الحمائم ، فيقصدون أم السباع للتفاوض مع بعض المربين المعروفين لشرائها بأيّ ثمن . أخبرني أحدهم أنه باع حمامة الزاجل إلى أحد الكويتيين بستين ديناراً في عام 1970 ، وكان هذا المبلغ يومها كافياً لإنفاق عائلة كبيرة بمستوى جيد لشهر كامل ، وبعد أربعة أيام عادت الزاجل إليه بعد أن أطلقها مشتروها في سماء مدينة الجهراء الكويتية أمام أنظار جمهرة من المولعين باقتناء الطيور الفريدة . يشكل فضاء ما تحت الأرائك حيزا لا يستهان به من عالم المقهى السفلي ، صرر مخفيّات تستفز فضولك لمعرفة مايكمن في دواخلها ، سلال وأكياس هي الأخرى تسحب فضولك بقوة إلى مايستقر في بطونها على الرغم من أن بعضها يفصح بوضوح عمّا في داخله ، صحف وكتب وكراريس يحظر تداولها في تلك الأزمنة ، قناني عرق ملفوفة بأكياس أو جرائد لكنها تدلّ على نفسها من طريقة لفّها . كل هذه في الأعم لا تتعدى أن تكون محض ودائع مؤقتة تتكرر في كل يوم . أما معلقات الجدران المختلفة فقد كانت تشكل سيرة ذاتية طويلة لمفردات مدهشة من حياة المدينة المكتظة في داخل المقهى وخارجه وهو ما نطق به ، مثلما أسلفت ، أرشيف الصور والوثائق ذاك. لن أعيد المرور بتلك اللقطات الصامتة الحاكية إلاّ لنقل دهشة العابرين بها حينما كانوا يسرحون مع رشفات الشاي وأنفاس الدخان الثقيلة في تفاصيلها طويلاً . أهم تلك المعلقات اللوحة التي نفذها أحد الرسامين الانجليز وقامت شركة طباعة بريطانية مشهورة بطبعها وتوزيعها في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين ، إنها لوحة (بنت المعيدي) التي عشقها البصريون كثيراً فراحوا يعلقونها في منازلهم لصق صورة الملك الهاشمي الأنيق : نظرة حزن ملائكي تصوبها عينان طفلتان ، وجه مستدير أبيض مشبع بحمرة باهتة ، شعر مثل ليل طويل متوج بفراشة من الفضة ، شفتان لاصفتان برضابهما المثير ، عقد لؤلؤي وثوب أنيق برسوم نباتية . حشود من الحكايات نسجها من نسجها حول تلك الفاتنة المخلوقة من رحيق الجنَّة وتاهوا بها بين الحقيقة والخيال ، بعضهم قال إنها عربية من مدينة العمارة وآخرون أكدوا إنها تركمانية من الحي القديم النابت في قلعة أربيل التاريخية ولا تنتسب إلى المعدان ، أحبها ضابط إنجليزي وتزوجها بعد أن اعتنق الإسلام وعاشت معه ما بقي لها من عمر في مدينة لندن ، وبعد أن اشتدّ الشوق بأهلها لها كلف زوجها أحد رسامي بلده الموهوبين برسم صورتها لإرسالها إليهم ، لكن إعجاب ذلك الرسام بلوحته حمله إلى دفعها إلى دار الطباعة التي جنت أموالاً طائلة من طبعها . ثمة معلقات أخرى حملت صور بعض الرياضيين البصريين حجزت مساحات صغيرة على جدران المقهى المتخمة بالضجيج والدخان التي راحت تضيق في كل مرة من المرّات الثلاث التي اختصرت بها مساحة المقهى فكانت في متناول دهشة وإعجاب الناس المتوزعين على أرائكه الصلبة الأليفة ، تشاركها بعض المقالات الصحفية التي كتبت عن أم السباع في بعض الصحف العراقية والعربية التي قُصّت وأطرت بأطر خشبية منقوشة بزخرفات نباتية احتضنت لوحات من زجاج للحفاظ على تلك القصاصات الوثائقية من الدّخنة والأيام . صورة أخرى صغيرة بلا ألوان قـُصّت هي الأخرى من إحدى الصحف العتيقة وأطرت أيضا بالكيفية ذاتها ، بلهفة وحنين كانت تغسلها أنظار الداخلين إلى المقهى أو الجالسين على أرائكه الخشب ، وسط زحمة الأصوات المتداخلة بعنف ، أو في سكون الظهيرات التي لا يخرقها سوى صوت المذياع الوحيد ... جسر الهنود بشكله القديم ، ثاني جسور نهر العشّار من جهة الشرق يزدحم بالعابرين في إحدى صباحات المدينة المشرقة أبداً يأخذك إلى مدخل سوق الهنود . عند المدخل الأيسر للسوق القديم تنتصب بناية البنك العربي بطبقتين تطلان على النهر الرائق بعدد من الأقواس والنوافذ الممتدة إلى السقوف وتملأ نصف الصورة البعيد ، أقواس من الطابوق ومن الخشب . على أحد عمودي القوس الرئيس الشاخص قبالة الجسر مباشرة يرتفع برج مستطيل من الطابوق الأبيض خلال الطبقة الثانية من المبنى ويستمر بالإرتقاء في الهواء بطول طبقة أخرى ، ينتهي البرج بقمة مربعة محاطة بسياج خشبي ينبجس من وسطها برج صغير ينتهي بأربعة أعمدة من الخشب ، تحت القمة المستندة على زخرفة حجرية جميلة وضعت ساعة سورين لتطلّ بوجوهها الأربعة على المكان المشتعل بالباعة والمتبضعين ، تحفظ سيماء العشّاق وكسالى السوق الأبديين ، ومثل طفلة مدللة تطبق في سمت الهجير ذراعيها ، تحلم بقيلولة لا تجيء ، تشرب رائحة الفستق مشوياً عند الجسر ، ومن معطف الماء مشدوهاً ينبجس العشب ، يقتفي وجيبها المنساب في القلوب والنوافذ . كل وجه من وجوه الساعة ثبـّت في جدار من جدران البرج المستطيل . بقيت الصورة معلقة في مكانها في المقهى بأمان حتى اختصار المقهى الأخير في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، بيد أن ساعة سورين ولأسباب لا يعرفها أحد ، يسقطها في العام 1965 محمد الحياني محافظ البصرة ، قبل أيام من سقوطه مع رئيس الجمهورية عبد السلام عارف من طائرة في منطقة النشوة . وبين موت مثقوب وحياة مثقوبة مازال مقهى أم السباع متشبثا بمكانه القديم كشاهد على السنين الطويلة بعد أن قُضمت أطرافه وشوهت ملامحه وأزيل عن مدخله الأسدان الكبيران اللذان منحا المكان سنينا ، هيبة وجمالا ، وغادره إلى الأبد فرسانه الأوائل وهو يجالد اليوم ، حضورا مهددا بالزوال .
#ثامر_سعيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الالحاد و الأخلاق
-
اكتئاب
-
فلسطين .... ليست عربية!!
-
لماذا تسود الطحالب
-
الأوغام
-
الرسوم و الأفلام: اساءة أدب أم توضيح بأدب؟؟
-
آلهة بلا رصيد
-
الحرية النقية
-
الاحترام المفقود:لماذا لا تحترم من هو مثلي الجنس؟؟!
-
بلاد الشر...ق
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|