حسني إبراهيم عبد العظيم
الحوار المتمدن-العدد: 3348 - 2011 / 4 / 27 - 01:30
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ستينيات القرن العشرين وتبلور ملامح علم اجتماع الجسد:
مع بدايات الستينات من القرن الماضي بدأت ملامح علم اجتماع الجسد في التبلور، وذلك من خلال مجموعة من الدراسات استخدمت الجسد كأداة كشف وتحليل، تتعامل معه كنافذة ينظر من خلالها للمؤسسات والبنى والعلاقات الاجتماعية، وتُقرأ المخيالات والتمثلات الجماعية، وبالتالي وجود اتجاه واضح لتدشين سوسيولوجيا الجسد كأحد فروع علم الاجتماع. (زينب المعادي 2004: 23)
من أهم دراسات هذه المرحلة، أعمال «إرفنج جوفمان» (1922- 1982)، و«ماري دوجلاس» (1921- 2007)، التي شغلت حقبة الستينات، (وأيضاً أعمال ميرلو-بونتي التي ترجمت في تلك الفترة) ثم إسهامات «ميشيل فوكو» التي امتدت حتى منتصف الثمانينات تقريباً (توفي فوكو في يونيو 1984)، و«بيير بورديو» التي امتدت حتى بداية القرن الحادي والعشرين (رحل بورديو عن عالمنا في يناير 2002).
يرى «تيرنر» (1992: 44) أن جوفمان Goffman يعد واحداً من رواد سوسيولوجيا الجسد، فهو أحد القلائل في نطاق علم الاجتماع الذي أخذ مسألة الطبيعة الاجتماعية للجسد مأخذ الجد في وقت مبكر. فمن خلال دراسته حول عرض الذات في الحياة اليومية The presentation of self in everyday life 1962 طرح فكرة أن الحياة الاجتماعية تعرض –جزئياً على الأقل- من خلال الجسد، فعلى سبيل المثال، إن الإحساس بالارتباك يرتبط دائماً بالتغير في لون الوجه، وبمعنى أوسع، إن فكرتنا الاجتماعية حول اليسر أو الراحة يتم التعبير عنها من خلال إيماءات جسدية متنوعة يمكن قراءتها كشكل من اللغة.
وقدمت «ماري دوجلاس» M.Douglas فهماً مفصلياً مهماً لقضية الجسد «كنسق رمزي» وذلك من خلال كتابيها «الطهارة والخطر» عام 1966 Purity and danger والرموز الطبيعية Natural symbols عام 1973، ترى «دوجلاس» أن الجسد هو تمثيل مجازي Metaphor للمجتمع ككل، ويعني ذلك تبعاً أن المرض في الجسد يناظر رمزياً الاضطراب في المجتمع، واتزان الجسد واستقراره مؤشر على التنظيم الاجتماعي وسلامة العلاقات الاجتماعية، إن انشغالنا بالمخاطرة واللايقين في العلاقات الاجتماعية يمكن أن يفهم من خلال نظريات النظام الجسدي. إن مفاهيم الطهارة والنظام، النجاسة، والقداسة لا توجد في جوهر الظواهر أو الممارسات، وإنما في علاقتها بإدراكنا لواقعنا الاجتماعي. إن الأمر «الدنس» إذاً هو اضطراب أو خلل في العلاقات التصنيفية. والواقع أن أفكار «دوجلاس» لم تكن مؤثرة فقط في الأنثروبولوجيا، وإنما أيضاً كانت مؤثرة في علم الاجتماع، حيث تم تبنيها وتطويرها بطرق مختلفة. (Turner 1992: 44)
ويعد «ميشيل فوكو» بحق المنظر الأهم للجسد في القرن العشرين، حيث كشف «فوكو» من خلال رؤاه ما بعد البنيوية الحضور الشامل للسلطة داخل الصياغات الخطابية Discursive formations المتعلقة بالجسد، إن أهمية الجسد لدى فوكو تصل لدرجة أنه يصف أعماله الفكرية بأنها تشكل «تاريخ أجساد» a History of bodies وترصد الطريقة التي يتم من خلالها استثمار الأجساد مادياً وحيوياً. (Shilling 2001: 445)
لقد كان «فوكو» منشغلاً بفهم كيفية دخول الجسد إلى الخطاب السياسي كتمثيل للسلطة، وكيف تُمارس السلطة على الجسد، في المؤسسات المختلفة كالمدرسة والسجن والمصنع والمستشفى، بحيث يتحول الجسد إلى كائن منضبط Regulated (Turner 2006: 42)
إن القضية المحورية التي ينطلق منها «فوكو» هي رصد عملية تطبيع الجسد Normalization of the body ورصد المؤسسات التي تنتج وتفصل المعرفة العلمية المتعلقة بتطويع الجسد، بالإضافة إلى اهتمامه بدراسة كيف يتم تمثيل الجسد في الممارسات المختلفة بضبط وإدارة الكيان الإنساني. (Turner 1992: 52- 53)
والحقيقة أن «فوكو» قد تأثر بداهة برؤى «نيتشه» حول الجسد، كما أن «فينومينولوجيا الجسد» التي فصلها «ميرلو-بونتي» بعد الحرب العالمية الثانية كانت ماثلة في ذهنه أيضاً. (دريفوس ورابينوف 103)
لقد كان «فوكو» منشغلاً على مدار تحليلاته بالكشف عما يكبل الجسد، ويقيده، لأن ذلك في رأيه تكبيل للعقل، ففك أغلال الجسد من آليات التوجيه والنفي والترويض هو إطلاق سراح العقول من سراديب الحجر والزيف والإثارة والحاجيات المزيفة. (حسن المصدق 2007)
ففي أعماله المبكرة، كان «فوكو» يدرس كيف يمكن للجسد أن يظهر في ممارسات مختلفة تساهم في ضبطه وإدارته، ففي ولادة العيادة كان مشغولاً بفهم كيف تنتج المعرفة والممارسة الطبيعة الجسد، وكيف تطوعه داخل شبكة المؤسسات المستقرة للسلطة الطبية، وفي دراسته عن مولد السجن حلل نمو الجسد المنضبط والوديع كنتيجة للممارسات العقابية التي اقترنت بالنظرية النفعية للألم، وفي دراسته عن تاريخ الجنس كشف عن أن بروز خطاب الجنس في القرن التاسع عشر اظهر الجنس كموضوع أو قضية مهمة، وكشف عن أن الجنس قد أضحى مادة للصراع السياسي تمارس من خلال معرفة طبية محددة. (Turner 1992: 53)
أما بورديو فقد أسهم إسـهاماً فعالاً في ظهور علم اجتماع الجسد ، وذلك في سـياق تحليلاته للمفاهيم الجديـدة التي قدمها لعلم الاجتماع مثل الممارسة Practice والهابيتوس Habitus والأشـكال المختلفة لرأس المال(كرأس المال الرمزي والاجتماعي والثقافي) ، وعلاقة كل ذلك بالسلطة الرمزية للجسد .(Turner 1992:23).
يرصد برديو ما يسميه البناء الاجتماعي للجسد ، حيث يعتبر أن الجسد يخضع لعملية تشكيل أو نحت اجتماعي من خلال استيعابه لعادات المجتمع وقيمه، ويصبح ذلك الاستيعاب وكأنه نظام تعليمي ضمني implicit pedagogy قادر على غرس تصور كامل عن الكون: تصورات فلسفية وأخلاقية وميتافيزيقية من خلال أوامر بسيطة، مثل "قف مستقيماً" أو "لا تمسك سكينك بيدك اليسرى"(Manen 2007:18).
إن التشكيل الاجتماعي للجسد _ حسب تعبير بورديو _ يجعل أشكال استخدام الجسد وسيلة من وسائل التعبير عن بنيات وعلاقات اجتماعية، ومرآة للتقابلات الاجتماعية ، سواء تعلق الأمر بالفوارق بين الطبقات الاجتماعية أو الفئات العمرية أو التمايزات النوعية ، وفي نفس الوقت تدعيمها وتطبيعها، أي إظهارها بمظهر التقابلات أو الفروق التي تحتمها طبيعة الأشياء.(زينب المعادي 27:2004 )
والحقيقة أن تراكم كل الجهود العلمية السابقة قد أفضى إلى تنامي مقدار الاهتمام السوسيولوجي بالجسد، حيث برز علم اجتماع الجسد Sociology of The body بوصفه مجالاً متميزاً للدراسة، وصدرت في عام 1995 دورية علمية جديدة في انجلترا بعنوان «الجسد والمجتمع» Body and Society وتشغل دراسات الجسد مكاناً مهماً في علم الاجتماع وفي غيره من العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن. (Shilling 2005: 761)
والأكثر من ذلك أن «براين تيرنر» B.S. Turner وهو أحد أهم منظري الجسد قد أقترح أن يوظف الجسد باعتباره مبدأ منظماً لعلم الاجتماع، وفي ضوء ذلك الهدف صاغ «تيرنر» مصطلحاً سوسيولوجياً جديداً وهو «المجتمع الجسدي» The somatic society ليوضح أهمية الجسد الاجتماعية والسياسية في النظم الاجتماعية المعاصرة (Turner 1992: 1-13) ويؤكد تيرنر في موضع آخر (Turner 1997: 103) أنه على الرغم من أن علم اجتماع الجسد قد برز باعتباره واحداً من أهم النظم الفكرية المعاصرة في إطار العلوم الاجتماعية، إلا أنه ما يزال في حاجة إلى برنامج أو «أجندة» بحثية متكاملة.
وقد بدأت ملامح ذلك العلم الوليد في التبلور، فجذب إليه الكثير من الباحثين، الذين حاولوا تحديد أهم المفاهيم والقضايا والإشكاليات التي يهتم بها، وحاولوا كذلك تأصيل الأطر النظرية والمنهجية له.
المراجع:
1– أوبيير دريفوس وبول رابينوف (د.ت)ميشــــــيل فوكو: مسـيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح،مركز الإنماء العربي ، بيروت .
2– جواد الزيدي (2005) فعل الجسد : من سجن الروح إلى نظرية الاتصال ،جريدة الاتحاد ، أبو ظبي، 14 – 6 – 2005. .
3 - حسن المصدق (2007) البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة ، جريدة العرب الدولية ، لندن ،26 – 7 – 2007. .
4 – ديفيد لوبروتون (1997) انثروبولوجيا الجســــد والحداثة ، ترجمة محمد عرب صاصيلا،ا لمؤسســة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،بيروت
5- – زينب المعادي (2004) الجســـــــد الأنثوي وحلم التنمية : قراءة في التصـورات عن الجســـــد بمنطقة الشاوية ، غير مبين دار النشر.
6 - فردريك نيتشه (د.ت) هكذا تكلم زرادشـــــت ، ترجمــــة فليكس فارس ،دار القلم ،بيروت
7 - Ferguson ,H. (1997)Me and my shadows :on the accumulation of body – image in western society ,Part2,the corporeal forms of
modernity ,Body & society , Vol.3 , No.4.
8 - Hughes ,B. (1996) Nietzsche : philosophizing with the body , Body & society , Vol.2 ,No. 3.
9 -Kelly , M. & Field , D. (1996) Medical sociology , chronic illness and the body , Sociology of health and medicine, Vol.18 , No.2.
10 -Loenhoff, J. (1997) The negation of the body : A problem of communication theory ,Body & Society , Vol.3 , No.2.
11 Lyon , M. (1997) The material body , Social process and emotion : Techniques of the body revisited , Body & Society , Vol.3 , No.1.
12 - Shilling, K. (2005) The rise of the body and the development of sociology, Sociology, Vol.39, No.4.
13 – Turnball , N. (2005) Crossing Nietzsche, Theory, Culture & Society,Vol.22,No.3.
14 - Turner, B.(1992) Regulating bodies :Essays in medical sociology, Routledge, London and New York.
15 - Turner, B.(ed.)(2006) The Cambridge dictionary of sociology ,Cambridge university press
#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟